أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - إنتَظِرِيْنا قصة قصيرة














المزيد.....

إنتَظِرِيْنا قصة قصيرة


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 3510 - 2011 / 10 / 8 - 22:08
المحور: الادب والفن
    


جَلَستْ تغسِلُ حُزْنَها بماءِ النّدى النّديِّ صباحاً بعدَ ليلةِ ذِكرياتٍ منهِكةٍ وطويلةْ، خَدَرٌ في يديها وعيناها تريانِ الأشياءَ مُزْدَوَجَةً كأنها ترى بكلِّ عينٍ على حِدةْ، يصعدُ الحنينُ من مَعِدَتِها إلى شفتيها كَزَبَدٍ لا يُرى، يجفُّ ليصيرَ نِداءً ويسيلُ فيتحوَّلُ إلى عِفريتِ غضبٍ مختومٍ بالرّصاصِ السُّليمانيّْ، وفيما الشمسُ ترتَقي ببطءٍ مَلولٍ إلى رأسِ الشجرةِ الوحيدةِ في الفِناءِ المنزليِّ الخاوي سوى من الرَّملِ، كانَ الماءُ يتسرّبُ من بينِ أصابعِها دونَ أن يأخذَ معهُ لحظةَ حزنٍ واحِدة، وكانتْ تعرِفُ من قبل أن الحزنَ لا يُغسَلُ بالماءِ ولا يجفُّ بحرارةِ الشَّمس، ومع ذلكْ، ظلّتْ كلَّ هذه السنواتْ تفعلُ ذلكَ في الصباحِ كطقسٍ طبيعيٍّ لا يمكنُ تبديلُهُ.

في بعضِ الأحيانِ كانتْ تشاركُها بعضُ النسوةِ في الحيِّ الفقيرِ طقسَها، وينسابُ الماءُ في جداولَ صغيرةٍ تنتهي إلى جذعِ الشجرةِ حيثُ يلهو أولادُ الجاراتِ بالماءِ المقدّسِ الذي تبثُّهُ أيدي الأمّهاتِ، فيبدو الماءُ أحياناً كأنّهُ صُراخٌ مكتومٌ يخيفُ الصِّبيةَ، وفي أوقاتٍ أخرى يطلُّ مُشَكِلاً رسوماتٍ يفسِّرُها الأولادُ في مسابقاتٍ تعبِّئُ نهاراتِهم الفارغةْ، فاعتادوا مع الوقتِ على الجَلسةِ التي تتبعُ طقسَ حمّامِ الحزنِ الذي لا ينتهي، حيثُ تجلسُ الأمّهاتُ في حلقةٍ حولَ الأمِّ صاحبةِ الفِناء، التي بلا زوجٍ ولا أولادٍ معروفين، رغمَ أن الحكايةَ تقولُ أنّها كانت في يومٍ من الأيّامِ تتوسَّطُ أسرةً بأعدادٍ كبيرةٍ من البناتِ والأولادْ، ولم يعرِفْ أحدٌ ممن هم على قيدِ الحياةِ ما الذي حدثَ بالضبطِ حينَ أفاقوا في أحدِ الأيامِ على المرأةِ وهي تقومُ بطقسِها، وقد أصبحتْ وحيدةً كشجرةِ الكينا الوحيدة في فناءِ منزِلِها غير المزروعِ رغم أن الجميعَ كانوا يتمنّونَ ربعَ مساحةٍ كتلكَ كي يملأوها بالأشجارْ.

في الجلسةِ التي تعقِدُها الأمّهاتُ حولَ صاحبةِ حمّامِ الحزنِ وهالةِ الحنين على شفتيها، كنَّ يغنّينَ أغانٍ تُخرِسُ الحماماتِ والدورياتِ والبلابلَ القريبةَ، أغانٍ يحسُّ الأولادُ بالحزنِ يبلِّلُ الرملَ منها، كانتْ واحدةٌ منهنَّ تبدأُ والباقياتُ يردِّدْنَ وراءها مقطعاً مُكَمِّلاً، في مشهدٍ يبدو وكأنّهنَّ تدَرَّبنَ عليهِ مليونَ سنةٍ من شدّةِ إتقانِهِ:

ـ يا جَبَلْ زاحو الزَّمَنْ من مَحلّوْ
ـ حرمِنْ ضحكاتي ودمعاتي حَلّو
ـ يا جَبَلْ ساقو الغيمْ على عيني
ـ دَمْعاتو جَرَّايِةْ ما بينَكْ وبيني
ـ يا جَبَلْ جبَلتِ افْكاري من طينو
ـ شلَّعِتْ قلبِي وأنا بسألْ وينو
ـ يا جَبَلْ راقِدْ صَخرو على صِدْرِي
ـ يا نِنّْ عيني والله كان بَدْرِي

