أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7















المزيد.....


كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3853 - 2012 / 9 / 17 - 22:54
المحور: الادب والفن
    


5

و مرت الأيام من جديد ، و لم تكن الأمور قط أسوأ مما كانت عيه من قبل ، بل بالعكس : فقد أصبحت أفضل فعلاً . و حملت پيترا معها هذا الشيء أو ذاك إلى بيتها الجديد عندما انتقلت إليه ، في حين واظب أوليفر على صيد السمك بانتظام . و لم يغادره أبداً توقه الشخصي إلى المغامرة . و كان يمكن أن يبدأ في بحر يوم صحو بالتجذيف إلى عرض البحر بقاربه المتداعي ، و يستلقي في داخله أربعاً و عشرين ساعة ، ليعود بعدها إلى البيت . كان لديه شذوذه الخاص بهذا الصدد .
لا ، لم تكن الأوضاع قط أسوأ مما كانت عليه من قبل . و ما دام أوليفر لا يواجه العوز الحقيقي ، فقد كان راضياً و مقتنعاً ، مثلما يحصل الآن على سبيل المثال عندما لا تعود أمه من طلعتها خالية الوفاض ، بل تنوء تحت ثقل كيس يحتوي مختلف المواد الغذائية – و قطع الملابس . كانت محتويات ذلك الكيس يمكن أن تثير نوبة قوية من العراك قبل مدة وجيزة . و لكنهم ما أن أصبحوا ثلاثة في البيت ، حتى صار الجميع يتشاركون بما لديهم سواء بسواء ، و لو على سبيل التظاهر ليس إلا . و لم يأت أوليفر أي أمر خلال فترة خطوبته يمكن أن يُلام عليه .
وفي أحد الأيام ، زارتهم امرأة عجوز ، فتعرف عليها أوليفر ، و قرر ابتياع تذاكر يانصيب إضافية منها – و لكن ما كانت به حاجة إلى ذلك ، فقد فاز بسحبة اليانصيب ، و ها هي العجوز قد أتت بغطاء المنضدة إليه . "أتصدقون هذا ؟" ضحك أوليفر ، " حاشا لله أن ينسى عباده !" و هكذا فقد حصلوا على غطاء للمنضدة . كما أوفت پيترا بوعدها ، و جلبت لهم بابين لغرفتي المشتمل ، و تزودوا بهذه الحاجة أو تلك .
كان أوليفر قد اعتاد في السنوات السابقة أن يأتي بمختلف أنواع التحفيات هدايا لفتاته كلما عاد من سفراته . و لقد جلبت پيترا تلك الحلي الصغيرة إلى البيت ، و هي على أحس حال ؛ و ها هي تنتظم مرتبة هناك في درجها : ابتداء من الكلب الخزفي و المرآة و انتهاء بالملاك الأبيض و صينية الخشب المطعم .
و بعد عقد القران ، سمح أوليفر لنفسه بيومين من الراحة ، متمتعاً فيهما ببقايا وليمة العرس . ثم بدأت أمه ، على عادتها القديمة ، تذكّره بوجوب الخروج للصيد مرة أخرى . لا يصح إلا الصحيح . و هكذا فقد خرج للتجذيف ، بعد أن أكد انه كان عازماً على الخروج فعلاً حتى قبل أن تذكّره أمه ! كانت الحياة أفضل مما قدر لها أن تكون ، و لم تعد لديه أي مبررات للشكوى : لقد أصبح رجلاً متأهلاً بلا نقصان ، و حُسمت الأمور كافة على نحو قاطع . و من حسن حظه ، أنه لم يؤجر المشتمل قبل ذلك ، إذ هو الآن في مسيس الحاجة إليه .
كان المنغص الوحيد هو ظهور ماتيس في أحد الأيام ، و إرساله مبعوثاً عنه أحد الصبيان ، و معه رسالة يطلب فيها التحدث إلى أوليفر . و لأن الأخير لم يكن لديه ما يناقش به هذا الرجل ، فقد أُجبر على عدم مقابلته حتى لو كان دون ذلك حياته ! "ما الذي يريده مني ؟ قل له ألّا يزعج نفسه بالمجيء إلى بيتي ."
