|
ميرَاثٌ مَلعون 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2162 - 2008 / 1 / 16 - 11:40
المحور:
الادب والفن
قبل حلول ذلك الصيف الساخن ، الشاهد على تألق زقاقنا بفتنةٍ حجبتْ ما قبلها وما بعدها ؛ قبل ذلك كله ، رحل " شور صورو " عن هذه الدنيا ، دونما أن يتسنى له معرفة ، أنّ الكنز الموعود ، الحقيقيّ ، قد باتَ في حوزة إبنه البكر . كنتُ إذاً في سنتي الإعدادية ، الأخيرة ، حينما زفتْ " مريم " ، ذات الأعوام الستة عشر ، إلى " يوسف " ، الذي شدّت على عمره أنشوطة الحلقة الرابعة . العروس الفاتنة ، تمتّ لأمي بقرابة العمومة ؛ وقرابة اخرى بي ، بما أن كلينا قد منحا في سنّ الرضاع الصدرَ العامر نفسه . إنها " ماما دنيا " ، والدة صديقي " نورو " ، من جمعتنا معاً في صفة الأخوّة ، المعلومة ؛ حالُ دارها الكبيرة ، التي إحتبت ألعاب طفولتنا ، الأثيرة ؛ وهيَ الدار ، المهيمن عليها في كل زمن ، ظلّ " قادريكي " ، الكبير .
ما أذكره من فترة خطبة أختنا ، المزعومة ، ما كان له إلا أن يطبعَ ، بالمقابل ، فترة مراهقتي . كتلك الظهيرة الحارّة ، في منزل " نورو " ، حينما شاءَ هوَ التمدد قربي ، على البلاط العاري لحجرة الجلوس ، وبمواجهتنا السرير الواطيء ؛ أين حركة البنات ، المتماثلات في السنّ ، لا تعرف الهدوء . ما يلبث صديقي أن يشتبك في لعبةٍ معابثة مع شقيقته وخالته ، محاولاً عبثاً جرّ " مريم " إلى تفاصيلها . هذه الأخيرة ، كانت تتأمل هدوئي ، باسمة ؛ أو ربما مثارة . كنت أهرب من لحاظها ، الخضراء ، المخترقة أعماقي ـ كسهام لا مرئية ؛ أهرب بعينيّ إلى حيث السجادة العجمية ، المثبتة على الجدار المقابل ، والمصوّرة حريماً عثمانياً ، ضجراً . فما أن تعود نظراتنا لتلتقي ، حتى تفتح " مريم " عينيها على وسعهما ، مستطيبة ً على ما يبدو ما سيعقب ذلك من تضرّج وجهي .
لا بدّ من القول ، بأنّ عرس قريبتنا ، الحسناء ، لم يمرّ دونما تسجيل حادثة معينة ، ما كان للحارَة إلا أن تعيدَ تأويلها ، في وقت آخر . فما أنّ إستوى العروسان على " الأسكي " ، المجلل بالسجاد الأحمر ، وخفتت حدّة زغاريد النسوة ، إلا والعجوز " عابدة " ، تظهر بأسمالها ، الرثة ، وكأنما الأرض إنشقت عنها . إنها إمرأة متشردة ، تعيش على الصدقات وهبات المحسنين . فلا غروَ إذاً أن تتقدّم من " يوسف " بيدها ، المتسوّلة . بدوره ، وليس بدون إضطراب ، مدّ لها العريسُ علبة السكاكر ، المكسية بأرجوان مخمل . في جمودها لبرهةٍ من الوقت ، بدا أنّ " عابدة " كانت تنتظر من الرجل ورقة مالية ، تليق بكنزه . هكذا تناولت ملبّسة ، سكريّة اللون ، فتأملتها ملياً ، ثمّ ما عتمت على الأثر أن لوحت بها في وجه العروس ، قائلة بلهجة لا مبالية ، فيما يدها تهتزّ من الرعشة : " كذلك أخذكِ من أمّكِ .. وكذلك أيضاً ستعودين إليها " . وكان من " مريم " أن ندّتْ عنها شهقة خافتة ، مصفرّة ، ما دامت العجوز قد فتحت كفها ، المضمومة ، عن ملبسة من النوع الآخر ، القاني .
