أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أقاليمٌ مُنجّمة 2















المزيد.....

أقاليمٌ مُنجّمة 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2242 - 2008 / 4 / 5 - 10:58
المحور: الادب والفن
    



الملحمة القمبزيّة ، جازَ لي إستعادتها ، لحظة إعتراض حافلتنا من لدن شبح ، جهم ، ما كان في حقيقته سوى أحد عناصر مفرزة الأمن ، المتركنة في حجرة صغيرة على مدخل مدينة " أوغاريت " . ثمانية أشهر ، تقريباً ، مضتْ على تجنيدي ، خلالها أنهيتُ دورة تدريبيّة بمدرسة الكيمياء . شاء سعدُ نجمي أن أفرز لكتيبة ، قليلة الأفراد ، يقع مقرّها على الهضبة المنيفة ، الحارسة لمركز المدينة . كنا نشغل حجراتٍ ثلاثا حسب ، حسنة التجهيز ، علاوة على مستودع يحتوي غالباً على صناديق خشبيّة ، تحتمي فيها الكمامات ، الواقيَة . قائد وحدتنا كان قد غادر إلى العاصمة في دورة ما ، أكاديميّة ، وحلّ بمكانه ملازم مجنّد ؛ إسمه " موفق " ، من صالحيّة الشام . فلا غروَ ، والحالة هذه ، أن يضحي الملازم صديقا لي ، حميماً ، حتى أنه إقترح عليّ من ثمّ مقاسمته حجرة في مركز المدينة ، كان يستأجرها . سيكلفني نصف راتبي ، الزهيد أصلاُ ، عرضُ صديقي هذا ، فإعتذرتُ عن قبوله ، متحججاً بأنّ مقر مفرزتنا مجاورٌ أيضاً للمركز .

كيسٌ بلاستيكيّ ، مرقشٌ بإسم أحد المحلات ، الشهيرة ، في " الصالحيّة " ، هوَ هديّة " فريدة " لأهلها ، المقيمين في أحد ضواحي هذه المدينة البحريّة . كنتُ متردداُ ، بشأن زيارتهم . ما أن تقودني قدماي إلى موقف الحافلات ، الخاص بـ " القريَة " ، حتى أراني متراجعاً في اللحظة الأخيرة . هكذا ، عدتُ إلى عادة التسكع ، خائضاً الشوارع المؤرّجة معاً برائحة البحر والمطر . " الكورنيش " ، مقفرٌ في هذا الوقت من السنة ، تهيمن على سكونه العتمة ، الرطبة ، وهدير الموج الصخاب . أرسلُ طرفي نحوَ المشهد الساحر ، المُحتفي بأضواء المرفأ وبواخره العملاقة ، الراسية ؛ هذه المثير إنكسار نورها في الماء بهجة النفس ، المتوحّدة . حتى إذا شعرتُ بالضجر ، فإنني سرعانَ ما أنساق إلى الدرب المؤدي لساحة " الشيخ ضاهر " ، ومن هناك إلى الطريق المنتهي بالجامع " العمري " ؛ أين شقة صديقي الملازم ، التي تقع في ملحق الأعلى لبنايةٍ من عدة أدوار . هنا ، ما كان لدينا بعد العشاء ما نفعله سوى توزيع الورق . عندئذٍ ، غالباً ما ينده صديقي على جاره " تامر " ، المقيم مع عائلته في البناء المجاور . إنه جاويشٌ متطوّع ، من عناصر وحدتنا ؛ رجلٌ خفيف الظلّ ، في نحو الخمسين من عمره ، يصبغ شعره بالحناء . ها هوَ في ملبس الجينز ، وفمه يلوك اللبّان ، يُشاركنا السهرة صحبة مجند آخر ؛ منعوت بلقب " أبي الهوى " ، يعمل سائقا لدينا . هذا الأخير ، يتحدّر بدوره من الشام ؛ من إحدى الضياع ، المحاذية للحدود اللبنانية . وبما أنه أخذ عن أهلها مهنة التهريب ، فكان لا يهدأ في تنقله بسيارة الخدمة ، محملاً ببضاعة منطقة " العريضة " ، والتي يتجر بها علانية . إنه هوَ من أتاح لي التغلب على ترددي ، حينما علمتُ منه بسكنه في " القريَة " . أمر لقاء أسرة فتاتي ، كان ما فتأ هاجساً لديّ ، ليسَ فقط لموضوع الأمانة التي أحملها لهم ، بل وخاصة ً رغبتي ، الدفينة ، في إشباع الفضول بالتعرّف ، عن قرب ، على جغرافيّة مُلغزةٍ لخرافة . هكذا إتجهتُ إلى " القرية " ، في عصر اليوم التالي مباشرة ً ، برافقة سائقنا هذا ، بعدما أخبرته بنيّتي زيارة عائلة صديقة . سيارتنا ، " جيبواز " ، كانت عندئذٍ شارعة في تجاوز إحدى حافلات النقل العام ، حينما لمحتُ بين ركابها وجهاً مألوفاً ، ساهماً ومهوّماً . عرفته على الفور .

