|
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3874 - 2012 / 10 / 8 - 01:37
المحور:
الادب والفن
و عندما حصل فرانك على أخ صغير – سنجاب بعينين كستنائيتين في المهد – استقبل الأب الوضع الجديد مثلما يفعل الرجال ، و رمى عصا اليأس . و صار يرعى ولديه الإثنين بالسوية ، و إن بقي البكر فرانك أثيره العزيز ، في حين كان نصيب الثاني "آبيل" التجاهل معظم الوقت . أما الأم ، فقد كانت هي الأخرى تؤثر فرانك ، ربما لأنه الصبي الأوسم . و كلما ضاقت عليه ملابسه ، انتقلت إلى آبيل ، الذي بقي يتجول بسراويل مهلهلة سنة بعد أخرى . و لم يزعجه هذا الوضع قط ، خصوصاً بعدما ألِفَ العثور في جيوبها على بعض المقتنيات التي أصبح يرثها مع تلك الملابس المنبوذة : مدية جيب ، غليون ، أعقاب أقلام رصاص ، أزرار ، شصوص ، مسامير - فيقايضها حالاً بمواد أخرى خالقاً لها قيماً تبادلية بتعقل حصيف . و كانت تلك إحدى وسائل آبيل للحصول على السلع المعاشية ، و إن كان يحصل على سلع غيرها أيضاً . و كان دائم الركض في الجوار برفقة ابن يورگن "إدفارت" الأكبر منه سناً و الذي كان ينقل إليه الكثير من تجاربه . و اعتاد كلاهما كسب النقود من المشاوير و الأشغال الفذة ، و من "اللُقَط" العرضية التي يسوقها الحظ السعيد في طريقهما . و في إحدى المرات ، عثرا بالفعل على كيس قهوة في مخزن أولسن – فهل كان بمقدورهما الامتناع عن العثور عليه ؟ ها هو يقبع هناك على الأرض الجرداء و قد نسيه أحدهم : كيس كامل مفتوح تواً . و استطاع الصبيان تقدير أن قيمته ليست بالقليلة . و لم تستوعب كل جيوبهما محتويات ذلك الكيس ، كما لم تبد لهما تلك الجيوب بهذه الدرجة من الأهمية من قبل . و في طريق العودة إلى البيت ، شعر إدفارت بوسواس مفاجئ من نقل نصيبه من البضاعة إلى البيت . أما آبيل ، فقد أسرع بغنيمته إلى غرفة الطعام مباشرة . و أخذت أمه القهوة وهي تعده بإعطائه شيئاً ما لقاء ذلك ، و إن كانت قد منعته من العثور على المزيد من القهوة . و عندما جاء آبيل في اليوم التالي إلى المخزن حاملاً وعاءً مناسب السعة ، أصبح لدى شريكه فضيحة يستطيع روايتها للكبار بعد أن صدرت إليه الأوامر بإعادة ما جلبه من القهوة إلى الكيس خلسة ؛ و ضُرب بشدة حال عودته بعدئذ إلى البيت . و هكذا فقد أصبح إدفارت يفكر مرتين قبل إيداع ملتقطاته عند أبويه . و بدلاً من أن تكون تلك القهوة مصدراً للبحبوحة في بيت أوليفر ، أصبحت مصدراً لتبرم آبيل و انزعاجه أيضاً . فقد نكَلت أمه عن وعدها ، و لم تعطه شيئاً ما لقاء القهوة . جرّب كل الطرائق المشروعة و غير المشروعة لحملها على إنجاز وعدها له دون جدوى . و هكذا فقد اضطر للجوء إلى أوليفر : إلى أبيه ؛ و بكى بين يديه . "عندما يحصل شخص على وعد بشيء ما ، فان الواجب يقتضي أن تفي بوعدك ،" قال لها أوليفر العادل . "أوه ،" ردت پيترا :" و هكذا يجب عليّ شراء القهوة التي سرقها ، أليس كذلك ؟ يا له من أسلوب ممتاز لتربية الأولاد !" و لكن الأب شعر بالكبرياء إزاء تملق ابنه له . و لما كان قد حصل على صيد دسم ذلك اليوم ، فقد نفح آبيل كروناً جديداً لامعاً ." لن اسمح لأحد بأن يغمطك حقك ،" قال الأب ، لكي يسمع الجميع . و بفضل معاملته الكريمة ، شق آبيل طريقه للحصول على صنارة بخيط في اليوم التالي . و لم يكن البائع غير أولاوس : نعم ، أولاوس الذي نال وجهه شحنة من الديناميت ، فتبقّع بقعاً زرقاً ، و فقد كل وسامته منذ ذلك اليوم . ثم خسر ذراعه أيضاً ، و راح يشرب مثل سمكة ، و باع كل مقتنياته . أما الآن ، فقد جاء الدور على بيع عدة الصيد الخاصة به لآبيل . "هل لديك أية نقود ؟" "عندي كرون واحد ." كرون واحد فقط ؟ لن أبيعه حتى بخمسة كرونات ." نظر آبيل إلى الخيط و أولاوس يدخن و يبصق . "انه غير متعفن ، أليس كذلك ؟" "متعفن ؟ انه خيط جديد من آخر طراز ، و تستطيع أن تعلق نفسك به . و لكن في كل الأحوال فان كروناً واحداً لن يكفي . لا ." "هذا هو كل ما أملك ." "اغرب عن وجهي إذن ، ما الذي يجعلك بحق الجحيم تقف هناك بكرون واحد فقط ؟" و ذهب آبيل . نادى أولاوس وراءه : "أنت – ما اسمك ؟ هل ذلك هو كل ما لديك ؟" "نعم ." "هاك ، تعال و خذه ؛ غير أن قيمته هي خمسة كرونات ." و أصبح آبيل الآن في قمة العالم ، إذ كان صيد السمك هو كل ما يشغل فكره مع صديقه إدفارت ، و قد جرّب كلاهما الخروج مع والد إدفارت ، و عرفا أمكنة صيد الأسماك ، و إن كانت تنقصهما عدّة الصيد – إذ لم يجازف أي من أبويهما بتسليم عدته إليهما و ترك الحبل على الغارب لهما . أما الآن ، فقد أصبحا في قمة العالم . و لم يضيعا أي وقت ، فقد خرجا في ذلك المساء بقارب أوليفر . و كم كانت شديدة إثارتهما ! فعلى امتداد الساحل ، إنسلّا شبحين صغيرين ، محترسين مثل لصين ، و تواريا عن الأنظار حول رأس البر . و على الرغم من صغر سنهما ، فقد كانا منتفخين كديكين روميين و هما يرسمان خططهما المستقبلية . و لم يتفقا على المبلغ الواجب كسبه من طلعتهما الأولى ، في حين توافقا على ضرورة إدخار كل ما سيحصلان عليه لشراء عدة صيد إدفارت ليصبح لكل منهما عدته الخاصة به . و من الطبيعي أنهما كانا على أتم الإطلاع على سبل السيطرة على القارب إذ تعلما كيفية استخدام المجذافين الأمامي والخلفي ، و طريقة إسنادهما منذ أن تعلما المشي تقريباً . و لم تكن هناك أي حاجة إلى مراقبة إدفارت و السنجاب . و بالنسبة إلى آبيل ، فقد كان اليوم يومه : احتذى جزمتة ؛ الجزمة الضخمة و الثقيلة ، و بدا فخوراً بها كما لو كانت قد ابتيعت له خصيصاً ، و لم تكن ملكاً لأبيه ، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فرانك ، الذي تركها مستهلكة . و صادا السمك . أو بالأحرى آبيل ؛ فهو الذي أنزل الصنارة إلى القاع ، و جعلها تأخذ العمق المناسب لها ؛ في حين تولى إدفارت السيطرة على الزورق . كانا يعرفان شغلهما جيداً . و بين الفنية و الأخرى : كان آبيل ينزل الثقّالة و يسبر غورها للحصول على العمق المناسب . و مرة أخرى ترك الصنارة تنزل إلى الأعماق . و لكنه ما أن أراد سحبها ، حتى غرزت في القاع بسرعة . نعم ، لقد غرزت بسرعة . هيا : جذف شمالاً و اسند مجذافيك . حاول التجذيف شرقاً ؛ غرباً ! لقد عَلِق الخيط سريعاً بالقاع . "هاك ؛ خذ المجذافين ، و دعني أجرب أنا !" قال إدفارت الأكبر سناً من آبيل . و جذفا ، و سحبا الصنارة . أخيراً تراخى الخيط . "لقد حصلت عليه !" صاح إدفارت . و لكنه عندما رفع الخيط ، وجده أجرد لانقطاعه في الوسط . و هكذا فقد بقي الشص و الثقالة في جوف البحر . و تبادلا النظرات الحيارى : لقد فشلا في رفع الصنارة و انقطع الخيط . "اللعنة !" احتج إدفارت الأكبر سناً . أما آبيل ، فلم يجاري صاحبه ، و إن شعر أن لعناته تعبر عن شعوره العميق شخصياً أيضاً . و تعذر إلقاء تبعة الكارثة على أي منهما – و لكن أيجوز أن أولاوس قد استغفلهما و باعهما خيطاً متعفناً ؟ و لمّا لم يعد أمامهما أي خيار آخر ، فقد جذفا عائدين إلى البيت . "ستستعيد كرونك ،" قال إدفارت معزياً . "لن يتسنى لي ذلك ، و أنت تعلم ، " تمتم آبيل المطأطئ الرأس . "ألن تطالب به ؟ سأذهب أنا معك !" "هل تأتي معي فعلاً ؟" ما أشد اعتماد آبيل على صديقه الوفي ، صديقه المجرب ! و انتعشت معنوياته . أما إدفارت ، فقد جلس زامّا شفتيه بشدة ، ملوحاً بتصميمه على المضي و وضع الأمور في نصابها . و في الصباح ، سيترصدان طريق أولاوس عند مجيئه إلى رصيف الميناء حيث اعتاد التسكع كل يوم . نعم . إلا أن أولاوس رفض إلغاء الصفقة . "أغربا عن وجهي أيها الجروان !" و شرع آبيل في البكاء ، غير أن ذلك لم يجد نفعاً . " إن ذلك الخيط غير مصمم أبداً للصيد في الأعماق ،" قال أولاوس ." انه مصمم لصيد الأسماك في المياه الضحلة ، فاغربا عن وجهي ." غير أن إدفارت الصغير كان أكبر من آبيل ، و