*** كنت نادراً ما أقف على الشرفة ، فبإعتقاد الأمّ أنها عادة غير لائقة . إلا أنني ، في تلك الآونة ، ما عدتُ لأستطيع منع عيني من إختلاس نظرات ، عابرة ، مستطلعة القسم العلوي من منزل المرحوم " صورو " . ثمة ، أين الغرفة ، العروس ، المتصدّرة المكان ، والمتفرّدة ـ كبرج جليّ . نافذة الحجرة تلك ، المعتلية حوضاً صغيراً ، ضاجاً بأزهار الزينة ، هيَ المتعيّن عليها تأثل روحي . ما مضى يومان على الزفة ، حتى رأيت من موقفي على الشرفة ، المألوف ، ما جعل قلبي يخفق زمناً وبشكل مؤلم . كانت هناك ، مقتعدة إفريز النافذة ، مرتدية ثوب النوم ، القصير ، المنحسر عن ساقين ، عاجيتين ، متوهجتين ـ كشمس آب . لم أسترد بصري آنئذٍ ، إلا إثر إيماءة " مريم " المنذرة ، والمرحة على كل حال . إلى حجرتي ، تراجعتُ متهالكاً على السرير ، المكتنف برطوبة الستائر السميكة ، المنسدلة ، وقد ألمّ بي دوّار ، غريب . ضربة شمس ، على الأرجح .
ضجراً ، لا عمل لي سوى ردّ التحيات ، العابرة ، وقفتُ عصر أحد الأيام بباب الحوش ، وقد حفل الزقاق بصخب الطفولة ، الطرية . كنتُ بلا صحبةٍ ، صديقة ، إثر مغادرة " نورو " إلى الساحل ، رفقة أسرته ، لتمضية أسابيع من الصيف في ربوع " الشاطيء الأزرق " . عيني المتشاغلة هنا وهناك ، ما تفتأ عن تسديد نظراتٍ ، متولعة ، صوبَ باب المنزل ، المقابل . برهة اخرى ، وفتحت درفة الباب ، الحبيب ، عن هيكل " ناصر " ، الفارع . ها هوَ يواصل حديثاُ ما ، مع إمرأة أخيه ؛ مع " مريم " ، التي سرعان ما تبدى رأسها ، الأشقر ، من خلف كتفيه ، العريضتين . وإبن " صورو " هذا ، الأصغر ، فتىً أفاقٌ ، له صيتٌ في الحارَة ، ذائعٌ ـ كلصّ محترف . إنه " ردّ سجون " ، بحسب محكيتنا ، المحليّة ؛ وشعره الحليق ، دوماً ، خير شاهدٍ على ذلك . وكان قد أشيع ، مؤخراً ، عن توبته عن الحرام ، وأنه أضحى مريداً للرجل الأخرق ، الغريب الأطوار ، المنعوت بـ " كوْكش " ، والمدّعي علامات الحلول والتجلي والتقمّص ، الغامضة . وإذاً ، حقّ لجارنا " ناصر " أنّ يحييني بصوته الأجش ، المتماهي برنة خفيّة من السخرية ، وأنّ يمضي من ثمّ لشأن ما ، ربما لا يمتّ لتوبته . بأثره ، تظهر قريبتنا الجميلة ، لترمقني بنظرة ، عسلية ، فيما هيَ تعتني بتسوية إيشاربها ، الرهيف . ـ " ماما ، في البيت ؟ " أجبتها إيجاباً بهزة من رأسي ، المطروب بصوتها الذي رنّ فيه ـ كقطع ذهبية . ثمّ عادت قيثارتها لتصدح بنغمة ، جديدة : " أكيد ؟ " .