و كان بمستطاعهم رؤية النجّار يسير جيئة و ذهاباً نافخاً صدره أمام الشباك . آه ، لم تكن تلك هي أول مقابلة له مع نابليون . "لقد زيّن له جنونه منازلة رجل كسيح ،" قال أوليفر . "أنتم يا من لديكم حسابات لم يبت فيها معه ، يجدر بكم أن تخرجوا له الآن لتسويتها ." واصل موجهاً كلامه إلى الجالسين في غرفة الطعام . سرّحت پيترا شعرها ، و أصلحت هندامها قليلاً لتصبح أكثر جاذبية ، ثم طلعت إلى الشارع .
و من الشباك ، شاهدوا وجه النجّار وهو ينهار خائباً . ما الذي حصل لآكل النار هذا ؟ ها هما يتبادلان الأسئلة و الأجوبة هناك ، و لا شيء يحدث . إن كانا يتحدثان عن البابين ، فأتمنى لهما حظاً سعيداً ، و لكن أغلب الاحتمال أن الموضوع يتعلق بخاتم الذهب . يجلس أوليفر في أبعد ركن في الغرفة ، لا يظهر منه سوى أنفه ، و هو يراقب المشهد أمامه . يبدأ النجّار باستعراض خطواته السريعة ، ثم يدخل حلبة السباق محدقاً إلى وجه پيترا ، و يتمعج و هو يتحدث إليها . ثم ينسج دائرة حولها . و لكن پيترا تفلح في تهدئة هياج الرجل بكلمات حزينة مكتومة ، على الرغم من أنها لم تكن في أفضل حالاتها بوجهها الذي بات يكسوه الكلف . عجباً ، إنها قادرة حتى على رسم ابتسامة عذبة تقطر إغراء ؛ أما ماتيس ، فانه ينتهي بالتحديق إلى الرصيف . و عندما تقدم له يدها ، يصافحها دون أن ينظر إليها . و بعد أن يقف هكذا في مكانه برهة ، يقفل راجعاً . يخرج ماتيس من المشهد . و يكاد أوليفر يشعر بالأسف عليه من مقعدة في غرفة الطعام .
و لم تحصل أية منغصات أخرى .
و لا أية منغصات أخرى؟
حسنٌ ، كان الوضع يمضي سريعاً ، متيحاً لكل الأشياء أن تحصل . و تبدأ رياح الخريف بإسدال الستار على موسم صيد الأسماك ، في حين تنشغل پيترا برعاية وليدها الصغير . و سمحت الأم العجوز لموضوع مخاوفها المنزلية بأن ينزلق من يديها ، و لم تعد تخرج إلى العالم لتعود بكيس مرصوص .
و ليس هذا لأن أوليفر أصبح يعاني العوز فيما حلَّ بعد ذلك من الأيام ، بل على العكس ، فقد ازدهر هو و هرّه . عجباً لذلك الهرِّ العجوز . لم يكن يحسن غير الاسترخاء في غرفة الجلوس ، و مضغ الطعام ، حتى ترهل من كثرة ما أكل من الأسماك ، مما ولّد الشك عند النسوة في أنه عنَين . أما أوليفر ، فقد جلس هو الآخر هناك متمتعاً على أحسن ما يكون بهز مهد الطفل والتفرج على الشارع . و لقد نحفت يداه و ابيضتا جرّاء ملازمته البيت ، كما تحسّن شكله . و أزعجه انه لم يستطع اقتناء قبعة من الفرو ، فهل يقوم بالتجذيف في أيام الشتاء القارصة البرد معتمراً قبعة من القش ؟" ألا تستطيع الحصول على قمصلة ؟" سألته أمه . "تستطيعين أنت الحصول على قمصلة لنفسك ، " رد عليها " أما أنا ، فسأحصل على قبعة من فرو القضاعة ." أنَفَةٌ و غرورٌ . هكذا هو أوليفر !
