أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أقاليمٌ مُنجّمة 2















المزيد.....

أقاليمٌ مُنجّمة 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2242 - 2008 / 4 / 5 - 10:58
المحور: الادب والفن
    



الملحمة القمبزيّة ، جازَ لي إستعادتها ، لحظة إعتراض حافلتنا من لدن شبح ، جهم ، ما كان في حقيقته سوى أحد عناصر مفرزة الأمن ، المتركنة في حجرة صغيرة على مدخل مدينة " أوغاريت " . ثمانية أشهر ، تقريباً ، مضتْ على تجنيدي ، خلالها أنهيتُ دورة تدريبيّة بمدرسة الكيمياء . شاء سعدُ نجمي أن أفرز لكتيبة ، قليلة الأفراد ، يقع مقرّها على الهضبة المنيفة ، الحارسة لمركز المدينة . كنا نشغل حجراتٍ ثلاثا حسب ، حسنة التجهيز ، علاوة على مستودع يحتوي غالباً على صناديق خشبيّة ، تحتمي فيها الكمامات ، الواقيَة . قائد وحدتنا كان قد غادر إلى العاصمة في دورة ما ، أكاديميّة ، وحلّ بمكانه ملازم مجنّد ؛ إسمه " موفق " ، من صالحيّة الشام . فلا غروَ ، والحالة هذه ، أن يضحي الملازم صديقا لي ، حميماً ، حتى أنه إقترح عليّ من ثمّ مقاسمته حجرة في مركز المدينة ، كان يستأجرها . سيكلفني نصف راتبي ، الزهيد أصلاُ ، عرضُ صديقي هذا ، فإعتذرتُ عن قبوله ، متحججاً بأنّ مقر مفرزتنا مجاورٌ أيضاً للمركز .

كيسٌ بلاستيكيّ ، مرقشٌ بإسم أحد المحلات ، الشهيرة ، في " الصالحيّة " ، هوَ هديّة " فريدة " لأهلها ، المقيمين في أحد ضواحي هذه المدينة البحريّة . كنتُ متردداُ ، بشأن زيارتهم . ما أن تقودني قدماي إلى موقف الحافلات ، الخاص بـ " القريَة " ، حتى أراني متراجعاً في اللحظة الأخيرة . هكذا ، عدتُ إلى عادة التسكع ، خائضاً الشوارع المؤرّجة معاً برائحة البحر والمطر . " الكورنيش " ، مقفرٌ في هذا الوقت من السنة ، تهيمن على سكونه العتمة ، الرطبة ، وهدير الموج الصخاب . أرسلُ طرفي نحوَ المشهد الساحر ، المُحتفي بأضواء المرفأ وبواخره العملاقة ، الراسية ؛ هذه المثير إنكسار نورها في الماء بهجة النفس ، المتوحّدة . حتى إذا شعرتُ بالضجر ، فإنني سرعانَ ما أنساق إلى الدرب المؤدي لساحة " الشيخ ضاهر " ، ومن هناك إلى الطريق المنتهي بالجامع " العمري " ؛ أين شقة صديقي الملازم ، التي تقع في ملحق الأعلى لبنايةٍ من عدة أدوار . هنا ، ما كان لدينا بعد العشاء ما نفعله سوى توزيع الورق . عندئذٍ ، غالباً ما ينده صديقي على جاره " تامر " ، المقيم مع عائلته في البناء المجاور . إنه جاويشٌ متطوّع ، من عناصر وحدتنا ؛ رجلٌ خفيف الظلّ ، في نحو الخمسين من عمره ، يصبغ شعره بالحناء . ها هوَ في ملبس الجينز ، وفمه يلوك اللبّان ، يُشاركنا السهرة صحبة مجند آخر ؛ منعوت بلقب " أبي الهوى " ، يعمل سائقا لدينا . هذا الأخير ، يتحدّر بدوره من الشام ؛ من إحدى الضياع ، المحاذية للحدود اللبنانية . وبما أنه أخذ عن أهلها مهنة التهريب ، فكان لا يهدأ في تنقله بسيارة الخدمة ، محملاً ببضاعة منطقة " العريضة " ، والتي يتجر بها علانية . إنه هوَ من أتاح لي التغلب على ترددي ، حينما علمتُ منه بسكنه في " القريَة " . أمر لقاء أسرة فتاتي ، كان ما فتأ هاجساً لديّ ، ليسَ فقط لموضوع الأمانة التي أحملها لهم ، بل وخاصة ً رغبتي ، الدفينة ، في إشباع الفضول بالتعرّف ، عن قرب ، على جغرافيّة مُلغزةٍ لخرافة . هكذا إتجهتُ إلى " القرية " ، في عصر اليوم التالي مباشرة ً ، برافقة سائقنا هذا ، بعدما أخبرته بنيّتي زيارة عائلة صديقة . سيارتنا ، " جيبواز " ، كانت عندئذٍ شارعة في تجاوز إحدى حافلات النقل العام ، حينما لمحتُ بين ركابها وجهاً مألوفاً ، ساهماً ومهوّماً . عرفته على الفور .

