أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَناسكً نرجسيّة 5















المزيد.....

مَناسكً نرجسيّة 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2218 - 2008 / 3 / 12 - 09:59
المحور: الادب والفن
    



كأنما تخاطبُ نفسها ، شرَعتْ أمّي بالكلام عما دعته " قلة عقل فتاتنا " . فطوال أسبوع ، تتابعُ القولَ ، رافقتْ من مزار إلى آخر ، " مريمَ " المتوسلة بعطاياها لأولياء الله في حيّنا والأحياء المجاورة : " إلا وتريدني الآن الطلبَ من عمّنا الكبير أن يحاول ، بنفسه ، حثّ عقلاء آل " زينكيْ " ، كيما ينصاعوا لعرض الصلح " .
ـ " ولمَ لمْ يُبادر كبيرُكم ، قبلاً ، بهذا الأمر ؟ " ، تتساءلُ " صافية " . هزة رأس الأمّ ، المألوفة ، المُسددة نحوي ، كأنما كانت إشارة توحي بجهل إمرأة الأخ ، الغريبة ، طبْعَ " قادريكيْ " . بيْدَ أنها ، كعادتها أيضاً ، أرادت تبريرَ موقفه بالقول :
ـ " لقد أوقعنا لهمُ قتيلين ، وأضحى صوتُ العقل بينهم مغيّباً "
ـ " ولكنك ، على كلّ حال ، ستذهبين معها لمقابلته ؟ " ، أتوجّه لوالدتي بالكلام أخيراً . ثمّ تناهضتُ على الأثر ، للذهاب إلى مقرّ عملي ، الليليّ . حييتُ مودّعاً إمرأتيْ منزلنا ، مُودِعاً قلقهما لأنس المسلسل المصريّ ، الدراميّ .

فجراً ، في أوبتي من العمل ، رأيتني أضربُ خطوي على أرضيّة الجادّة ، الرئيسة ، مع إيقاع المآذن الداعية مريديها للصلاة . عندئذٍ ، كانت صورة " فريدة " ماثلة أمامي ثمة ؛ هيَ التي هامتْ تلك الليلة ، المشؤومة ، عبرَ دروب هذه الجادّة نفسها ، طريدة ً ومحبطة ويائسة . الغريب ، أنّ رجلها قد فقدَ أثره أيضاً . في بحثي الدائب عنه ، في جوانب الحديقة الكبرى ؛ في مكانه المُعتاد ذاكَ ، كنتُ في الواقع أبحثُ عمن يرشدني إليها . بدونها ، صرتُ ضائعاً . أدركتُ الآن ، في غيابها ، أنها كانت بمثابة كنف أمان لروحي الهائمة . " أضحى لجميع الأشياء طعم الرحيل ، المرّ " ، أرددُ في نفسي مهموماً . أتنبّه ، فجأة ً ، إلى أنّ هذه الجملة ، إن هيَ إلا من واردات مطالعتي ، شبه اليوميّة ، ليوميات زوج الأمّ الأول ؛ العقيد . بين أوراق المرحوم ، عثرتُ كذلك على مخطوطٍ قديم ، من وضع مدوّن مجهول ؛ وهوَ المخطوط ، الذي كان يردُ أحياناً في اليوميات بإسم " الكتاب السريّ " . مرة ً تلوَ الاخرى ، حاولتُ قراءة مفتتح المدوّنة ، دونما جدوى . ذبول أوراقها وتهافت خطوطها ، كان لا بدّ أن تثبط محاولاتي ، المتكررة . إلا أنّ تقليبي عبرَ صفحاتها ، أوحى لي أنّ أكثرَ من مؤلف ربما إشتركَ في التدوين ، بما أنّ المدوّنة محتوية على عديد من الحكايات .