كانت ربطة عنقه الزرقاء قد فقدت رونقها القديم و أصبحت بلا لون . يا للخسارة . و لكن ألا توجد طريقة لإصلاحها ؟ إذا كان من المتعذر إعادة صبغها ، فان باستطاعة پيترا أن تجعل باطنها ظاهرها . غير أن لون باطنها كان كامداً هو الآخر ؛ فركِبه الاضطراب ، و قال لپيترا دون سابق إنذار :" يخيّل إلي أنكِ كنت تعتقدين بإمكانية الحصول على وظيفة لي عند العجوز جونسون - ما هي آخر المستجدات في هذا الموضوع ؟"
أجابته پيترا المسكينة بأنها ستتكلم مع القنصل في هذا .
"لماذا تطلقين عليه لقب القنصل دائماً ؟" سألها منزعجاً .
"لقد كنَا دائما نسميه بالقنصل عندما كنا في بيته ."
"نعم . إلا أن هناك رجالاً غيره قد نُصّبوا قناصل أيضاً ؛ لقد كان هايبرگ العجوز قنصلاً ، و مثله فلان الفلاني أولسن . إذن تستطيعين ، على هذا ، أن توفري على نفسك عناء اللهاث ."
و كانت ملاحظته صحيحة . فهناك اليوم عدد لا يحصى من القناصل و نواب القناصل و وكلاء القناصل ؛ و كلهم يتصارعون على عظم واحد ، حتى باتت المدينة تغص بهم كالدود . و ما كان ظفرهم بتلك المنزلة ليأتي بلا مشقة و بغضاء و حسد . و تدور خلف الكواليس الكثير من أعمال الدس و التخريب . فالتاجر الفلاني لا يسمح للتاجر الآخر بالإزدهار من وراء ظهره . لقد عاش جونسون صاحب المرفأ ليرى الكثير من الأنداد ؛ أما ما الذي عاشته زوجته لتراه ... فعِلم ذلك عند الله وحده .
و لعل پيترا اختارت لحظة غير موفقة تماماً في زيارتها بيت جونسون العجوز . فلم تكن لديه وظيفة لزوجها في كل الأحوال - أم هل أن استجابته كانت ستكون أفضل لو أنها بدت في الأقل أجمل و أكثر أناقة ؟ مسكينة پيترا- إن عليها إعفاءه من ذلك . ألم يكن من الأفضل لها لو أنها التمست العون من أحد أولئك القناصل العصريين - أي نشاط كانوا يمارسون على وجه التحديد ؟ أليس بمستطاع زوجها الذهاب إلى ذلك الرجل المدعو أولسن والاشتغال عنده بكَيْل البرغل ؟ و لكن لا ؛ حسناً فعلت بمجيئها إليه أولاً ، إلى ك . أ. جونسون الذي سيحاول فيما بعد إيجاد عمل لأوليفر ، و لكن ليس الآن . لا ، يجب عليها ألا تنزعج ، فقد أضير الكثير من الناس بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها المدينة الآن . حتى السفينة "فيا" لم تستطع إنجاز أي شيء ذي بال . و لماذا لا يخرج أوليفر للصيد ؟
نظر القنصل إلى پيترا و مشكلتها بعينيه الكستنائيتين الطيبتين ، و ودعها متعطفاً ، و لكن دون أن يمد لها يد المساعدة .
ماذا بعد ؟ لا شيء سوى أن أوليفر قد استجمع قواه ثانية ، و ذهب للصيد مثل الرجال كل صباح و ظهيرة و مساء . سيريهم أي فتى أضاعوا ! و لم يجلب البتة أي سمكة لجونسون صاحب المرفأ – بل تعمّد تجاهله على مرأى و مسمع من الجميع . و عندما أصبح يصطاد أسماكاً كثيرة فيتعذر عليه حملها ، عَمِد إلى وضع بعض الأقفاص الفارغة على رصيف الميناء ، خالقاً سوقاً للأسماك كان له الوقع الكبير في المدينة . هناك كان يقف ذلك الرجل البديع . صحيح أن الناس أحجموا بعض الوقت عن قطع الطريق الطويلة المؤدية إلى رصيف الميناء سيراً على الأقدام ، غير أن حاجتهم المستمرة إلى الأسماك أجبرتهم على الاستسلام للوضع الجديد ، و إظهار الامتنان . كانت عينا أوليفر قد فقدتا كل بريق لهما ، كما أصبح مظهره أقرب إلى البدانة و البلاهة – و لكن ليس دائماً ، خصوصاً عندما يتطلب المقام المخادعة أو المخاشنة ، فقد كان يجرّد نفسه لها بذكاء نادر . كان يقف عند أسماكه دون أن يدلل على بضاعته ، بل يرفع أسعاره حتى تبلغ مستويات غير معهودة من قبل ."أتريدها ؟ حسن ، إنسَها إذن !" كان يعرف جيداً أن بمستطاعه دوماً بيعها للبواخر المارّة بالميناء ، كما كان يعلم علم اليقين أن الناس المحترمين لا يستطيعون إظهار البخل للكسيحين .