رغم صمتها ، رأيتُ الأمّ تكادُ لا تحيد بنظرها عني . ولكن حرجي زالَ نوعاً ، في غمرة إستقبالهم الحسَن وطيبتهم . تسني لي ، مليّاً ، فرصة مقارنة " بشير " ، ذكر العائلة الوحيد ، بأخواته الثلاث ، المتواجدات معنا ، والشقراوات جملة ً . صغراهنّ ، " لينا " ، لم يلفح رأسها أكثر من هاجرات مواسم ، عشر . وقد راحت ببراءتها تمطرني بالأسئلة عن " فريدة " ، فيما أصرّ الآخرون على تجنب سيرتها ، وكأنما أنا قادمٌ إليهم من طرف شخص آخر . ربما أوحيَ لهم ، على كلّ حال ، بأنّ معرفتي بإبنتهم ، إنما هيَ من وارد سكناها ورجلها في جوارنا . " يسرى " ، كبرى البنات هنا ، أبدتْ إهتماماً بما جاء في حديثي ، عرضاً ، من إضطراري قطع دراستي الجامعية ، كيما أؤدي خدمة العلم .
ـ " هل بإمكاني المجيء معكَ إلى الشام ، كي أرى أختي ؟ " ، سألتني الصغيرة من جديد . لاحظتُ نظرة الأمّ تمعن في مجاهل الحزن ، فيما هيَ تعاينُ تلعثمي وإحمرار وجهي : قدّرتُ أنها لابدّ وتعلم أشياء عن " فريدة " ، غير سارّة . همهمة ما ، غريبة ، أنقذتْ موقفي هذا ، اللعين . إلتفتُ إلى مصدر الصوت . إنها " تهاني " ، البنيّة ذات الشعر المائل للحمرة ، والمتركنة بإصرار خلف ماكنة الخياطة ؛ هيَ من راحتْ تهمهمُ بعبارات غريبة .
ـ " القرد الذي تزوّجته ملكة " سبأ " ، يتكلم ويُنشد الأشعارَ ! " ، بادرتني من ثمّ بهذه العبارة ، وكأنما تنقل إليّ خبراً سمعته للحظتها . الوجومُ ، خيّم على الأسرة لبرهة . بيْدَ أنّ " بشير " ، متجاهلاً الموقف المُحرج ، سرعان ما إبتدهني بمساءلةٍ عن أمور دراستي ، وما إذا كنتُ في سبيل الإنتقال إلى جامعة " الثورة " . في هذه الأخيرة ، كما إستطردَ هوَ ، يدرس التاريخ في سنته االأولى ، وأنه يرغبُ في السنة التالية الإنتقال للعاصمة ، بعدما تدبّر له أحد الأقارب عملاً . هذا الفتى الوسيم ، الجمّ التواضع والتهذيب ، ما كان له إلا أن يشدّ عاطفتي تجاهه . الحق ، أنّ إبتهاجه بهديّة " فريدة " ، قد ضافرَ في كسر حرَجي . تفهمه للحياة ، لأمر يستحق الدهشة ؛ هوَ غير الممتحن بعد بتجاربها ، المريرة .