قررتُ مواصلة السهر ، طالما نيّتي إتجهتْ لعدم حضور محاضرات الجامعة . على الشرفة ، كانت السماء السوداء تنذر بصباح ربيعيّ ، متجهّم . لم أعبأ بالنذير ؛ أنا غيرَ المُحتفي ، منذ دهر ، بالصباحات جميعاً ، رائقة أو نحسة . على الرغم من لسعة الهواء ، أنحنيتُ على المغسلة لأبلل وجهي قليلاً ، علني أستمدّ بعضاً من الصحو . ثمة ، على الطرف الآخر من موقفي ، كان البرج ثابتاً في مكانه ، المألوف ـ كخرافةٍ مُقيمة . بين نافذة البرج الوحيدة وبابه ، راحَ بصري يتنقلُ كليلاُ متناعساً . وقلتُ أنّ أقداراُ ما ، غابرة ، قد ربطتني بساكني هذا البرج ؛ أنّ عينين غريقتين هناك ، تحاولان عبثاً الخلاصَ من أخطبوط ذي أطرافٍ سامّة ، مُهلكة . مشفقة ، أو لا مبالية ربما ، مررَتْ الظلمة على نعاسي نسمة ً أقلّ وطأةٍ . أبصرتني أهمد على كرسيّ الخيزران ، المحاذي حافة الشرفة ، الواطئة ، والمتناسق عليها أصص الفلّ والغاردينيا ، المُقاومة للبرد والأطياف . مُنوّماً نوعاً ، طالعني مشهد إطلالتها ثمة ، على شرفة البرج . ما لبثَ صوتها الشجيّ ، الآسر ، أن همسَ بي : " تقدّم إليّ ولا تتذمّر " . هادئاُ وحالماً ـ كطفولتي ، كنتُ في اللحظة التالية أخطو نحوها ، غيرَ مهتمّ بكنه الدعوة ، شاعراً بالفراغ تحت قدميّ ، الحافيتين ، كما لو أنه رملٌ من هيولى . لم تزل كما تركتها بالأمس ؛ بجاكتة خمريّة وأثر دمع ، أخضر ، في عينيها الساحرتين .
ـ " هاكَ ، بُنيّ ! " ، قالت لي ، فيما ثديها يبرز من ثنية الجاكتة ، طافحاُ أكثرَ مما قدّر لبصري مباغتة عريه ، مرة ً . بشفة مرجفة ، إنثنيتُ أهمّ تلقف الحلمة ، النافرة ، الغامزة جوعي وجزعي ، وإذا بصوتٍ طاريء ، أصمّ ، يبعثر المشهد . كأنما رشقة ما ، ناريّة ، ملأتْ رأسي بالدخان . درتُ من ثمّ في أرجاء المكان ، باحثاً عنها بعينين ضريرتين ، قبل أن أهتدي إلى موقفها هناك ؛ خلف نافذة البرج : خيّل إليّ حينئذٍ ، أنّ سترتها مخضبة بالنجيع الورديّ ؛ أنّ أثرَ العبرات في مقلتيها حالَ خيوطاً لعنكبوت ؛ وأنّ الصورة المرعبة ، المتجسّدة خلفها ، تضافرُ حبسَ همسي وأنفاسي .

***
يقع منزلُ " قادريكيْ " في منتصف الزقاق ، تقريباً . كبره وإتساعه ، جعلاهُ يحدّ معظم بيوت أقاربنا . أول شيء يُصادف الزائر في المنزل هذا ، الأثريّ ، لا بدّ أن يوحي له بصورة صاحبه ، المرهوب الإسم . فالباب الخارجيّ ، المقوّس ، والمُصفح بالمعدن ذي المسامير الدقيقة ، كان في مركزه دقارة ، نحاسيّة ، على شكل رأس تنين . من هنا ، يمكن الوصول إلى أرض الديار ، عبرَ دهليز طويل ، فسيح وغير مسقوف ، ذي أرضيّة إسمنتيّة . لدى عبور المرء لممر الجنينة ، يمكنه ملاحظة وجود التنور العتيق ، الهامد بلا نأمة حياة في الجانب المتطرف ، والمركون تحت سقالة خشبية ، متيبّسة ومسودّة من أثر الهبوب ، الغابر . أمّا مصطبة العجن ، المتخلخل قرميدها ، فأضحتْ منملة كبرى ، عاجّة بطوابير كادحين ، يشغلون المسافة الفاصلة بين مملكتهم هذه وشجرة التين ، الحارسة لها . وكما هوَ حالُ أموره جميعاً ، الغريبة ، كان على كبير آلنا أن يتخذ له مسكناً أكثرَ حجرات الدار عزلة ً وطيْرة ؛ وأعني بها غرفة إبنه الراحل ، العقيد ، الكائنة إلى يسار الباب الخارجيّ مباشرة ً.