و عاشت عائلة أوليفر حياة أفضل من كل ما سبق في ذلك الخريف . و أظهرت المرأتان التقدير المناسب لمعيلهن ، و أصبحتا يقدمن له أفضل الموجود من كل شيء . فقد كان يحصل على العصيد المركز مع ثريد المساء ، و على الكعك في فطور أيام الآحاد حسب ما يقتضيه العرف و الأصول . و تحسن وضعه ألمعاشي ، فراح يسدد بعض قوائم الشراء القديمة التي لم يُبت فيها لدى التجار؛ كما استطاع إكساء بابَي غرفتيه الجديدتين بالطلاء . و ارتقى مركزه سماكاً محترفاً بين زميليه في المهنة يورگن و مارتن اللذين بقيا كل تلك السنين راضيين بجر أسماكهما بنفسيهما من بيت إلى آخر حتى علّمهما أوليفر الوقوف في مكانهما خلف نضد على الرصيف مثلما يفعل هو ، و رفْع أسعارهما . و عندما شكرا له مبادرته الذكية ، أجابهما بالقول :"الحقيقة هي أنني طفت قليلاً في أرجاء العالم ."
و أدى ما تبديه عائلته و الآخرون له من الاحترام المتزايد إلى تقويمه و صلاحه . و عندما كان يعود إلى البيت من كد يوم طويل ماراً بغرفة الطعام ، كان بوسعه سماع ضجيج الحركة في الداخل ، و صوت پيترا و هي تقول للطفل :"جاء بابا". و كم كان رائعاً ملاحظة فعل تلك الكلمات المختارة بعناية في أوليفر ؛ الذي يذوب تعبه ، و ترتفع معنوياته ، دافعة إياه إلى التصريح بأن الرضيع المستلقي في مهده يعي مجيئه . و ربما لم يكن تصوره هذا على تلك الدرجة من الاستحالة إذا ما علمنا أن تلك الكلمات كانت تتكرر على مسامعه كل يوم في وقت محدد ، يتبعها بانتظام صرير الباب ، ثم هبّة التيار البارد من الهواء ، يليه دخول رجل ينحني عليه من فوق المهد . و عندما أصبح عمره بضعة شهور ، و بدأ بالجلوس بنفسه للعب ، لم يعد هناك أي شك في تتبعه للحوادث الجارية حوله بكل جوارحه . أنظر إلى ذلك الشيطان الصغير ، ذلك الأعجوبة : لقد بدأ بالتلمظ حالما شرعت أمه في فتح أزرار قميصها ؛ أما عيناه الكستنائيتان ، فترنوان إلى الباب حال سماعه جملة أمه : "جاء بابا ."
و لم يتوان أوليفر عن إثارة زوبعة حول الولد . و حالما بدأ الطفل يمد يديه معلناً رغبته في الإنضمام إليه ، حتى أصبح أوليفر يستسلم تماماً إلى رغباته . هذا المخلوق الصغير – هل رأيت شبيهاً له من قبل ؟ هذا النكرة ، هذا الولد الملعون ، هي-هي- هذا الشيطان ، عونك يا رب ! و كان الوضع يصبح ببساطة متعذراً على التحمّل عندما يبدأ الطفل بالبكاء حالما يتهيأ الأب للخروج - متعذراً على التحمّل تماماً . و الآن : إنه لا يقدر على تحمّل ذلك ، بل يكاد ينفجر بالبكاء على الولد ؛ فيصرخ على پيترا : "قلت لك : أرضعيه ، هيا !" ثم يتقافز برجله الخشبية مسرعاً في الخروج من الدار .