*** شمسٌ اخرى ، حلتْ إذاً في سمائنا . وجوه الطبيعة ، أمستْ بلون واحدٍ ، مصفرّ . هوَ الخريف ؛ ريح هوجاء ، تطاردُ إخضراراً ، عنيداً ، يكاد لا يسوؤه في تداعي أوراقه ، صريعة ً ، سوى مهانة نزع ، محتملة . هائماً بأحلامي ، كنت أخطر ـ كمسيح ، فوق الفراغ القائم بين شرفتي وبرجها . مواصلاً بلا كتابٍ ، سريّ ، متاهة السلالة ، أقتربُ فينأى كنزها . أبصرها في كل يقظةٍ ، صاعدة أو هابطة ، مرتدية أحياناً بنطال ربّة البيت ، المشدود على أرداف ربّة حسن . تنحني مرة ً على سلك الغسيل ، كيما تنتشل سروال العروس ، الناصع ، فتنحني رغبتي . هوَ ذا إبن أختي ، في منزلنا ، يقودني في إحدى الأيام تلك ، إلى حجرة الجلوس ؛ أين أمه الزائرة ، المعتادة على شغل المكان المنذور لماكنة الخياطة . أدفعُ باب الحجرة ، الخشبيّ ، لينفتح أخرسَ على تمثال " مريم " ، المتسمّر ثمة . بياض ظهرها شبه العاري ، الفاضح النصاعة ، راح عندئذٍ يحدّق فيّ ـ كأعمى . مباغتة ً كأيّ إمرأة ، إلتفتتْ بلهوجة وهيَ تضمّ التفصيلة ، غير المكتملة ، إلى تفاصيل جسدٍ ما حُبكَ قط أكملَ منه وإبتسامتها الناعمة ، الحيية .
وقلتُ ، يومئذٍ ، أنني لا بدّ أن أسكرَ . زجاجتا نبيذٍ أحمر ، مزّ ، كانتا بإنتظارنا ، " نورو " وأنا ، في حجرتي العلوية ، محوّطة ٌ بما تيسّر من المازة . سهرة الخميس ، عادة ً ، نمدّها حتى الفجر ، مصحوبة بصدح صوت كوكب شرقنا ، الألق . تنتصف الليلة ، فيخرج كلانا إلى الشرفة ، فيما نهيقٌ متطاول ، شاكٍ ، لأتان آخر رعاة حارتنا ، أخذ يملأ العتمة البهيمة ورأسينا ، المثقلين بالخمرة . يعقب صديقي ، متفكهاً : " إنه رنينُ ساعة " برج بيغبن " ! " . متملياً السكون ، ومسكوناً بالعبق العطريّ لعارشة " الكولونيا " ، أقول فيما عيني منساحة نحو الحجرة العلوية ، للمنزل المقابل : ـ " إنه برجُ العذراء " ـ برجُ " مريم " ! " ـ دعنا من سيرتها ، يا رجل " ـ دعنا أنتَ من مغامضكَ ، أيّها الداهية ! " تطلعتُ إليه في هالة القمر ، لأخاطبه بسرّي : " وماذا يعنيكَ ، أنتَ ، من أمرها ؟ " . وعلى كل حال ، شئتُ تحويل مجرى الحديث ، فسألتُ صديقي عمّا جدّ من قراءته للكتاب السريّ ، المنذور للكنوز . تأملني في النور الخافت ، المنسلّ خلل نافذة حجرتي ، قبل أن يجيب بأن لا جديد في الأمر . ثمّ ما لبثَ أن أشار إلى الجهة الاخرى ؛ أين " البرج " الماثل في غلسة الليل ـ كحارس خرافيّ ، قائلاً وكأنما يواصل حديثنا ، الأول : " إنهما اللحظة عاريان ، ربما ؛ عاريان ، كما خلقتني ربّي ! " . وعلى الأثر ، دلى جذعه بحركة متناعسة ، منهملة به حتى أسفل الحافة الواطئة للشرفة . ثمّ راح إذاكَ يحدّق بالسماء ، المنجمة . مثلي ، كان البدرُ يتطلع ناحية الضوء الشحيح ، الورديّ ، لتلك النافذة ، الحبيبة ، لما إنطلقتْ على حين فجأة ضحكة " نورو " ، الماجنة ، المهتزّ لوقعها قلبي الواجف والعتمة المطمئنة ، سواءً بسواء .