دلفنا خلل ممرّ الجنينة ، الذي أبلط بحجارة بيض ، يُزيدها نصاعة ً وهجُ هذا النهار الجميل ، الربيعيّ . الأمّ ، تطلبُ منا الهدوء ؛ هيَ المتجذر فيها تجاه عمّها شعورٌ ، عريقٌ ، من الرهبة والتهيّب ، وكأنما لم تقض في كنفه شطراً مهماً من صباها . وهيَ ذي " مريم " ، بدورها ، تبتده إحتفائها ، المألوف ، بطقس نذر تينة السبيل . تقتربُ من أدنى الفروع ، مُقبّلة إياه ، ثمّ لا تلبث أن تخرج من حقيبة يدها رقعة من قماش ، نهديّة اللون ، فتربطها بأحد أغصانه المُزهرة . عندئذٍ ، ما كان لي إلا أن أتساءل في سرّي بخبث ، فيما لو أنّ هذه الرقعة ، المُخرّمة ، مُقتطعة من سروال عتيق ، مُبتليَ البهاء ! أمّي تلتفتُ ناحيتي ، لتردد بصوت خفيض ، متأسّ :
ـ " حسرَتي على الروح البريئة "
ـ " ومع ذلك ، فإننا ندعوها " زيارة " .. ؟ "
ـ " صَه ! " ، تندّ عنها بحذر وتأنيب ، فيما بصرها يتناهى إلى النافذة القريبة لحجرة كبير الدار ؛ هذه المُسدلة الستائر ، والمُتسلق قضبانها لبلابٌ جريء ، مزهوّ بخضرته الخالدة . آيستُ من مناقشة والدتي ، بهذا الشأن . إذ لم يتسنّ لي ، أبداً ، أن سمعتها تتطرق لمأساة إبنة عمّها ؛ " فردوس " . إنها لحكاية قديمة ، رمَتْ مع ذلك ظلها على جيلنا ، الأحدث عهداً ؛ حكاية تقليديّة ، عن المرأة المقتولة جهلاً ، بعدما إتهمتْ ظلماً بشرفها . التينة هذه ، كانت الشاهدَ الوحيد على الجريمة . ولهذا صارتْ ، ولا غرو ، سبيلاً تلوّح على أفنانه شرائط ُ النذور ، المُسترحِمَة ، دفعاً لأذىً محتمل من لدن الروح البريئة ، التائهة . وأذكرُ ، لما كنا صغاراً ، إنصاتنا لأم " نورو " وهيَ تتحدث لقريباتها ، مُقسمة ً على رؤيتها " الزيارة " ليلاً ، المُتنقلة بملبسها الأبيض بين نافذة حجرة " قادريكيْ " وبابها . من جهته ، كان إبنها يذهب في الخرافة إلى حدّها ، الأقصى ، زاعماً خروج كبيرنا تحت إلحاف طرقات الطيف ، الضارعة ، وإنصاته للشكوى الأبديّة صامتاً ، مُطرقاً . وها هوَ الرجلُ ، يطلّ من الباب ذاته ، ليدعونا للدخول . هممنا بلثم يده ، ولكنه سحبها ببطء ، مقبّلاً كلّ منا في رأسه . مُتلعثماً ، خاطبتُ أمّي برغبتي التوجّه إلى " آموْجني " ( إمرأة العمّ ) ، بغيّة السلام عليها . رمقني هوَ بنظرةٍ عابرة ، إلا أنها مُعبّرة ربما عن مُراده في الُتهكم من جيلنا : مسائل الشرف والدم ، صارتْ في زمنكم هذا ، التعس ، من إختصاص النساء !