و كثيراً ما تخاصم مع أهله بشأن ما يستطيع الطفل فهمه ، و ما لا يفهمه . و سدد الضربة تلو الأخرى بسببه . و صار يريه الصور و حروف الهجاء ، و أعطاه كل ما يخطر على البال ليلعب به . لقد كان كلاهما طفلاً ، أبله ، و طريفاً . "هل أعطيت عقلك إجازة ؟" تصرخ المرأتان في وجهه : "كيف تُسلم إناء غلي القهوة إلى الطفل ؟"
"حسنٌ ، و لكن كيف سيتأتى له أن يجد شيئاً غيره يطبل به ؟" يتساءل أوليفر . و يجلب التحف للطفل من سفط أمه ، و عندما يرمى الطفل المرآة على الأرض ، يتبرع أوليفر بتحمل المسؤولية بنفسه : إنه هو الذي رمى المرآة ، و ليس الطفل !
أيام سعيدة ؛ أيام مباركة ! و استعادت پيترا نضارتها ، و أصبحت تحرص على الخروج قليلاً في أيام الآحاد . دعها تخرج في كل الأحوال ، فلم يكن لديه أي اعتراض . و باستطاعة أمه الخروج أيضاً – فهو لا يستطيع التعاطف مع الناس الأصحاء من ذوي الأطراف السليمة ممن يلزمون بيوتهم . أما هو ، فقد مكث بغرفة الطعام متناعساً أمام منضدته ، و الطفل يغط في نومه . هل كان يحلم ؟ أم هل كانت ذكريات الماضي تبحر خلل عقله الكسول ؟ لقد كانت لديه من الأسباب ما تدفعه إلى التأمل في مصيره المخيف ؛ و لكن ، لعل ذلك المصير قد حوله إلى رجل بليد الإحساس ؟
عادت پيترا إلى البيت عند الغسق – في الوقت الملائم تقريباً ، إذ كان الطفل قد بدأ بالزعيق كالخنوص . و مثلما ترى ، فقد حاول أوليفر تعليمه القراءة ، إلا أن الطفل يبدأ بالصراخ في منتصف الدرس ، فيتلقفه بابا ، و يؤرجحه بقوة إلى الأعلى و الأسفل ، و يناجيه برقة : "هناك ، هناك ، هناك ، الأمر على ما يرام ، لا تبتئس ، ستتعلم القراءة بلا ريب . إنني واثق بهذا مثل وثوقي بأن اسمي هو أوليفر أندرسن !" غير أن الطفل كان يبكي لحاجته إلى الحليب ، و ليس إلى أي شيء آخر .
آه لو كانت پيترا قد أظهرت بعض الخنوع و الندم على تأخرها في العودة – و لكن ذلك لن يكون . لا بد أنها قد شعرت بالإحباط المفاجئ عندما أغلقت الباب على الشارع و على الحياة الرحبة في الخارج لتواجهها صرخات الطفل . لقد حُجر عليها ، و أقمعت و هي ما تزال في عنفوان الشباب ." هناك ، إهدأ ، أنت ، إني هنا الآن !" قالت للطفل . نعم ، إنها هنا ، و لكنها استغرقت ما تشاء من الوقت في خلع ملابس يوم الأحد المبهرجة التي ترتدي ، مع الإصرار على تفحص قوامها ملياً في غضون ذلك أمام المرآة . و الحق ، فقد كان ذلك سلوكا مثيراً للاشمئزاز ؛ غير أن أوليفر أظهر صبر القديسين عندما منع نفسه من رفع العكاز عليها .
و بعد أن حدق إلى وجهها برهة ، صرخ غاضباً :" لم لا تأخذين الطفل بحق الشيطان ، ها ؟"
"لم لا آخذه ؟ أُنظر ، إنني آخذه الآن ."
"نعم ، و لكن بعد أن ازرقّ وجهه من الصراخ ."
"دعه يصرخ ، فهي ليست مسألة حياة أو موت ."
لا ، إنك لا تستطيع تسوية الأمر على هذا النحو : كان على أوليفر أن يستعمل عكازه . ليست مسألة حياة أو موت ؟ يا إلهي ، أي بقرة هذه ؟ لا ، إنها مسألة غذاء ليس غير . أنظر : لقد حل السلام بعدما حصل الطفل على ما يريد . " الأولى بكِ أن تستعملي عقلك ، " قال لها أوليفر منافقاً .