لديه الخبرة اللازمة لنصب المقالب القذرة . تشاور الصديقان ، و اتفقا على دس البارود في غليون أولاوس ، و إشاطة وجهه ثانية . آه ما العن الصغار في تلك المدينة ؛ إذ ما كانوا يتركون المهد حتى يأخذهم سبعة شياطين . حسن، لقد ابتاع إدفارت التبغ بعد أن أصبح غاية يبتغيها في كل الظروف ، و لم يبدد طويل وقت في الحصول عليه . كما وضع اليد على كتلة ممتازة من المسحوق الناسف بفضل العاملين في رصف الطريق . و بعد أن تسلح به ، جلس مع صديقه على الرصيف لاقتناص الفرصة المؤاتية . كانت إضمامة فاخرة من التبغ بكل حق و حقيق ، مع الورق الفضي الزاهي و خلافه ، مفتوحة تغري الناظر باستعمالها . أما المسحوق الناسف ، فقد كان في الأسفل . و ظهر أولاوس ."ما هذه القمامة التي عندكم هناك ؟" سألهما . "أتقصد تبغي ؟" "هل هو تبغ ؟ دعني أملأ غليوني ." "لا، إنك ستستولي عليه ، " أجاب إدفارت و هو يمثل دور من يعد العدة للهرب . "أيُسمح للأولاد في مثل سنكما بالحصول على التبغ ؟" "و كيف ستستطيع حشو غليونك و أنت بيد واحدة ؟" أدرك أولاوس الاحتمال الوارد في آن يعود بخفي حنين ، فقال :" لا بأس ، هاك غليوني هذا ، و املأه بنفسك ." و فيما أغمد إدفارت رأس الغليون في التبغ و حشاه حشواً بما يريد ، واصل أولاوس هذره : "كيف يسمح للأولاد في مثل سنكما بالحصول على التبغ ؟ من أين لكما هذا ؟" " اشتريته ." "بل قل : سرقته ، فذلك هو أغلب الاحتمال . آه لو كنتما من أولادي...! هيا املأه ، و لا تكن شحيحاً !" أعاد إدفارت الغليون مملوءاً ، و استعد أولاوس لإشعاله . تراجع الولدان عشر خطوات ، و تشاغلا في تفحص حصان مربوط بعمود . كان هناك شيء غريب في ذلك الحيوان ، فقد لاح لهما و كأنه حصان بالفعل ، و هو كميت ، و ليس هناك عموماً أي عيب فيه ! و تبادلا الأسئلة و الأجوبة عنه ، و تفاخرا بمعلوماتهما الوافية في الموضوع . ثم سمعا فجأة صوت فرقعة و وميض من مكان أولاوس ؛ وشاهداه وهو يقفز في الهواء – و هو ما دفعهما إلى الإسراع في الانتقال إلى مشهد غريب آخر في مكان آخر في المدينة ؛ فيما تناهت إلى مسامعهما سلسلة من الصرخات الساخطة من الخلف تهددهما بأن أحداً ما سيظفر بهما – إنتظرا ! و لسوء الحظ ، فقد كان آبيل ينتعل جزمته الضخمة ، و كاد أن يقع في براثن مطارده في مستهل مباراة العدو . و لم يكن ذلك آخر عهدهما بنصب المقالب ، و لا النهاية لصيد الأسماك . فَلَم يمض وقت طويل حتى حصلا على عدة صيد ملائمة ؛ فخرجا بقارب أوليفر ، و بمعرفته . و كانت أيام الآحاد أفضل الأوقات بالنسبة إليهما . و لانتفاء الخلافات الدينية بينهما ، فقد اتفقا على الخروج للصيد فيها عندما يكون القارب غير محجوز من الصباح حتى المساء . و في بعض الأحيان ، كان من الممكن لهما أن يعودا إلى البيت و كل منهما يحمل خيطاً صغيراً من السمك – صدِّق ، أو لا تصدِّق !
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
-
قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
-
الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
-
مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا
...
المزيد.....
-
مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل
...
-
الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع
...
-
ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع
...
-
في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
-
-يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا
...
-
“أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن
...
-
“أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على
...
-
افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
-
بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح
...
-
سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|