|
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3833 - 2012 / 8 / 28 - 20:41
المحور:
الادب والفن
لا يمتلك أهل المدن الكبيرة أي تصور عند مدى اختلاف مقاييس الأشياء في المدينة الصغيرة . و قد يخيل إليهم أن بمستطاعهم المجيء إليها ، و الوقوف عند ناصية السوق ، و الإبانة عن ابتساماتهم المستعلية ، و الاستهزاء من نمط البيوت ، و بلاط الشوارع . هذا هو شعورهم في أغلب الأحيان . أما كبار السن من أهالي المدينة الصغيرة ، فما زالوا يتذكرون الأزمنة التي كانت فيها بيوت مدينتهم أصغر مما هي عليه ألآن ، و الشوارع أسوأ رصفاً . كان هؤلاء قد شهدوا مسيرة التطور لمدينتهم الصغيرة . نعم ! ألم يشيد " ك .أ . جونسون "- صاحب المرفأ - بيتاً كبيراً لنفسه ؛ بيتاً منيفاً فعلاً ، بشرفته التحتية ، و مقصورته الفوقية ، و سقفه الذي تحيط به الزخارف البديعية ؟ يضاف إلى ذلك ، أن كثيراً من البنايات الفخمة الأخرى قد ارتفعت : هناك المدرسة ، و رصيف السفن ، و المباني التجارية المتنوعة ، و دار الجمارك ، و مصرف الإدخار . إذاً ، فما من مسوِّغ للابتسام . و أصبح للمدينة الصغيرة ، فضلا عن ذلك ، نوع من الضاحية على امتداد التلال الصغيرة حتى حوض السفن ، حيث تقطن ثلاثون أو أربعون عائلة في دور صغيرة منسقة مطلية بالدهان الأصفر أو الأحمر أو الأبيض على وفق أذواق أصحابها . و هي الدور التي أتت آنذاك على القسط الأوفر من المدخرات الشخصية المهيئة للحالات الطارئة . و إضافة إلى ذلك ، فحتى المدن الكبيرة لها أيامها البيض أو السود ، و لا سبيل إلى نكران ذلك . و لكن من ذا الذي سمع بجونسون صاحب المرفأ و هو يقف هناك صفر اليدين ، أو و هو لا يدري أي منعطف ينبغي سلوكه ؟ وإذاً، فقد كان للمدينة الصغيرة شواخصها المتميزة : لها بيوتها الراسخة ، و أبناؤها وبناتها الأنيقات ، و لها ثباتها و السطوة . و المدينة الصغيرة مفتونة برجالها العظام ، و هي تتابع سيرتهم بشغف ، متيحة لأهلها الفضلاء فرصة الالتفات إلى سراءهم و ضرائهم ما داموا يحيون و يزدهرون في ظل أقويائهم بحسب مقتضى الصواب و اللياقة . و يتذكر الناس ذلك اليوم الذي تسلم فيه السيد جونسون صاحب المرفأ منصب القنصل الجديد . إذّاك وزّع في متجره الكعك مجاناً على القادمين كافة مع "قطرة من شيء ما" – و الحق ، فقد وجد هناك ذلك النفر من الوقحين الذين لم يتوانوا عن تكرار الذهاب و المجيء لاحتساء تلك "القطرة من شيئ ما" . في صباح ذلك اليوم ، جلس "يورگن" صائد الأسماك - مثلما يجلس اليوم - يسحب شباكه بالسمك المصطاد لإعداد وليمة الغداء الفخمة . كان اليوم يوم احتفال عام ، يوماً رائعاً بالفعل ، فالقنصل الجديد ما تزال روح الشباب تغريه بالمباهاة ، في حين تدفعه استقامته الطبيعية إلى إظهار ولعه بالخمر و النساء و الأغاني – و لهذا فقد أقام حفلاً بهيجاً ، و دعا إليه أهل المدينة . و فوق هذا ، فقد حقق ذلك اليوم نجاحاً جماهيرياً منقطع النظير . و يتذكر الناس أن الصحيفة المحلية قد أبرزت آنذاك أخبار ذلك النجاح المشهود و الذي ما