الممشى المُفضي للإيوان ، يُقسم الجنينة إلى حوضين مستطيلين ، رئيسين ، غاية في الإتساع ، تتناسق فيهما الورود والرياحين ، المُختلفة ، تتوسّطها وتحيطها الخمائل المُزهرة والأشجار المُثمرة . أما سقيفة الممشى ، فتتسلق دقرانها كرمة ٌ وارفة ، تكاد مهيمنة عليه جميعاً . الدرجات القليلة ، العريضة ، تأخذ المرءَ إلى الباحة العلويّة ، المُرخمة ، والتي يتصدّرها حجرتان ، كبيرتان ، يفصل بينهما الإيوانُ ذو السقف العالي ، المُزخرف بإتقان ـ كسجادةٍ عجميّة . ها هنا ، كانت " عايدة " مُستلقية ً في رخاء الجوّ الربيعيّ ، المعتدل ، متكئة ً إلى وسائد صغيرة ، مُظهّرة بالبروكار . إستقبلتني بلطف ومودّة ، ثمّ راحتْ تمطرني بالأسئلة عن دراستي وعملي . وكما هيَ عادتها في أحوال كهذه ، فقد أنشأت تثني على مسلكي ، المُستقيم ، فيما هيَ ترثي حالَ والدتي وكنتها ، الغريبة . كنتُ لا أشكّ بعواطف هذه المرأة ، تجاه الأمّ ؛ وهيَ التي خصتها بالرعاية منذ صغرها ، فضلاً عما لعبته من دور في مسألة زواجها ، الأول ، من المرحوم العقيد . يوميات هذا الأخير ، التي أطالعها كل يوم تقريباً ، فيها تفاصيل عديدة ، مثيرة ، عن تلك الأيام ، البعيدة ، الشاهدة على صِبا أمّي . فيما كنتُ منصتاً لإمرأة العمّ ، كانت عيناي تتأملان بإعجاب ملامحها ، البهيّة ، الناجية من غدر الزمن . رشاقة بدنها ، ذي اللون الرائق ، القمحيّ ، ما كانت إلا لتضافر عجب المرء ؛ خصوصاً ذلك العارف بأمور حياتها اليوميّة ، المُسترخية . فإنها لتكاد لا تمارس عملاً ، في الدار الكبيرة ، مع وجود ربيبتها " قمَر " ؛ الفتاة شبه المعتوهة ، المتجاوزة سنّ الزواج ، والقائمة بهمّة ونشاط على الخدمة .
ـ " يا للتعسة .. ! " ، تقول " عايدة " مومئة ً ناحية الفتاة ، التي كانت قد طالعتنا للتوّ بعينين مشدوهتين ووديعتين في آن ، وهيَ في موقفها خلف نافذة تلك الحجرة ، المُحاذية للإيوان . ثمّ تستطرد إمرأة العمّ ، باللهجة المتأسية نفسها : " في صباها ، كانت مضرب المثل بالجمال ، كحال شقيقتها ، المرحومة " فردوس " . ولكن إختلاط عقلها ، أفسَدَ ذلك الجمال . في زمننا ذاكَ ، بُنيّ ، كان ثمة قدر كبير من الظلم ، وياما راحتْ أرواحٌ بريئة ، لمجرّد شبهة أو دسيسة . كأنما نفس الإنسان ، التي حرّمها الله وقدّسها ، أرخص من حياة البهيمة " . ثمّ عادتْ تلتفتُ ناحيَة " قمر " ، لتشير إليها بحركة مُداعبة كيما تأتي إلينا . ولكنّ الفتاة ، في موقفها وراء نافذة حجرتها ، الكابوسيّة ، واصلتْ التحديق في نقطة ما ، مُعيّنة ، دونما أن توحي بأنها شاعرة ٌ بوجودنا . برهة اخرى ، وصوت الأمّ ، الواجف ، يتناهى إلينا فيما هيَ تدعو لعمّها ، الكبير ، بالعافية وطول العمر . بدوري ، تناهضتُ مستأذناً إمرأة العمّ ، مُتجهاً نحوَ المرأتين ، اللتين شرعتا بالخوض في الممشى ، المؤدي للإيوان . " يا كسولة ! لو أنك بمحل خالتكِ " قمر " ، لعمّ الخرابُ هذا البيت العامر " ، تقول الأمّ ، مازحة ً ، فيما هيَ تلفتُ " مريمَ " لما حولهما من أناقة وترتيب ونظافة : كانت هذه هيَ طريقتها ، المألوفة ، في صرف الآخرين عن همومهم ؛ فتيقنتُ إذاكَ أنّ المسعى المأمول ، لدى العمّ ، قد باءَ بالخيبة .