*** لم تخرج أمي من لا مبالاتها ، الحرب الجديدة ، الناشبة في الجبهة ، على تخوم مدينتنا . شاردة الفكر ، كدأبها ، راحت تتأمل تبختري ببدلة الفتوّة ، الخاكية اللون ، فيما بندقية ، تشيكية ، على كتفي . وكانت السلطات ، الإشتراكية ، قد قررت ، أيضاً ، إشراك الشعب في المعركة ؛ بما كان من دعوة البالغين إلى حمل السلاح وإجراء التدريبات ، السريعة ، في مراكز خاصة . وكان على الغريب ، الداخل إلى حيّنا ، أن تلفته هذه الكلمات ، المخطوطة على لافتة قماشية ، كبيرة ، مثبتة على أحد جدران ضريح " ركن الدين منكورس " : " الشباب الكردي فداءً للوطن " . هوذا اليوم ، الأخير ، المقرر لهذه الحرب ، بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام عن هدنة وشيكة . كنتُ إذاً في المطبخ ، حينما باغتني أزيز ، حاد ، لرشقة ناريّة ، صادرة من الجوار . ما لبث الهرج أن حلّ قربَ باب منزلنا ، فإندفعت خارجاً . ومن ثمّ عليَ كان أن أدخل مع بعض الأقارب ، المتجمهرين ، إلى منزل " صورو " ، كيما ألاحظ وجود " مريم " ثمة ، بقامتها المتناسقة ، المنتصبة ـ كتمثال إغريقيّ ، مروّع : " كنتُ على وشك فك البندقية ، بهدف تنظيفها ، وإذا بعيار ينطلق منها ويمرّمن فوق رأس إمرأة أخي ، مباشرة ً " ، قال " ناصر " وهوَ يحاول إخفاء إضطرابه بتلويحة من يديه ، طريفة . ـ " الحق عليها هيَ ؛ فما كان يجدر بها الوقوف بمواجهتك ! " ، لعلع صوتُ " فاتيْ " ، هذه المرة . لم يعرها أحدٌ إلتفاتاً ؛ ولا حتى كنتها ، المستيقظة للتوّ على حقيقة نجاتها من هلاك ، محقق . ولكن محاربنا بادر ثانية للقول : " السلاح الشرقي ، بضاعة مغشوشة .. تفوو ! " . وراح يلوّح برشيشه ، " الشباكن " ، مما سبب جفولنا وتراجعنا ، خوفاً من إنهمار المزيد من عيارات بضاعته هذه . في اليوم التالي ، على الأثر ، تناهى إلى علمنا أنّ " مريم " ، المسكينة ، أجهضتْ حملاً ، مبكراً . ذاكَ الحادث الحربيّ ، المحزن ، كان على الدوام حجة ً لأمّ " يوسف " ، مبرمة ، في كل مرة تتطاير فيها الأقاويل ، المغرضة ، عن الأسباب الحائلة دون إنجاب زوجته . سأصدف ، من جهتي ، بعضاً من الأقاويل تلك ، في يوم آخر ، مصاقبٍ لحلاقتي الدورية ، الشهرية . ودكان مزيّن الحارَة ، كان مرتعاَ ، خصباً ، لنموّ ديدان النميمة . ولا أذكرُ ، تماماً ، مناسبة الحديث . سوى أنّ المدعو " ضرغام " ، المنحرف المسلك ، كان ثمة يحركُ فمه بتشفّ وغلّ ، مع إنهماك الحلاق بقصّ شارب شيخ ، آخر ، للشباب : " أنا لا أفهمُ ، والله . يعني ، إذا كان المرءُ عاجزاً عن القيام بواجباته ، فلمَ عليه ان يتزوّج بنات الناس ويسخمهنّ ! " . ثمّ سكتَ صاحبنا ، الحكيم ، وهوَ على ما يبدو بإنتظار من يسأله عما وراء أكمة القول ، الجزاف : ـ " يعني ، خذ إبن " صورو " ، مثلاً . عنده تلك السوسة ؛ ومن منا بلا سوسة ، ها ؟ " ـ " ربما أنّ معاملته لعائلته أبويّة ، محض " ، لاحظ أحد الحضور ، من ماسحي الجوخ . حدّق الضرغام في المرآة ، متكرماً على القائل بإبتسامة فرس نهر . بلهجة محايدة ، تكلم الحلاق أخيراً : " يا جماعة ، وحّدوا الله ! هناك من يفكّ البراغي ، وينجب مع ذلك دزينة من الأولاد " .