تزال النسوة يتحدثن عنه عند المضخة . و بين حين و آخر ، تنشب الخلافات بخصوص هذا التفصيل التافه أو ذاك , و عندئذ يمكن أن ترد " ليديا " مصرحة :" ينبغي أن أكون أنا المطلعة على حقيقة الأمر لكوني أنا التي تولت مهمة المساعدة في شغل المطبخ يومذاك !" و لكن المرأة الأخرى تتمسك بموقفها وتجيب : " بمستطاعك الذهاب و سؤال العجوز جونسون نفسه ! " عندها تتدخل امرأة ثالثة قائلة : "حسن ، لا حاجة إلى عمل شيء من هذا القبيل ، فما تزال تلك الصحيفة محفوظة عندي !" غير أنه قد مضت الآن ست أو ثماني سنوات على ذلك اليوم العظيم . و الشخص الآخر الذي يستطيع تذكر ذلك اليوم العظيم جيداً مثلما تتذكره النساء هو الحداد " كارلسن " . كان كارلسن رجلاً محترماً جداً , و أرمل له أولاد راشدون و ليسوا مثل صغارك الشياطين . حسنٌ ، لقد كان كارلسن هو الذي انتصب هادئاً في دكان حدادته ، و شكر لله نعماءه في ذلك اليوم البهيج ؛ و في كل يوم من حياته . تلك هي طبيعة كارلسن , انه رجل تقوى . و لقد دأب على بذل جهد مضن كلما حلت مناسبة عظيمة في المدينة ليشرح للناس كيف أن الأوان قد حان له و لجيرانه لحمد الله . و لم يكن ليتحدث كثيراً في الموضوع ، و ما كان جيرانه لينتبهوا لو حصل العكس ، و لكنهم كانوا يحترمونه على الرغم من عنادهم و جحودهم . و مع أن بمستطاعك أن تقول ما تشاء ، إلا أن الحقيقة البائنة هي أن الحداد كارلسن كان أمثولة ساطعة للمدينة . أوه ، لقد كان هناك عدد كبير من الشخصيات الأخرى : فهناك "أولاوس" من المرج ، و السمّاك "يورگن" ، و النجّار "ماتيس" ، و الطبيب ، و مدير مكتب البريد ، و غيرهم . و كانت الحياة تستهلك بعضاً منهم على عجل ، و تتمهل تجاه عدد آخر منهم ، و إن وُجد قسم منهم ممن لا يطرأ عليه أي تغير أبداً ، بل كان يبتسم و يتحمل ، يبتسم و يتحمل . و مدير مكتب البريد هو الآخر رجل تقي بطريقته الخاصة ، مثله مثل الحداد كارلسن . و ما عداهما ، كان أهل المدينة كلها أناساً دنيويين يعوزهم العمق . و كأنه لا يوجد هناك أي قس في الأبرشية ، فقد كانت جل أعمال مدير مكتب البريد تتمثل بممارسة أعمال التعميد و التزويج و منح التثبيت و دفن الموتى من الأهليين الذين ما كانوا عدا ذلك ليفيدونه شيئاً ، و لا يتطرقون إلى ذكر اسمه أبداً. آه ، يا له من مجمع نمل صغير مزدحم : الكل فيه مشغول بشئونه الخاصة ، يتقاطع و سبل الآخرين ، و يتدافع معهم ، و يطأهم أحيانا بأقدامه . نعم ، تلك هي طبيعة الحال ، فبعضهم لا يني عن وطء الآخرين بأقدامه أحيانا . . و يجلس السماك يورگن الآن ، مثلما كان جالساً قبل ست أو ثماني سنوات ، ليصطاد السمك اللازم لوليمة غداء أخرى . و لقد حرص على مواصلة الجلوس صباح يوم الأحد هذا ، راغباً في العودة إلى بيته بكمية كافية من السمك لإقامة وليمة كاملة . و من ساحل الخليج المقابل ، تأتي أول إشارة إلى خفقان أمواج البحر بنسيم الصباح الذي يجرف قارب يورگن ، و يجب عليه الآن إسناد مجذافه باستمرار ليبقى في مستوى شواخصه على البر . آه ، انه يتخلى الآن عن فكرة