***
كما كان متوقعاً ، أطلقَ " عيسى " من محبسه ، إثرَ العفو ، العام ، الصادر بمناسبة تجديد بيعة عاهلنا ، المُباركة . طلعة الفتى ، البهيّة ، هلتْ بمقدم الزقاق ، مُكتسية شحوباً ، حيياً ، في غمرة المُستقبلين . زغاريد النسوة ، تماهت بلإطلاقات الناريّة ، المُحتفية . " مريم " كانت هنا ، أمام باب منزلنا ، وقد أكبّت على عنق شقيقها لثماً وإستعباراً ، قبل أن يتخلص منها بلطف ويلج مع الآخرين إلى أرض الديار . كان يوماً ، مُعيّداً ، إحتفلت به الطبيعة ، أيضاً ؛ بما نثرته من الدفء والنسيم الصباحيّ ، المؤرّج بعبق جنينة " قادريكيْ " ، المُجاورة . خاضَ المجتمعون بأحاديث شتى . بيْدَ أنهم ، وكما يقضي الذوق السليم ، تجنبوا الإشارة لمسألة الثأر ، المُستفحِلة . حتى إذا حضرَتْ العجوز " عابدة " ، بظهرها المحنيّ ووقع عصاها ، فقد شاءَ الصمتُ أن يهيمن على المكان .
ـ " الغائبُ لكم ، والهديّة لنا " ، قالت العجوزُ وهيَ توميء نحوي عينيها ، الكليلتين . عندئذٍ ، نقلت " مريم " ، باسمة ً ، لحظها بيني وبين شقيقها ، الغائب ، قبل أن تتناهض نحوَ المرأة ، الخرفة ، لتمنحها الإكراميّة ، المطلوبة . ولكنّ هذه الأخيرة ، عادتْ لتقذفنا بخرافة اخرى ، فيما هيَ تدسّ ورقة الصدَقة طيّ ثوبها ، الخلِق : " لتفرّ به أمّه ، قبل أن يعثر عليه اليهودُ ! " .

كانت أمّي قد توجّهتْ للفتى ، مذكرة ً إياه بضرورة زيارة العمّ الكبير ، حينما فرّت من الدهليز صيحة ٌ طفوليّة بإسم " قادريكيْ " . ثمّ ما عتمَ الرجلُ أن أقبلَ بمشيته ، الوئيدة ، مُتحاملاً على شيخوخته ـ كما " أطلس " ، غابر ، أحنى هامته عبءُ السلالة ، الصخريّة . لبثَ مُطرقاً برهة ً، عند مصطبة الحوش ، قبل أن يرفع رأسه ليجول بعينيه ، العميقتين ، بحثاً عن فتاه ، الباسل . أسرع " عيسى " إليه ، وإنحنى على يده . تأمله عمّنا بنظرة ما ، غامضة ، أكثرَ منها فخورة ، قبل أن يقبله بين عينيه ويتأبط ساعده . الصمتُ ، أطبق وقتئذٍ على الدار جميعاً ، وما عاد يتناهى حتى تغريد طيور الحديقة ، المجاورة ؛ هذه التي خرستْ كأنما على رؤوسها الطيرُ !
ـ " إحم آلكَ ، يا سيّدنا ! " ، خرق السكون صوتُ " عابدة " ؛ الصوتُ ، المُفعمُ بضراعة أمومة ، مُفتقدة . كانت مثبتة نظرتها بعينيّ الرجل الكبير ، ودونما تهيّب أو رهبَة ؛ هيَ العالمة ربّما بدالة خرفها . إطراقة " قادريكيْ " ، إشتدتْ توغلاً في أرضيّة الديار ، وكأنما تتراءى له أطياف سردابها . ثمّ ما لبثَ فمه ، الراعش ، ان تمتمَ : " وهوَ ذلك . سيقيمُ " عيسى " ، مذ اللحظة هذه ، في منزلي " . صوته القويّ ، الجاف ، إستعادَ خلوده فيما كان يشمل الحضورَ بنظرةٍ متأنية :
ـ " ما دمتُ حيّاً ، فما من مخلوق بقادر على مسّ شعرة من رأس هذا الرجل ! " .

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القبلة المنقذة في فيلم للأطفال
- مَناسكٌ نرجسيّة 4
- من جسر ثورا إلى عين الخضرة
- مَناسكٌ نرجسيّة 3
- مَناسكٌ نرجسيّة 2
- مَناسكٌ نرجسيّة *
- دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
- ميرَاثٌ مَلعون 5
- ميرَاثٌ مَلعون 4
- ذهبٌ لأبوابها
- ميرَاثٌ مَلعون 3
- ميرَاثٌ مَلعون 2
- ميرَاثٌ مَلعون *
- كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
- أختنا الباكستانية ، الجسورة
- جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
- زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
- الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
- زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء


المزيد.....




- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...
- كيلوغ: توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف تأخر بسبب ترجم ...
- عرض موسيقي مفاجئ من مانو شاو وسط انقطاع الكهرباء في برشلونة ...
- مسقط.. أكثر من 70 ألف زائر بيوم واحد للمعرض الدولي للكتاب


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَناسكً نرجسيّة 5