إستفهامي من " نورو " ، ذلك المساء المُثارة فيه الأقاويل ، عمّا إذا كان " يوسف " قد غيّر مهنته ـ كممرّض في مشفى عموميّ ؛ هوَ المُسرّح تواً من خدمة الإحتياط ، العسكريّ . هكذا مساءلة ، قدّر لها أن تجلبَ قهقهة صديقي ، حدّ إختناقها بسعال سيكارته . هنأتُ نفسي ، بهذه الحالة ، ما دمتُ لم أتوجه بالسؤال نفسه ، لجماعة الحلاق ؛ وخاصة ً " ضرغام " ، المعروف بعلاقته السيئة مع " حيدر " ، شقيق " مريم " . بيْدَ أنّ كلا الغريمين ، المنحرفين ، سيتلاقيا في الليلة ذاتها ، وفي المقمرة التي يديرها إبن " زينكي " ، العتيّ ، بتغطية من ضابطٍ ، علويّ ، متنسّب لأمن القوات الدفاعية . هكذا يُفتح باب المكان ، شبه العلنيّ ، على سحنة " حيدر " ، الجمريّة ، المتطاير منها لهب الشرّ . يتجه رأساً إلى الزاوية القصيّة من المقمرة ؛ ثمة ، أين الضرغام المقرفص قرب طاولة اللعب ، والمتخشع لملكة " بستوني " ، كان قد إفتتح بكرْتها ، الأسود ، جولة حِداد ، جديدة ، من خسائره المتفاقمة . بلا تحية ، يطلب منه عتيّ عائلتنا مبلغاً من المال . وليس بلا رعدة ، يقسم " ضرغام " أنّ أخا " مريم " إنما أقبلَ عليه لهدف آخر ، لا شأن له بالنقود . رغبَ هذا ، على كل حال ، التأكد من يقينه ؛ ودونما أن يخطر له بحال تحدّي الرجلَ ، المعروفَ بجنون طبعه . إعتذر إذاً ، وبمفردات باهتة ، مصفرّة ، عن عدم توفر المبلغ ، المطلوب . ثمّ إستنجد بأنفاس اخرى ، وهوَ يهمّ الإستطراد في القول ، بأنه سيتدبر له المال غداً . القبضة الماحقة ، غير المنتظرة غدَ الجبناء ، تمتدّ إلى عنق الغريم ، لتنتزع بحسم وغلظة سلساله ، الذهبيّ . ثمّ يقف " حيدر " على رأس " ضرغام " هنيهة اخرى ، متحدّية ، فلا تبدر عن هذا سوى كلمة حسب ، شوهاء : " تكرم ! " . إبن " زينكي " ، كان هناك ، إذاً ، شاهداً على فصل الإذلال ، المنتهي تواً ؛ وخلل مكانه ، المعتاد ، في صدر الصالة ، المحتفي بأنفاس من النرجيلة ، عبقة وثقيلة في آن ، رأى جرمَ " حيدر " ، الهائل ، المندفع دونما نأمة . راعي المقمرة هذا ، البادي الإضطراب ، يسحبُ نفساً آخر من تسليته ، ثمّ يعقب ذلك بالرمي جانباً بعباءته ، المطرزة بوشي ذهبيّ ، ليُبرز حزامه المشكوك بغدارة ، كامدة . ـ " هاكَ ! وديّة مجنون آل " قادريكي ، أتحملها أنا " : قالها الرجلُ للضرغام ، فيما يناوله المسدس ذاك . ولكنّ الآخر ، الممسك بحركة تلقائية ، مستسلمة ، بالسلاح المعروض لخدمته ، ما عتمَ أن تمتمَ بمفردات مبهمة ، خافتة . في صبيحة اليوم التالي ، عندما خرقَ الرصاصُ إبنَ " زينكي " ، بين البطن والعنق ، ربما حقّ له التساؤل ، منهاراً ، عن ذاكَ المتعهّد دفع ديّة دمه .
*** همساتُ الحارَة ، أكدتْ أنه " ناصر " ، من قادَ القاتل على مطية دراجته الناريّة ، إلى حيث المكمن الكائن في فيء جامع الحارَة ، ذي الحجارة البيض . رصاصتان ، أطلقهما " حيدر " ، أولاً ، بإتجاه مغلاق صالة القمار ، القابعة بأسفل منزل إبن " زينكي " ، ذي الدورين . الغريم هذا ، كما شهدَ الخلقُ ، كان قد خرجَ من ذلك القبو وبيده غدارة الأمس ، التي رفضها الضرغام . هكذا تابع " حيدر " رشق طلقاته في الجسد الهامد ، المتهالك قرب باب المقمرة ، ولينحدر من ثمّ مغادراً موقفه ، الدامي ، غيرَ عابيء بالنصب البشرية ، الجامدة ، القائمة في طريقه .