البقاء مدة أطول ، و يبدأ بالتجذيف عائداً الى البيت . لقد بقي جالساً في قاربه منذ الساعة الثانية فجراً . لم يكن أحد قد استيقظ في المدينة . يَنْظُم يورگن الأسماك بخيط الصيد ، و يحملها مخترقا الشوارع بتثاقل ، بجزمته الضخمة . بدا يورگن بطيء الحركة بثوبه الصوفي الآيسلندي ، و السترة المشمعة الطويلة ؛ و لم يكن ضخماً ، بل أقرب إلى النحول ، في حين كان قصيراً من تحت الخصر . و لكنه كان صلب العود ، و شديد المراس . لم يقعده المرض يوما في فراشه ، و لم تهمد عزيمته ، و كان علاجه الوحيد لنوبات الزكام هو تجاهلها تجاهلاً تاماً . يتجه إلى البيت الكبير للسيد ك .أ . جونسون ، و يعلق خيط الأسماك على باب المطبخ ، ثم يتهادى متثاقلاً إلى داره . آها ! ها هو الدخان يرتفع من المدخنة . إن ليديا مستيقظة . لا بد أنها قد راقبت قاربه ، و تذكرت وضع القهوة على النار . و ليديا هي زوجته ذات الشعر الأسود الجعد ، و المزاج الغاضب ، و الاقتدار عند الضرورة . إنها من نوع النساء المتحكمات اللائي يواصلن التمسك باللجام . يلج يورگن الدار بتثاقل . "سِرْ بتؤدة !" تهمس إليه ليديا بغضب مكتوم و هي ترقب أطفالها ، مبدية كل علامات القلق تجاه الولد و البنتين في تحركهم أثناء الرقاد . يخلع يورگن جزمته ، و كنزته ، و يرتشف قهوته ، و يتناول وجبته ، ثم يتوجه إلى غرفة النوم . " لا تدع الباب يصرف ، " تهمس إليه ليديا من خلال أسنانها المطبقة . و على الرغم من ذلك ، و بالطبع ، فان كبرى البنتين تستيقظ من نومها ، و تجلس على الفراش كالمعتاد . ثم ما تلبث شقيقتها الصغرى الراقدة بجوارها أن تستيقظ هي الأخرى ؛ فتتميز الأم غيظاً ، و تصك باب غرفة النوم بقوة زاعقة بزوجها :" أنظر ، لقد تركتني بعد أن أيقظت الجميع !" و تواصل الزعيق حتى توقظ الولد أيضاً . و غضبُ ليديا سهل الثوران ، و سريع الخمود . فما أن يبدأ الأطفال باستهلال ثرثرتهم ، حتى تتحول إلى ترتيب الغرفة . ثم تبدأ بالدندنة ، و تفتح باب غرفة النوم بحذر شديد و تقول :"مرحبا ، ألم تغف ؟ ماذا أردت أن أقول- هل كان الصيد جيداً ؟ ألم تسمع شيئا عن شكل الحفل الذي سيقيمونه ؟" "لا ، لم يكونوا قد استيقظوا ." "حسنٌ ، عليك أن تتوقف عن الكلام الآن ، و تخلد إلى النوم " تقول ليديا و هي تغلق الباب ثانية . ثم تحدث جلبة لجعل الأطفال يلزمون الهدوء . و تعاود الترتيب و الدندنة و هي تفكر ملياً في الاحتفال القادم . فيما مضى من الأيام كانوا يعرفون أصول اقامة الحفلات في بيت جونسون صاحب المرفأ : كانت الاستعدادات تستمر أياماً بطولها ، و تستدعي الحاجة طلب عون الاخرين في شغل المطبخ ، و يُرسل في طلبها شخصياً . أما حفلة هذا اليوم ، فلم تردها أي كلمة عنها ، و لهذا فلا بد أن تكون محض حفلة اعتيادية . و لعل الموضوع لا يعدو في واقع الحال أن يكون دعوة يقيمها الإبن الشاب "شلدروب جونسون" لبعض أصدقائه . بعد ذلك ، في الصباح ، عندما يخرج الناس ، و يبدأون بالتجوال في المدينة ، تتركز الشائعات بصدد خبر تدشين سفينة ك . أ. جونسون في هذا اليوم . و تكف ليديا عن التفكير ، إذ يتضح الآن أن هنالك بالفعل حفلة صاخبة من المرجح إقامتها اليوم على شرف قبطان السفينة و وجهاء المدينة . و يبدو أنهم قد عزموا على تدبير الأمور في المطبخ دون الاستعانة بخدماتها . حسنٌ ، حظاً سعيداً لهم ! و تستعد ليديا لإلباس أطفالها أردية أنيقة ، فتزيل عنها البقع الغريبة ، و تلمع أحذيتهم بشحم الخنزير و السخام ، و ترتدي ملابس مناسبة . و في العصر ، تبدأ المسيرة الضخمة شطر رصيف الميناء . كان الربيع قد انصرم أكثره ، و الناس يرتدون ملابس خفيفة ، مكونين منظراً بهيجاً . لقد حُمِّلت السفينة "فيا" ، و هي جاهزة الآن للإبحار . لم تعد هذه السفينة جديدة ، فقد بُنيت في الأيام التي كانت فيها سفن الشحن المتوسطة الحجم لا تكلف أكثر من مائتي ألف كرون . و ها هو جونسون صاحب المرفأ يبتاعها الآن من مدينة "گوتنبرك"، و يبدل اسمها بـ "فيا" تيمناً باسم ابنته الصغيرة ، و يجددها . و لا بد أن مبالغ طائلة قد انفقت لشراء مثل هذه السفينة ، و ترميمها ، و إظهارها بمظهر السفينة الجديدة ! و يقال أن إبدال اسمها وحدة قد كلف مبلغاً كبيراً . و لكن ما قيمه مثل هذا المبلغ عند جونسون صاحب المرفأ ؟ و الآن ترسو السفينة "فيا" هناك : إنها السفينة البخارية الوحيدة التي تملكها المدينة الصغيرة ، و هي أعجب عجائبها . و من الطبيعي أن الصغيرة فيا كانت على متن سفينتها التي توشك أن تقلع ، و هي تجلس الآن في مقصورة القيادة مع أبويها و القبطان . و من الطبيعي أيضاً أن شقيقها الشاب اليافع "شلدروب" يعتلي ظهر السفينة . ها هو يبدو الآن شاباً رائعاً ، مفعماً بالحيوية بقامته الفارعة ، مرتديا بذلة خفيفة ، و ياقة مخملية لسترته السوداء على وفق آخر مقتضيات الأناقة . إنه إبن جونسون ، و وريثه الذي يمتلك عيني أبيه الكستنائيتين ، و خطاً من الزغب على وجنتيه . تُرفع له القبعات ، فيرفع بدوره قبعته لرد التحية ، و يبقى مكشوف الرأس معظم الطريق المؤدي إلى قمرة القيادة . السفينة راسية ، و لكن مراجلها تغلي ، و هي تنفث سحب الدخان . و كل شيء هادئ هناك على السطح . فالمساعد الأول للقبطان و معه بقية البحارة يصطفون عند حاجز السفينة : يبصقون في مياه البحر، و يتبادلون الأحاديث القصيرة مع معارفهم على الرصيف . و البحار"اوليفر أندرسن" يعرف محلة جيدة ، و يلتزم أقصى مكان إلى الأمام . لقد خدم عدة سنين من قبل على متن سفينة شراعية . و اوليفر شاب اعتيادي ، أزرق العينين ، ينحدر من عائلة عمالية ؛ و لكنه رجل جاد ، و جسور ، و ابن أرملة . و إذ كان طوله أقل من المتوسط ، إلا انه مُلتز الجسم - يشبه صورة لنابليون ، و إن كان قد أطلق لحيته . و في هذه السنة ، على وجه التحديد ، جدّد رصف سقف كوخه بالبلاط الأحمر ، و شيّد مشتملاً في أحد الجوانب . لا شك انه كان يفكر في مستقبله . يقول مخاطباً أمه الأرملة الواقفة على الرصيف و هي تضع كفيها تحت شالها :" مؤكد - من المؤكد ، أنني سأكتب لك من البحر الأبيض المتوسط . " مرحى : هكذا يتكلم الرجال الكبار، و إن كان الكلام