كانَ الغِناءُ يستمرُّ حتى تنسى النّسوةُ ميعادَ رجوعِ أزواجهنَّ الغاضبين الجائعينَ من العمل، حتى الصِّغار لم يكونوا يفكِّرونَ في الجوعِ مأخوذينَ بما يرَونَهُ ويسمعونَهُ، والذي سيحفرونَهُ في ذاكراتِهِم إلى يومٍ يصيرونَ فيه مسنّينَ كثيراً ويأتيهِمْ شبّانٌ بآلاتِ تسجيلٍ صغيرةٍ كي يسجِّلوا الأغاني التي يحفظُها من كانوا صِغاراً ذاتَ يومٍ دونَ أن يكونَ لهم أدنى فكرةٍ عن التحوّلاتِ التي سيأخذُها الزمنُ، أو أي فكرةٍ أخرى خارجَ ما يحدثُ أمامَ أعيُنِهِمْ.

غالباً ما كانتْ الأمّهاتُ يُصَبْنَ بالإنهاكِ الواضحِ بعدَ طقسٍ مثلَ هذا، ويعُدْنَ إلى بيوتِهِنَ بوجوهٍ قَسّاها الحزنُ والطقسُ المهيب، حتى أن الأزواجَ الذين يكونونَ في أشدِّ حالاتِهمْ المزاجيّة عصبيَّةً، كانوا يتراجعونَ حتى عن طلبِ كأسِ ماءٍ إذا أحسّوا بالعطَشْ، وكانوا يقومون بحركاتٍ خجولةٍ لإرضاءِ النِّساءِ رغمَ أنَّ هذه الحركاتِ كانت تبدو عاديَّةً لمن يشاهدها من بعيد، وفي الحقيقةِ أنّ النساءَ لم يكنَّ يوماً ـ بعدَ طقسِ حمّامِ الحزنِ ـ ينتبِهنَ إلى أي من هذه الحركاتْ، وكأنَّ عقولهنَّ انتقلتْ إلى مكانٍ آخرْ.

أما المرأةُ، فما زالتْ إلى اليومِ، تغسِلُ حُزْنَها بماءِ النّدى النّديِّ، وتتذكَّرُ الشاحنةَ بلونِها الكاكي، وبصوتِها الذي يشبِهُ زئيرَ أسدٍ في مأزِقْ، وهي تبتعِدُ حتى تصيرَ نقطةً في الفراغْ، وصوتٌ قادِمٌ من الشاحِنةِ يصرخُ حتى غابَ الصوتانِ معاً: انتظرينا...

8 تشرين أول 2011



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سمَّيتُها بلادي ونمتُ
- فِتْنَةُ الرّاوِي الّذي عاشَ أكْثَرَ ممّا يجِبْ
- كبلادٍ مهزومةٍ وجميلةْ
- الحسن والحسين، أخطاء تاريخية بالجملة
- في حضرة الغياب، إنتاج هزيل وغير مدروس
- الوقتُ في الثلاّجة
- آتٍ لا يأتي
- أَشْهَدُ
- عليّْ قصة قصيرة
- رجلٌ بفصولٍ لا تُعَدٌّ
- لم يَعُدْ لي ما كانَ لي
- وفي آخِرِ اللَّيْلْ
- حينَ جَرَحْتَ السُّنْبُلَةْ
- هكذا سيقولُ نايٌ لشهيقِ العازِفِ:
- رفح... أو بعبارةٍ أخرى، عن حبيبتي عليها اللعنةُ
- ساذجون ويحاولون استسذاج الآخرين
- الأدب الفلسطيني بخير ردا على مقالة د. فيصل درّاج: لماذا لم ...
- أولُ البيوتِ وأولُ الذاكرة قصة قصيرة
- في مروري على الرمل
- ويحدث أن


المزيد.....




- شاهد رد فعل هيلاري كلينتون على إقالة الكوميدي جيمي كيميل
- موسم أصيلة الثقافي 46 . برنامج حافل بالسياسة والأدب والفنون ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- إندبندنت: غزة تلاحق إسرائيل في ساحات الرياضة والثقافة العالم ...
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- مسرح الحرية.. حين يتجسد النزوح في أعمال فنية
- أبحث عن الشعر: مروان ياسين الدليمي وصوت الشعر في ذروته
- ما قصة السوار الفرعوني الذي اختفى إلى الأبد من المتحف المصري ...
- الوزير الفلسطيني أحمد عساف: حريصون على نقل الرواية الفلسطيني ...
- فيلم -ذا روزز- كوميديا سوداء تكشف ثنائية الحب والكراهية


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - إنتَظِرِيْنا قصة قصيرة