***
متضجّراً من ليالي المفرزة ، المتوحّدة ، رأيتني على لهفةٍ لحلول يوم الخميس ، المُصاقب موعدي مع العائلة ، الأسبوعيّ . توثقت ، إذاً ، علاقتي مع أهل " فريدة " ، لدرجة إلحاحهم عليّ كيما أبيت لديهم ، في تلك الليلة من كلّ عطلة . من جهة اخرى ، فشغفي بالتجوال خلل دروب هذه المدينة ، كان على الأرجح سبباً رئيساً في قراري ، أخيراً ، مشاركة " موفق " سكناه . إنها المرة الأولى ، على أيّ حال ، التي أشاركُ فيها أحدهم حجرته ، دونما شعور بالضيق والحرَج . لا بدّ أن روح الجماعيّة ، المميّزة لحياة العسكريّ ، قد جعلتْ مني إنساناً منفتحاً على الاخرين . سألني صديقي عن أمر العائلة ، فزعمتُ له أنني تعرفتُ بهم عن طريق قريبهم ، المقيم في الحارَة . ما كان ليهمّ " موفق " ، من أمر زياراتي الأسبوعية ، سوى أنها تتيحُ له حريّة إصطحاب صديقته إلى الغرفة . إنها ، بحسب ما فهمته ، إمرأة صغيرة السنّ ، متزوّجة من رجل يعمل ميكانيكياً في سفينة تجاريّة ، تجوبُ شواطيء المتوسط ، مملوكة من لدن شركة يونانيّة . وعلى هذا ، فهيَ وحيدة معظم العام ، لا أنيس لها في المنزل إلا طفلتها ذات العمر الغضّ .

أهلُ " فريدة " ، في الواقع ، أكثر فقراُ مما تصورتُ . بيتهم ، شبه الريفيّ ، يكاد أن يكون خالياً من أثاثٍ مُعتبّر . دعتني كبرى البنات لكي أرافقها لرؤية البقالية ؛ مصدر رزقهم ، الوحيد . كانت عبارة عن حجرة منزلية ، فتحوا لها باباً وواجهة على الدرب السالكة . رحتُ من ثمّ أتجوّل ببصري عبر الرفوف الخشبية ، المتمايل عليها زجاجات الخمرة وقطرميزات المكسرات ، علاوة على مهرّبات اخرى .
ـ " هذه هيَ تجارتنا ! " ، قالت لي " يسرى " ، متبسّمة . بعدئذٍ سألتني ، ما إذا كنتُ أحبّذ شربَ العرَق على العشاء . كنتُ في ذلك المساء على موعدٍ ، آخر ، مع " أبي الهوى " ؛ سائقنا ، الذي يقيم في جوارهم . ولكنّ الشقراء ، العنيدة ، ما قبلتْ إعتذاري : " والدتنا ، إكراماً لكَ ، ضحّت الليلة بإحدى دجاجاتها ، الأثيرة " ، إستطردت وهيَ على المزاج المرح ، نفسه . بدوري ، عليّ كان أن أتألم لفقرهم ، لا للضحيّة المسكينة .