موجهاً في الواقع إلى الناس الآخرين الواقفين على الرصيف- إلى البنات ، و منهن " پيترا "- التي سيتركها بعد قليل- و هي تقف هناك بخاتم الخطوبة في إصبعها و المتطلبات الأخرى كلها . "و لا تنسي إرواء الحديقة ،" يضيف على سبيل النكتة حسب ، فملاحظته لا تعني أي شيء أبداً . فالله يعلم ، و الجميع يعلمون أن اوليفر لم يكن يمتلك أي حديقة . كل ما في الأمر أن أمه قد غرست بعض بذور الجزر و اللفت بمحاذاة المسكن . تبتسم الأم شاحبة : فهي تعرف ولدها : إن البديهة لا تعوزه أبداً كلما اقتضى الأمر إلقاء نكتة ، بل لا تعوزه الحيلة إزاء أي شيء البتة . و بوصفها أمه ، فهي لا تعرف غير خصاله الحميدة : أنه ذو عقل كبير، و هو يحسن استعماله . يستدير المساعد الثاني للربان إلى الأمام- لا بد أن فتاته تقف هي الأخرى على الرصيف- و يوجه كلامه بلهجة آمرة مبالغ فيها و هو يشير إلى طرف حبلٍ ما :"اربط ذلك الحبل هناك : أنت !". يبتعد اوليفر قليلاً و هو يتمنى في سره لو انه يقدر على النزول إلى الرصيف لحظة واحدة ، أو حتى نصف لحظة ، لاهتبلها فرصة لإهداء فتاته كيس الزبيب الذي يحتفظ به في جيبه . حسنٌ ، إنه قادر في الأقل على أن يجعل الآخرين يحسون بوجوده . " كارلسن !" ينادي على الحدّاد ، "من حسن حظي أنني رأيتك . أنا مدين لك بثمن تلك المشدات التي زودتني بها لتثبيت الميازيب الجديدة في داري ." يعلو الارتباك محيا كارلسن إذ يجد العيون كلها مسلطة عليه ، فيجيب :" لا بأس ، لا تشغل نفسك كثيرا بأمر بسيط كهذا . سيكون لديك متسع من الوقت عندما تعود إلى البيت ثانية ." غير أن اوليفر يخرج محفظته في غضون ذلك ، و ينفحه المبلغ من فوق حاجز السفينة ، و هو يسأله :" المبلغ كامل ، أليس كذلك ؟ " إن عرضاً كهذا للحرص على دقائق الأمور و على مرأى و مسمع الناس يضع اوليفر في قمة العالم . من كان هناك ليشهد سلوكه اللائق هذا ؟ إنها پيترا ، حظه من الدنيا ، و أيضاً ليديا مع أطفالها ، و التي ترقب كل شيء بنظرات حادة كالموسى . و زوجها السماك يورگن حاضر أيضاً في ركن ما على الهامش . و لكن ما أن يبدأ وجهاء المدينة بالوصول سالكين طريقاً يمر بركنه مباشرة ، حتى يبتعد بهدوء ليتخذ لنفسه مكاناً أكثر أماناً . و الآن يأتي دور عليّه القوم ، و أصحاب السفن ، و الطبيب ، و كبار التجار ؛ و كان بعضهم ما يزال ببذلة الاحتفالات التي ارتداها لوليمة الغذاء في بيت القنصل . يصل هؤلاء المكان بالأزهار المعلقة بسترهم ، و هم يعتمرون القبعات العالية . هو ذا المحامي "فريدركسن" الذي يجب أن يكون متوفزاً ، و على أتم الاستعداد لإلقاء كلمة مهيبة ، مع أن الوقت المناسب لذلك لم يحن . لقد اعتاد أن يتصدر المناسبات بوصفه الشخص المسؤول عن تنظيم الاجتماعات في المدينة و إلقاء الخطب فيها . تظهر عائلة جونسون من مقصورة القيادة . ها هو جونسون نفسه بعينه الكستنائيتين الجذابتين ، و كرشه الفارع ، مع زوجته التي تمسك بيد ابنتها الصغيرة فيا . و ما أن يترجلون من السفينة ، حتى يفسح الجميع لهم المجال ، و لا يبقى في طريقهم