رغم صمتها ، رأيتُ الأمّ تكادُ لا تحيد بنظرها عني . ولكن حرجي زالَ نوعاً ، في غمرة إستقبالهم الحسَن وطيبتهم . تسني لي ، مليّاً ، فرصة مقارنة " بشير " ، ذكر العائلة الوحيد ، بأخواته الثلاث ، المتواجدات معنا ، والشقراوات جملة ً . صغراهنّ ، " لينا " ، لم يلفح رأسها أكثر من هاجرات مواسم ، عشر . وقد راحت ببراءتها تمطرني بالأسئلة عن " فريدة " ، فيما أصرّ الآخرون على تجنب سيرتها ، وكأنما أنا قادمٌ إليهم من طرف شخص آخر . ربما أوحيَ لهم ، على كلّ حال ، بأنّ معرفتي بإبنتهم ، إنما هيَ من وارد سكناها ورجلها في جوارنا . " يسرى " ، كبرى البنات هنا ، أبدتْ إهتماماً بما جاء في حديثي ، عرضاً ، من إضطراري قطع دراستي الجامعية ، كيما أؤدي خدمة العلم .
ـ " هل بإمكاني المجيء معكَ إلى الشام ، كي أرى أختي ؟ " ، سألتني الصغيرة من جديد . لاحظتُ نظرة الأمّ تمعن في مجاهل الحزن ، فيما هيَ تعاينُ تلعثمي وإحمرار وجهي : قدّرتُ أنها لابدّ وتعلم أشياء عن " فريدة " ، غير سارّة . همهمة ما ، غريبة ، أنقذتْ موقفي هذا ، اللعين . إلتفتُ إلى مصدر الصوت . إنها " تهاني " ، البنيّة ذات الشعر المائل للحمرة ، والمتركنة بإصرار خلف ماكنة الخياطة ؛ هيَ من راحتْ تهمهمُ بعبارات غريبة .
ـ " القرد الذي تزوّجته ملكة " سبأ " ، يتكلم ويُنشد الأشعارَ ! " ، بادرتني من ثمّ بهذه العبارة ، وكأنما تنقل إليّ خبراً سمعته للحظتها . الوجومُ ، خيّم على الأسرة لبرهة . بيْدَ أنّ " بشير " ، متجاهلاً الموقف المُحرج ، سرعان ما إبتدهني بمساءلةٍ عن أمور دراستي ، وما إذا كنتُ في سبيل الإنتقال إلى جامعة " الثورة " . في هذه الأخيرة ، كما إستطردَ هوَ ، يدرس التاريخ في سنته االأولى ، وأنه يرغبُ في السنة التالية الإنتقال للعاصمة ، بعدما تدبّر له أحد الأقارب عملاً . هذا الفتى الوسيم ، الجمّ التواضع والتهذيب ، ما كان له إلا أن يشدّ عاطفتي تجاهه . الحق ، أنّ إبتهاجه بهديّة " فريدة " ، قد ضافرَ في كسر حرَجي . تفهمه للحياة ، لأمر يستحق الدهشة ؛ هوَ غير الممتحن بعد بتجاربها ، المريرة .