في إحدى الليالي ، العائليّة ، شرعتْ " يسرى " بتهيئة فراشي . كانت ساعة من الليل ، متأخرة ، أخلدَ فيها شقيقها للنوم ، إثرَ إحتسائه عدة أقداح من الخمرة . وقفتُ قرب الباب ، متثائباً ، منتظراً إنتهاء الشقراء مما بيدها . وإذا بها تفجؤني بإندساسها ، المعابث ، في فراشي ورفعها اللحاف حتى أسفل أنفها النحيل ، المنمنم .
ـ " تصبح على خير ! " ، قالتها بجديّة متكلفة . جاريتُ مسلكها ، موحياً بهمّي مغادرة الحجرة . فما عتمتْ أن إنتهضت بنصفها من فراشي ، وكأنما صدّقتْ حركتي :
ـ " ولكن ، إلى أين يا هذا ؟ "
ـ " سأذهبُ للنوم مع إمرأة عمكِ ! "
ـ " يا لكَ من عربيد .. "
ـ " أين سأنام ، إذاً ، يا حلوة ؟ " ، أجبتها متقمّصاً هيئة ً محتارة ، فيما أشرع بالجلوس على طرف الفراش . ولكنها تزحزحت إلى الطرف الاخر ، مثبتة فيّ عينيها ، العسليتين ، لتقول بدلال :
ـ " لستُ حلوة ، كشاميّاتكَ "
ـ " وأين رأيتِهم أنتِ ؛ شاميّاتي ؟ "
ـ " أتهزأ بي ، كوني لم أزر العاصمة قط ؟ " ، سألتني بعتب ونظرة حالمة ، أكثرَ منها حزينة ، تتغشى لحاظها . قلتُ لها ببساطة ، مؤكداً : " وهذا حالي ، أيضاً . فلولا العسكريّة ، لما تسنى لي رؤية مدينتكم الجميلة وبحركم الرائع " . على أنها ، بحركة آسرة من حاجبيْها ، المهملين ، حذرتني قائلة :
ـ " لا يجدر بكَ الكذب "
ـ " ولم الكذب ، في آخر الأمر ؟ "
ـ " هل تريد إقناعي بأنّ عائلتكَ لا تحضر هنا ، كل عام ، للإصطياف ؟ "
ـ " ولا في أيّ عام ، بحسب علمي "
الإرتياح ، ظهرَ جلياً على قسماتها . ثمّ ما لبثتْ بعيد صمتٍ ، قصير ، أن همستْ مشيرة نحوَ أخيها ، النائم : " هوَ يعتقد ، أنّ على المرء الفخر بكونه فقيراً . ما رأيكَ أنت ؟ " . هممتُ الإجابة ، وإذا بها تعود لطرح سؤال آخر ، كأنما خطرَ لها على حين فجأة : " لو كنتَ غنياً ، هل ترضى ... صحبتنا ؟ " . خيّل إليّ ، لحظتذٍ ، أنه نداءٌ ما ؛ هاتفٌ ملهوف ، يصّاعدُ من سدائف هذه الليلة ، الشتويّة . لم أجب بشيء . كنتُ أتأملها حسب ؛ هيَ الما فتأت متشبثة بلحافي ، فيما جعلت ساعديها متكأً لرأسها ، كاشفة ً بذلك عن نصاعة إبطين ، فضيين ، وإستدارة هلاليّة لنهدين صغيرين ، نافرين . مُداعباً ، هممتُ أطوّق تاجها ، الأبهى ، المتوسّد مخدّتي . ولكنها إنفلتت بخفة ، ما توقعتها . جازَ للكدر أن يدهمني ، في حمأة سوء الفهم هذه . ولم يكن عليّ ، أيضاً ، أن أحرّك ساكناً ، حينما عمدَتْ الشقراء إلى المغادرة ، قائلة ً بنبرة غامضة ، فيما باب الحجرة يوارب قامتها الممشوقة : " أنا لستُ مثلَ تلك ، الشاميّة " .

***
كنا في أواخر آذار ، عندما باغتتني " يسرى " بإقتراحها أن تأتي ، صحبة شقيقها ، لزيارة الدار التي أسكنها . إذ قدّرتُ أن صديقة " موفق " ربما لم تغادر بعد ، في هذه الساعة ، المبكرة ، من يوم الجمعة . على أنّ " بشير " كان عليه أن ينقذني من ورطتي ؛ هوَ الما عتم أن فضل القيام بنزهة ، مشتركة ، إلى منطقة " رأس الشمرة " ، الأثريّة . ونحن في الحافلة ، التي أقلتنا إلى تلك الوجهة ، علمتُ منه أنّ " مينة البيضا " ، هيَ المرفأ القديم لتلك الحاضرة ، الفينيقية ، وأنها تقع إلى الشمال من المدينة . ثمّ ما لبث التلّ ، الأثريّ ، أن بدا لناظري ـ كعجوز دهريّ ، محفر الوجه بأخاديد الزمن . في إرتقائنا الموقع ، توقعتُ أن يتجلى ذاكَ القصر الملكيّ ، المنيف ، الذي كان " بشير " قد أسهب بوصفه . وكان أن دهمني شعورٌ من الخيبة ، لدى رؤيتي جدراناً مهشمة ، تتخللها خنادق عريضة ؛ وكأننا في موقع حربيّ .
ـ " هذه الحفائر ، توحي لنا بما كانه القصر في ذلك الزمن ، الغابر ، من إتساع وحسن تنظيم وإحتواء أقسامه ، المتنوّعة على كل ما يجدر بعاصمة ملكيّة ، مزدهرة " : قال دليلنا ، الفتى ، وهوَ يُعاين ما إعتراني من قنوط ، إلى درجة إشاحتي بوجهي جهة َ الأحراش المُحاذية للبحر ، والممتدة حتى رؤوس الجبال البعيدة ، الحالقة . ثمّ أضاف " بشير " مازحاً ، لما رآني ممعناً في التجهّم : " لقد إستحوذ أصحابكَ ، الشوامُ ، على معظم محتويات هذا القصر " . إلتفت إليه ، مضيّقا عينيّ بتساؤل . فأوضح بلهجة اخرى ، أكثرَ جديّة ، أنّ متحف العاصمة يضمّ آثار " أوغاريت " ، في قاعة خاصّة يحملُ إسمها . هربتُ بعينيّ ، مجدداً ، نحوَ المناظر الطبيعيّة ، الخلابة ، متوجّساً من تطوّر الموضوع إلى نقطةٍ ، معيّنة ، تفضح جهلي بمحتويات أيّ متحف . في ظلّ خميلةٍ ، مزهرة ، جلسنا نتناولُ غداءنا . بدورها ، كانت الشمسُ في أوج تفتحها ، يهوّن من وهجها النسيمُ الربيعيّ ، المشحون بأنفاس آلهة الوادي المقدّس ، الهائمة .
ـ " نخب أجدادنا ، الفينيقيين والهوريين ! " ، هتفَ فتانا وهوَ يرفع قدحه ، المترع عرَقاً . كانت هذه بمثابة فاتحة ، إستهلّ بها " بشير " ما إنقطع من تاريخه . هكذا هاجمَنا ، بلا رحمة ، بسيف " أددْ ريميْ " ؛ جدّه الأول ، الذي حكم الحاضرة الفينيقيّة من " آلا لخ " ، المتركنة على نهر " العاصي " ، قربَ مدينة " انطاكية " . متوسّداُ يديّ المضمومتين خلف رأسي ، كنتُ أختلسُ كلّ فينةٍ إلماعة من " يسرى " ، المُهيمنة بإيماءتها على المشهد . على حين غرة ، شعرتُ أن كلّ شيء إختلط عليّ ؛ أنّ جفنيّ أغلقا على تبدد الحضور ، الصديق .