حتى طفل واحد . الناس الذين يمتلكون سفناً بخارية من حقهم أن يحصلوا على مجال واسع على رصيفهم بحسب الأصول . يتسلق الربان بخفة جسر السفينة ، و يؤشر إلى غرفة المكائن قائلاً : "انطلاق ." تُسحب الحبال التي تربط السفينة بالمرسى ، و يرفع الربان قبعته ، فيلوّح له أهله و أصدقاءه على الرصيف . تهتز السفينة ، ثم تنزلق نحو عرض البحر . و في اللحظة الأخيرة ، يرمي اوليفر كيس الزبيب إلى الرصيف . لا بد أنه قد تثبت من إصابة الهدف المرجو على هذا النحو أو ذاك . ها قد أزف الموعد . يتقدم فريدركسن إلى الأمام رافعاً قبعته الحريرية عالياً ، و يدعوا للسفينة و لمالكها و لبحارته بالنجاح و الحظ السعيد ، فيستجيب له السامعون هاتفين : "هورا !" و هكذا تبحر السفينة فيا إلى البحر الأبيض المتوسط . أما كيس الزبيب ، فقد أصاب هدفه فعلاً ، و لكنه كان هدية غير مرغوب فيها ، بل و حتى فاضحة ، فقد تمزق حال سقوطه على الأرض ، و انتثرت حباته على ألواح الرصيف . يا له من موقف لطيف ! افتر ثغر پيترا عن ابتسامة احتجاج ، و وقفت و الدمع يترقرق في عينيها ، في حين راحت أم اوليفر تجمع الزبيب بشالها . كان ذلك - مع التحذيرات الخطيرة - هو كل ما بوسعها عمله لمنع الأطفال من وطء نعمة الله بأقدامهم . و يمر وجهاء المدينة بمشهد المعركة المصغرة بما فيهم آل جونسن . يبتسم شلدروب الإبن لپيترا ، و يهمس إليها :" هيا ، التقطي زبيبك !" فيحمر وجهها ، و ترفع رأسها متمنية لو أن الأرض تنشق لابتلاعها..
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
-
قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
-
الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
-
مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 6
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 5
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 4
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 3
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 2
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 1
-
الفأر -شار- ، و الحيّة -أم دَيّة-
المزيد.....
-
يونس عتبان.. الاستعانة بالتخيل المستقبلي علاج وتمرين صحي للف
...
-
في رحاب قلعة أربيل.. قصة 73 عاما من حفظ الأصالة الموسيقية في
...
-
-فيلة صغيرة في بيت كبير- لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميل
...
-
باللغة الفارسية.. شيخ الأزهر يدين استمرار الغارات الإسرائيلي
...
-
“اخر كـلام “موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 195 الموسم السابع في
...
-
فيلم -المخطط الفينيقي-.. كم تدفع لتصبح غنيا؟
-
حرارة الأحداث.. حين يصبح الصيف بطلا صامتا في الأفلام
-
-بردة النبي- رحلة كتاب روائي في عقل إيران الثورة
-
تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2025 بتحديثه الجديد على النايل
...
-
قصة الرجل الذي بث الحياة في أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|