***
متضجّراً من ليالي المفرزة ، المتوحّدة ، رأيتني على لهفةٍ لحلول يوم الخميس ، المُصاقب موعدي مع العائلة ، الأسبوعيّ . توثقت ، إذاً ، علاقتي مع أهل " فريدة " ، لدرجة إلحاحهم عليّ كيما أبيت لديهم ، في تلك الليلة من كلّ عطلة . من جهة اخرى ، فشغفي بالتجوال خلل دروب هذه المدينة ، كان على الأرجح سبباً رئيساً في قراري ، أخيراً ، مشاركة " موفق " سكناه . إنها المرة الأولى ، على أيّ حال ، التي أشاركُ فيها أحدهم حجرته ، دونما شعور بالضيق والحرَج . لا بدّ أن روح الجماعيّة ، المميّزة لحياة العسكريّ ، قد جعلتْ مني إنساناً منفتحاً على الاخرين . سألني صديقي عن أمر العائلة ، فزعمتُ له أنني تعرفتُ بهم عن طريق قريبهم ، المقيم في الحارَة . ما كان ليهمّ " موفق " ، من أمر زياراتي الأسبوعية ، سوى أنها تتيحُ له حريّة إصطحاب صديقته إلى الغرفة . إنها ، بحسب ما فهمته ، إمرأة صغيرة السنّ ، متزوّجة من رجل يعمل ميكانيكياً في سفينة تجاريّة ، تجوبُ شواطيء المتوسط ، مملوكة من لدن شركة يونانيّة . وعلى هذا ، فهيَ وحيدة معظم العام ، لا أنيس لها في المنزل إلا طفلتها ذات العمر الغضّ .

أهلُ " فريدة " ، في الواقع ، أكثر فقراُ مما تصورتُ . بيتهم ، شبه الريفيّ ، يكاد أن يكون خالياً من أثاثٍ مُعتبّر . دعتني كبرى البنات لكي أرافقها لرؤية البقالية ؛ مصدر رزقهم ، الوحيد . كانت عبارة عن حجرة منزلية ، فتحوا لها باباً وواجهة على الدرب السالكة . رحتُ من ثمّ أتجوّل ببصري عبر الرفوف الخشبية ، المتمايل عليها زجاجات الخمرة وقطرميزات المكسرات ، علاوة على مهرّبات اخرى .
ـ " هذه هيَ تجارتنا ! " ، قالت لي " يسرى " ، متبسّمة . بعدئذٍ سألتني ، ما إذا كنتُ أحبّذ شربَ العرَق على العشاء . كنتُ في ذلك المساء على موعدٍ ، آخر ، مع " أبي الهوى " ؛ سائقنا ، الذي يقيم في جوارهم . ولكنّ الشقراء ، العنيدة ، ما قبلتْ إعتذاري : " والدتنا ، إكراماً لكَ ، ضحّت الليلة بإحدى دجاجاتها ، الأثيرة " ، إستطردت وهيَ على المزاج المرح ، نفسه . بدوري ، عليّ كان أن أتألم لفقرهم ، لا للضحيّة المسكينة .