إلا أن پيترا طوّحت برأسها ، و تبرمت . ما خطبها ؟ ألا تدرك أي مأزق تريد مواجهته ؟ إنها لم تعد فتاة طليقة ؛ إنها الآن إمرأة متزوجة و مرتبطة ، و عليها أن تغادر كل آمالها الجامحة – أنتِ يا من تدخلين هنا ، أنت يا پيترا المسكينة – لقد ركبتْ مأزقاً وعراً ، و فُرِضَتْ عليها صفقة خاسرة . آه ، أي بلوى أُمتحنتْ بها ! و هي لا تقوى على تحمّلها ، و لا تستطيع إبانة محيّاها المشرق إزاءها . و هل بمستطاع غيرها من الفتيات تحمّل مثل هذه البلوى ؟ هل بمستطاعهن ! إلى الجحيم . لقد كانت تتبوأ مركزاً حساساً في بيت القنصل ، و كانوا يولونها كامل ثقتهم ، و رفعوا أجرها مرتين ؛ في حين كان شلدروب الإبن مدنفاً بحبها ، و لعله ما زال كذلك . و لكن المطاف انتهى بها الآن إلى التمرغ بالوحل .
"يبدو أنكِ لا تتذكرين الطفل أحياناً ،" قال لها أوليفر بحصافة .
"إنني أتذكره ليل نهار . أيجب أن أضعه على ظهري عندما أخرج ؟" صرخت پيترا . نظر إليها أوليفر بانتباه متزايد ، ثم تنشق نفخة من زفيرها ، و ازداد تفهمه للوضع – لا بد أنها قد زارت مكاناً ما ، و تناولت "قطرة من شيء ما" . هي-هي-مجاناً ! إذن ، هذا هو سبب تطاولها و انفلات لسانها .
"أين كنتِ ؟"
"ليس في أي مكان محدد ."
" لقد زرتِ مكاناً معيناً بلا ريب ، و شربتِ قطرة من شيء ما ."
"أتستطيع شمّ شيء ؟ نعم ، لقد قصدت بيت القنصل ، فوجدتهم يحيون حفلاً ، فقدّمت لهم بعض المساعدة . عرضتْ علي ربة البيت كأساً واحدة ."
لم تكن پيترا ممن يدمنون شرب الخمر ، و كان تعليلها مقبولاً لو كان صحيحاً . غير إنها لم تكن تستنكف من إطلاق الكذبة البيضاء ، و لا من التلفيق – بل على العكس . و لافتقارها إلى البراعة في اختراع الأعذار ، فقد كانت تنفذ تلفيقاتها بتصنّع العبارات الناعمة الممزوجة بالوقاحة . و سواء صدقت روايتها أم لم تصدق ، فالأمر سيّان . ها هي تجلس الآن و هي ترضع طفلها ، مكفهرة الوجه قليلاً . غير أنها جذابة و نظيرة . و إذا كانت ذات طبع جامح و متهور ، فأي ضير في ذلك ؟ لا ، إنها ليست عبقرية على وجه التحديد ، بل محض إمرأة عادية و غير مهمة ؛ بل خادمة تنتعل حذاء . و لكنها كانت تمتلك صفاتها الايجابية : امرأة دافئة و مغرية على نحو لعين . و لقد عادت الآن إلى بيتها : انه مكان عيشها ، و هي تخص أوليفر ، و تزود الطفل بطعامه ، و عندها الحليب ، و باستطاعته رؤية حلمتي نهديها .
بيد أن پيترا كانت قد إحتست الخمر ، و لعلها إحتسته و معدتها خاوية ، و لم تستطع أخذ أكثر من كأس واحدة دون أن تفقد كياستها و دماثة خلقها ، و دون أن تتهور . أُنظر إليها الآن ، إنها تدفع فرانك الصغير : تدفع الطفل ، و هي تعلم جيداً أن ذلك يغيض أوليفر . فينشب العراك ، و تكشف پيترا عن أسنانها غير مبالية حتى بحقيقة أن أم أوليفر – "الجدّة" العجوز – قد عادت من تطوافها في الشارع ، و راحت تصغي إلى ملاسَنتها . "ماذا ؟" تعجبت الجدة ، "أيتخاصمان بجد ؟" سمعت الزوجة تخاطب زوجها بالقول :" هل عندك شيء تستطيع التفاخر به ؟"
" أنا ؟ "
"نعم ، أنت . ألا تستحي من نفسك ؟"
"إنا هو ما تشاهدينه بعينيك الاثنتين ."