ما أسرعَ أن أوقظتُ على ملمس ما ، حان ، راح يداعب وجهي . صورتها المتألقة ، بهرتني . كدتُ أن أنكرها ، وهيَ بهيئة ، غريبة ، لولا همزة طرفها ، العسليّ . كانت متوّجة الجبين بغصن من أوراق الزيتون ، ذهبيّ ، متدلية منه حباتٌ ثلاث من زمّرد ـ كتاج إلهةٍ ، منتصرة . من القبعة ، المخروطيّة الشكل ، ينحدرُ وشاحٌ حريريّ إلى الخلف ، ليُظهر وجهها الخمريّ ، الرائق . تأملتُ ، بالدهشة نفسها ، الرداء المتماوج ، الذي شفّ عن عري جسدها . ثمّة وشمٌ على السرّة ، عليه كتابة نذريّة ، ربما تنتمي لفجر ولادتها :
ـ " أتستمتعُ بتأمل وشمي ؟ "
ـ " ولكن " يسرى " ، أنا لا أفهمُ شيئاً من كلّ هذا ؟ "
ـ " إدعني بإسمي ؛ فأنا " عشتار " .. ! " ، قالتها ببساطة وبلهجةٍ غريبة في آن . ثمّ ما لبثت أن أشارتْ إلى وشمها ذاكَ ، المُحتفي بمفردتيْن ، ملغزتيْن :
ـ " هذا " تيشوب " ؛ إسمكَ . وهذا " إيل " ؛ إسمُ شقيقنا .. "
ـ " لا ، أنا لستُ أخاكِ " ، قلتُ لها منتفضاً بجزع . ثمّ شئتُ تذكيرها بإسم شقيقها ، الغائب ، وإذا ببريق في عينيها ، غامض ، يخرسُني :
ـ " هوَ ذاكَ ؛ إنه " إيل " ! " ، قالت بظفر . من الناحية تلك ، المحتبية التلّ الكبير ، الغارق في الظلال ، والمتجه إليها بصرها ، كان شخصٌ غريبٌ يتقدّم نحونا بهدوء . وعرفته ، ما أن أضحى بقربنا . لحيته المستدقة ، المستعارة ولا شكّ ، جعلته يبدو أكبرَ من سنه الحقيقية ، الفتية . تربّع بمواجهتنا ، فيما يداه متصالبتين فوق صدره . كلّ ما فيه ينطق بالعظمة ، اللهمّ إلا عينيه ، الوديعتين . قبعة ٌ من " البولوس " تهيمن على رأسه ، المهيب ، ثبّت فيها عند الجبين حبّة ٌ من الألباتر ، فيها نقشٌ دقيق يمثل رأس ماعز . وكان على ذهولي أن يشتدّ ، بإنتباهي إلى ملبسي ذاته ، الغريب ، الذي لا يقلّ إشكالية عما يحيط بي من غرائب .
ـ " ليأتِ إليّ ، أولاً ، ذاكَ المؤثر أخاه على نفسه "
قالت بلهجتها تلك ، الملغزة ، مومئة ً برأسها ناحية الخميلة ، القريبة . ثمّ ما عتمت أن مضتْ بإتجاه مصطبة ثمة ، مُرخمة ، تتوسطها بركة ماء ، محفوفة الجوانب بشجر حَوْر ، حارس . تابعتها في مشيتها ؛ في تمايل فضة ردفيها ؛ وفي رقادها ، أخيراً ، على مضجع من الأبنوس ، مفروش بريش النعام . وكانت اللحاظ الآسرة ، العسليّة ، ما تني مرسَلة نحونا ، حينما إنتهض صاحبي متجهاً إلى تلك الجهة عينها . الشمسُ ، كان لها ان تغيب في اللحظة هذه ، الوثنيّة ، وأن يعمّ المشهدَ ظلمة ٌ بهيمة ؛ ظلمة ، راحتْ تجثم رويداً على أنفاسي . لم أعُد أبصرُ خميلة ً ولا مصطبة ولا بركة . وما من أربابٍ ، بعد .