في إحدى الليالي ، العائليّة ، شرعتْ " يسرى " بتهيئة فراشي . كانت ساعة من الليل ، متأخرة ، أخلدَ فيها شقيقها للنوم ، إثرَ إحتسائه عدة أقداح من الخمرة . وقفتُ قرب الباب ، متثائباً ، منتظراً إنتهاء الشقراء مما بيدها . وإذا بها تفجؤني بإندساسها ، المعابث ، في فراشي ورفعها اللحاف حتى أسفل أنفها النحيل ، المنمنم .
ـ " تصبح على خير ! " ، قالتها بجديّة متكلفة . جاريتُ مسلكها ، موحياً بهمّي مغادرة الحجرة . فما عتمتْ أن إنتهضت بنصفها من فراشي ، وكأنما صدّقتْ حركتي :
ـ " ولكن ، إلى أين يا هذا ؟ "
ـ " سأذهبُ للنوم مع إمرأة عمكِ ! "
ـ " يا لكَ من عربيد .. "
ـ " أين سأنام ، إذاً ، يا حلوة ؟ " ، أجبتها متقمّصاً هيئة ً محتارة ، فيما أشرع بالجلوس على طرف الفراش . ولكنها تزحزحت إلى الطرف الاخر ، مثبتة فيّ عينيها ، العسليتين ، لتقول بدلال :
ـ " لستُ حلوة ، كشاميّاتكَ "
ـ " وأين رأيتِهم أنتِ ؛ شاميّاتي ؟ "
ـ " أتهزأ بي ، كوني لم أزر العاصمة قط ؟ " ، سألتني بعتب ونظرة حالمة ، أكثرَ منها حزينة ، تتغشى لحاظها . قلتُ لها ببساطة ، مؤكداً : " وهذا حالي ، أيضاً . فلولا العسكريّة ، لما تسنى لي رؤية مدينتكم الجميلة وبحركم الرائع " . على أنها ، بحركة آسرة من حاجبيْها ، المهملين ، حذرتني قائلة :
ـ " لا يجدر بكَ الكذب "
ـ " ولم الكذب ، في آخر الأمر ؟ "
ـ " هل تريد إقناعي بأنّ عائلتكَ لا تحضر هنا ، كل عام ، للإصطياف ؟ "
ـ " ولا في أيّ عام ، بحسب علمي "
الإرتياح ، ظهرَ جلياً على قسماتها . ثمّ ما لبثتْ بعيد صمتٍ ، قصير ، أن همستْ مشيرة نحوَ أخيها ، النائم : " هوَ يعتقد ، أنّ على المرء الفخر بكونه فقيراً . ما رأيكَ أنت ؟ " . هممتُ الإجابة ، وإذا بها تعود لطرح سؤال آخر ، كأنما خطرَ لها على حين فجأة : " لو كنتَ غنياً ، هل ترضى ... صحبتنا ؟ " . خيّل إليّ ، لحظتذٍ ، أنه نداءٌ ما ؛ هاتفٌ ملهوف ، يصّاعدُ من سدائف هذه الليلة ، الشتويّة . لم أجب بشيء . كنتُ أتأملها حسب ؛ هيَ الما فتأت متشبثة بلحافي ، فيما جعلت ساعديها متكأً لرأسها ، كاشفة ً بذلك عن نصاعة إبطين ، فضيين ، وإستدارة هلاليّة لنهدين صغيرين ، نافرين . مُداعباً ، هممتُ أطوّق تاجها ، الأبهى ، المتوسّد مخدّتي . ولكنها إنفلتت بخفة ، ما توقعتها . جازَ للكدر أن يدهمني ، في حمأة سوء الفهم هذه . ولم يكن عليّ ، أيضاً ، أن أحرّك ساكناً ، حينما عمدَتْ الشقراء إلى المغادرة ، قائلة ً بنبرة غامضة ، فيما باب الحجرة يوارب قامتها الممشوقة : " أنا لستُ مثلَ تلك ، الشاميّة " .