تقهقه پيترا وترد : " حسنٌ ، ليتك كنت صحيحاً مثلهما !"
و لم تفهم الجدة أي كلمة من هذا . غير أنها استغربت عدم لجوء إبنها إلى العنف و بقاءه جالساً . لقد بدت كلمات پيترا غريبة – ما الذي ترمي إليه ؟ لم ينبس أوليفر ببنت شفة .
"ما هذا الذي يجري هنا ؟" سألت الجدة .
لم يجب أي منهما . و فجأة ، وجّه أوليفر سؤالا ينذر بالشؤم :"لم جئت إلى هنا تبغين الزواج بي ؟ هذا مالا أستطيع فهمه ."
فترد عليه پيترا : "إنكَ تفهم ذلك جيداً ."
"ماذا أفهم ؟"
صمت .
تحركت الجدة حول الغرفة ، و خلعت هي الأخرى ملابس يوم الأحد الفاخرة ، و علقتها ؛ و لكنها كانت تصيخ السمع جيداً . ماذا تستطيع پيترا أن تعرفه عن زوجها أكثر مما يستطيع العالم كله رؤيته ؟ هل هناك عيب خفي ؟ هل كان مودعاً السجن ؟ أم هل هو ذاهب الآن إليه ؟ و تذكرت الآن كيف أن پيترا كانت قد اعتادت منذ وقت مناكدة زوجها ، مازجة المزاح بالتحقير ، و تتضاحك و هي تلمّح بغير لياقة إلى أنه ليس أكثر فائدة لها من هرِّه ، و إلى أكله الأسماك .
هدأت الأوضاع الآن في الغرفة . نام الطفل ، و استسلم البقية إلى الصمت ."ما هي آخر الأنباء في المدينة ؟" سأل أوليفر و هو يظهر مدى لين عريكته .
و لإلتزام پيترا جانب الصمت ، فقد أجابت أمه :"إنني لم اسمع شيئاً محدداً . أوه ، نعم ، ستقام مدرسة إعدادية جديدة ."
"ماذا ، هل يقيمون مدرسة إعدادية جديدة ؟"
"هذا ما يقولون . و سيشيدون لها بناية كبيرة من الحجر ."
و لما كان أوليفر يريد استدراج زوجته إلى الحديث ، فقد كاشفها مباشرة بالسؤال : "كيف كانت الحفلة ؟"
"أي حفلة ؟"
آه ، لقد نَسِيَتْ . لابد أنها قد اختلقت روايتها تلك . و قرر الوقوف على حقيقة الأمر عند الصباح .
"أتقصد الحفلة في بيت القنصل ؟ حضرها كل وجهاء المدينة ."
"و زوجاتهم أيضاً ؟"
"لا . أوه ، لست أدري ."
"إذن لم تكوني تقومين بالخدمة عند المائدة ؟"
"ما لك تواصل توجيه الأسئلة طوال الوقت ؟" صرخت ضاحكة ، "لعلك لا تصدّق كلامي ؟"
آه، من الواضح أنها لم تكن متمالكة أعصابها ، فقد كانت لضحكتها رنّة جوفاء . كانا يمارسان لعبة التوازن و كلاهما يقف على حبل معلق . و فجأة قررت پيترا شيئاً ما ، فلفّت شعرها و قالت مازحة : " لا ، كان عليك أن تتزوج ممرضتك تلك في ايطاليا يا أوليفر ، فلعلها كانت تستطيع أن تصنع منك رجلاً ."
و شاركها أوليفر مزحتها تلك و هو غير هازل : نعم ، لقد ندم فعلاً على ما فاته من أمر تلك الممرضة .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
- السيد و العمامة
- يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
- كلاب أولاد كلب
- بغداد : 6./ 6. /6.
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
- قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
- الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى ...
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
- مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا ...
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 6
- فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 5


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7