الضياءُ الغامرُ ، كان يسطعُ في عينيّ لما أفقتُ . تنهيدة ٌ عميقة ، عليها كان أن تفرخ خلبسة َ كابوسي ، المنجلي للتوّ ، حالَ رؤيتي " يسرى " ، المتمددة إلى جانبي . كانت هيَ من تعهّد إيقاظي ، على الأرجح ، بتمريرها على وجهي لغصن من الزيتون ، رهيفٍ ، كان في يدها . متثائباً ، رحتُ أتطلع حولي ، باحثاً بعينين ، خاملتين ، عن " بشير " . ثمّ سألتها عنه ، فيما أهمّ برفع زجاجة الماء نحو فمي ، الجاف :
ـ " ولكن ، أنا لا أرى أخاكِ ؟ "
ـ " أنتَ أخي .. ! " .

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آية إشراق لنبيّ غارب ٍ
- أقاليمٌ مُنجّمة *
- مَناسكٌ نرجسيّة 6
- سطوٌ على المنزل الأول
- مَناسكً نرجسيّة 5
- القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
- مَناسكٌ نرجسيّة 4
- من جسر ثورا إلى عين الخضرة
- مَناسكٌ نرجسيّة 3
- مَناسكٌ نرجسيّة 2
- مَناسكٌ نرجسيّة *
- دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
- ميرَاثٌ مَلعون 5
- ميرَاثٌ مَلعون 4
- ذهبٌ لأبوابها
- ميرَاثٌ مَلعون 3
- ميرَاثٌ مَلعون 2
- ميرَاثٌ مَلعون *
- كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
- أختنا الباكستانية ، الجسورة


المزيد.....




- يتصدر عمليات البحث الأولى! .. فيلم مشروع أكس وأعلى الإيردات ...
- المخرج علي ريسان يؤفلم سيرة الروائي الشهيد حسن مطلك وثائقياً ...
- فنانون سوريون ينعون ضحايا تفجير كنيسة مار إلياس
- المفكر الإيراني حميد دباشي.. التصورات الغربية عن الهوية الإي ...
- فيلم -باليرينا-.. درس جديد في تصميم الأكشن على طريقة -جون وي ...
- التشادي روزي جدي: الرواية العربية طريقة للاحتجاج ضد استعمار ...
- ما آخر المستجدات بحسب الرواية الإسرائيلية؟
- تردد قناة ماجد الجديد لأطفالك 2025 بأحلى أفلام الكرتون الجذا ...
- -أسرار خزنة- لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولو ...
- بمناسبة أربعينيّته.. “صوت الشعب” تستذكر سيرة الفنان الراحل أ ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - أقاليمٌ مُنجّمة 2