***
كنا في أواخر آذار ، عندما باغتتني " يسرى " بإقتراحها أن تأتي ، صحبة شقيقها ، لزيارة الدار التي أسكنها . إذ قدّرتُ أن صديقة " موفق " ربما لم تغادر بعد ، في هذه الساعة ، المبكرة ، من يوم الجمعة . على أنّ " بشير " كان عليه أن ينقذني من ورطتي ؛ هوَ الما عتم أن فضل القيام بنزهة ، مشتركة ، إلى منطقة " رأس الشمرة " ، الأثريّة . ونحن في الحافلة ، التي أقلتنا إلى تلك الوجهة ، علمتُ منه أنّ " مينة البيضا " ، هيَ المرفأ القديم لتلك الحاضرة ، الفينيقية ، وأنها تقع إلى الشمال من المدينة . ثمّ ما لبث التلّ ، الأثريّ ، أن بدا لناظري ـ كعجوز دهريّ ، محفر الوجه بأخاديد الزمن . في إرتقائنا الموقع ، توقعتُ أن يتجلى ذاكَ القصر الملكيّ ، المنيف ، الذي كان " بشير " قد أسهب بوصفه . وكان أن دهمني شعورٌ من الخيبة ، لدى رؤيتي جدراناً مهشمة ، تتخللها خنادق عريضة ؛ وكأننا في موقع حربيّ .
ـ " هذه الحفائر ، توحي لنا بما كانه القصر في ذلك الزمن ، الغابر ، من إتساع وحسن تنظيم وإحتواء أقسامه ، المتنوّعة على كل ما يجدر بعاصمة ملكيّة ، مزدهرة " : قال دليلنا ، الفتى ، وهوَ يُعاين ما إعتراني من قنوط ، إلى درجة إشاحتي بوجهي جهة َ الأحراش المُحاذية للبحر ، والممتدة حتى رؤوس الجبال البعيدة ، الحالقة . ثمّ أضاف " بشير " مازحاً ، لما رآني ممعناً في التجهّم : " لقد إستحوذ أصحابكَ ، الشوامُ ، على معظم محتويات هذا القصر " . إلتفت إليه ، مضيّقا عينيّ بتساؤل . فأوضح بلهجة اخرى ، أكثرَ جديّة ، أنّ متحف العاصمة يضمّ آثار " أوغاريت " ، في قاعة خاصّة يحملُ إسمها . هربتُ بعينيّ ، مجدداً ، نحوَ المناظر الطبيعيّة ، الخلابة ، متوجّساً من تطوّر الموضوع إلى نقطةٍ ، معيّنة ، تفضح جهلي بمحتويات أيّ متحف . في ظلّ خميلةٍ ، مزهرة ، جلسنا نتناولُ غداءنا . بدورها ، كانت الشمسُ في أوج تفتحها ، يهوّن من وهجها النسيمُ الربيعيّ ، المشحون بأنفاس آلهة الوادي المقدّس ، الهائمة .
ـ " نخب أجدادنا ، الفينيقيين والهوريين ! " ، هتفَ فتانا وهوَ يرفع قدحه ، المترع عرَقاً . كانت هذه بمثابة فاتحة ، إستهلّ بها " بشير " ما إنقطع من تاريخه . هكذا هاجمَنا ، بلا رحمة ، بسيف " أددْ ريميْ " ؛ جدّه الأول ، الذي حكم الحاضرة الفينيقيّة من " آلا لخ " ، المتركنة على نهر " العاصي " ، قربَ مدينة " انطاكية " . متوسّداُ يديّ المضمومتين خلف رأسي ، كنتُ أختلسُ كلّ فينةٍ إلماعة من " يسرى " ، المُهيمنة بإيماءتها على المشهد . على حين غرة ، شعرتُ أن كلّ شيء إختلط عليّ ؛ أنّ جفنيّ أغلقا على تبدد الحضور ، الصديق .

ما أسرعَ أن أوقظتُ على ملمس ما ، حان ، راح يداعب وجهي . صورتها المتألقة ، بهرتني . كدتُ أن أنكرها ، وهيَ بهيئة ، غريبة ، لولا همزة طرفها ، العسليّ . كانت متوّجة الجبين بغصن من أوراق الزيتون ، ذهبيّ ، متدلية منه حباتٌ ثلاث من زمّرد ـ كتاج إلهةٍ ، منتصرة . من القبعة ، المخروطيّة الشكل ، ينحدرُ وشاحٌ حريريّ إلى الخلف ، ليُظهر وجهها الخمريّ ، الرائق . تأملتُ ، بالدهشة نفسها ، الرداء المتماوج ، الذي شفّ عن عري جسدها . ثمّة وشمٌ على السرّة ، عليه كتابة نذريّة ، ربما تنتمي لفجر ولادتها :
ـ " أتستمتعُ بتأمل وشمي ؟ "
ـ " ولكن " يسرى " ، أنا لا أفهمُ شيئاً من كلّ هذا ؟ "
ـ " إدعني بإسمي ؛ فأنا " عشتار " .. ! " ، قالتها ببساطة وبلهجةٍ غريبة في آن . ثمّ ما لبثت أن أشارتْ إلى وشمها ذاكَ ، المُحتفي بمفردتيْن ، ملغزتيْن :
ـ " هذا " تيشوب " ؛ إسمكَ . وهذا " إيل " ؛ إسمُ شقيقنا .. "
ـ " لا ، أنا لستُ أخاكِ " ، قلتُ لها منتفضاً بجزع . ثمّ شئتُ تذكيرها بإسم شقيقها ، الغائب ، وإذا ببريق في عينيها ، غامض ، يخرسُني :
ـ " هوَ ذاكَ ؛ إنه " إيل " ! " ، قالت بظفر . من الناحية تلك ، المحتبية التلّ الكبير ، الغارق في الظلال ، والمتجه إليها بصرها ، كان شخصٌ غريبٌ يتقدّم نحونا بهدوء . وعرفته ، ما أن أضحى بقربنا . لحيته المستدقة ، المستعارة ولا شكّ ، جعلته يبدو أكبرَ من سنه الحقيقية ، الفتية . تربّع بمواجهتنا ، فيما يداه متصالبتين فوق صدره . كلّ ما فيه ينطق بالعظمة ، اللهمّ إلا عينيه ، الوديعتين . قبعة ٌ من " البولوس " تهيمن على رأسه ، المهيب ، ثبّت فيها عند الجبين حبّة ٌ من الألباتر ، فيها نقشٌ دقيق يمثل رأس ماعز . وكان على ذهولي أن يشتدّ ، بإنتباهي إلى ملبسي ذاته ، الغريب ، الذي لا يقلّ إشكالية عما يحيط بي من غرائب .
ـ " ليأتِ إليّ ، أولاً ، ذاكَ المؤثر أخاه على نفسه "
قالت بلهجتها تلك ، الملغزة ، مومئة ً برأسها ناحية الخميلة ، القريبة . ثمّ ما عتمت أن مضتْ بإتجاه مصطبة ثمة ، مُرخمة ، تتوسطها بركة ماء ، محفوفة الجوانب بشجر حَوْر ، حارس . تابعتها في مشيتها ؛ في تمايل فضة ردفيها ؛ وفي رقادها ، أخيراً ، على مضجع من الأبنوس ، مفروش بريش النعام . وكانت اللحاظ الآسرة ، العسليّة ، ما تني مرسَلة نحونا ، حينما إنتهض صاحبي متجهاً إلى تلك الجهة عينها . الشمسُ ، كان لها ان تغيب في اللحظة هذه ، الوثنيّة ، وأن يعمّ المشهدَ ظلمة ٌ بهيمة ؛ ظلمة ، راحتْ تجثم رويداً على أنفاسي . لم أعُد أبصرُ خميلة ً ولا مصطبة ولا بركة . وما من أربابٍ ، بعد .

الضياءُ الغامرُ ، كان يسطعُ في عينيّ لما أفقتُ . تنهيدة ٌ عميقة ، عليها كان أن تفرخ خلبسة َ كابوسي ، المنجلي للتوّ ، حالَ رؤيتي " يسرى " ، المتمددة إلى جانبي . كانت هيَ من تعهّد إيقاظي ، على الأرجح ، بتمريرها على وجهي لغصن من الزيتون ، رهيفٍ ، كان في يدها . متثائباً ، رحتُ أتطلع حولي ، باحثاً بعينين ، خاملتين ، عن " بشير " . ثمّ سألتها عنه ، فيما أهمّ برفع زجاجة الماء نحو فمي ، الجاف :
ـ " ولكن ، أنا لا أرى أخاكِ ؟ "
ـ " أنتَ أخي .. ! " .

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آية إشراق لنبيّ غارب ٍ
- أقاليمٌ مُنجّمة *
- مَناسكٌ نرجسيّة 6
- سطوٌ على المنزل الأول
- مَناسكً نرجسيّة 5
- القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
- مَناسكٌ نرجسيّة 4
- من جسر ثورا إلى عين الخضرة
- مَناسكٌ نرجسيّة 3
- مَناسكٌ نرجسيّة 2
- مَناسكٌ نرجسيّة *
- دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
- ميرَاثٌ مَلعون 5
- ميرَاثٌ مَلعون 4
- ذهبٌ لأبوابها
- ميرَاثٌ مَلعون 3
- ميرَاثٌ مَلعون 2
- ميرَاثٌ مَلعون *
- كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
- أختنا الباكستانية ، الجسورة


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أقاليمٌ مُنجّمة 2