أكثر توتراً ، أستلقيتُ على سرير الأمّ ، متشاغلاً بتصفح مجلة فنية ، من مخلفات مراهقة " شيري " . من عليتي هذه ، كان من الممكن لي ، عن كثب ، متابعة ما يعتمل من هواجس في نفس والدتي : لقد أشيع أنّ القاتل ، الهارب ، قد تمكن من التسلل ، آمناً ، إلى لبنان ، وأنه الآن في رعاية أخي " جيان " ، ودونما أن تتبصّر الأقاويل تلك بحقيقة ، أنّ الأخ بنفسه كان في عداد المفقودين بالنسبة لعائلتنا ، على الأقل . وهيَ ذي التغريدة ، الحبيبة ، يصدى بها دهليزنا ، العتم : " يا خالة ! " . كانت بصحبة شقيقها ، الأصغر ، " عيسى " ، والذي بالكاد خطت الفتوّة سوادها فوق فمه . كم من الشجون في حديث النسوة ! إلا أنني في سني تلك ، المراهقة ، كنتُ سكراناً بفوح المسك ، المؤرج من حديثها ، القلق . ولم تنسَ ، معبودتي ، في ختام القول ، أن تثني على تعقلنا ؛ " عيسى " وأنا . لستُ عاقلاً ، أختاه ! بل أنا مجنون ؛ متيّم بما أبصرت عيوني من مناظركِ ! أما شقيقك هذا ، الفائق الحسن ـ كإله إغريقيّ ، فما كان يخطر لي عندئذٍ أنه يملك بين جوانحه قلبَ " مارس " .
في غمرة الهواجس ، راحت الأمّ ، كما هيَ العادة المرقشة طبعها ، تصدرُ أصواتاً ، خافتة ، دونما أن تدري ، على الأغلب ، أنها تتناهى لمن حولها : " ماذا يريدون من " جيان " ؛ من غربته وعثرته وسخامه ؟ " . هكذا قررت في اليوم التالي ، وكدأبها في ظروف مماثلة ، أن تزور إبنتها ، المقيمة في " الحارَة الجديدة " . أوصتني ، مشددة ً ، ألا أغادر المنزل ، فيما هي تلملم بمنديل الحِداد شعرها الأشقر ، المتغلغلة فيه خيوط الشيب ، الناصعة . متوجهاً إلى عليتي ، كنت ممسكاً بمجلة فنية ، حينما سمّرني النداء المنغوم : " يا خالة ! " . دعوتها للدخول ، حالما أطلت إيماءتها ، الحبيبة ، من وحشة الدهليز . إجتازت أرضَ الديار ، بهيّة ومتألقة ، تحت شمس ، خريفية ، أقلّ بهاء وألقاً . ثمّ ما لبثت أن بادرتني : " ماما ليست في البيت ؟ " . وقلت لها بسرّي ، منتشياً ، أنكِ محتالة ، حسناء ! ـ " مجلة " ألف ليلة " ! أريد إستعارتها . ممكن ؟ " : قالت فيما تسحب المجلة من يدي وبحركة عفوية ، آسرة . على أنها لم تنتظر ردّي ، حينما تراجعتْ إياباً وبيدها الغرض ، المطلوب . كانت تهمّ إذاً بالمغادرة ، فإستوقف لحظها مشهدٌ ما . إنها وردة جوري ، حمراء ، متفتحة بين الأصص الذاوية ـ كمعجزة شتوية . قالت لي بدلال ، مومئة إلى الناحية المقصودة : ـ " هل تريد أن تقطفها ، لي ؟ " ـ " إنها وردة أمي ، الأثيرة " بدا من بسمتها ، المُغيّضة في إنكسار ، أنها لم تقدّر مزاحي . أردتُ مداراة حماقة الموقف هذا ، فيما أنا أهرع للإتيان بالمطوى . وفيما أهمّ ببتر العنق الشوكيّ للوردة ، إذا بـ " مريم " ، مضرجة ً برجاءٍ ملح ، ، غامض ، مجلل قسماتها ، تقول أن لا داعي لذلك . بيْدَ أنني ، في اللحظة ذاتها ، كنتُ أقدّم لها بيَدٍ مرتعشة ، ضائعة ، الوردة الذبيح .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميرَاثٌ مَلعون 2
-
ميرَاثٌ مَلعون *
-
كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
-
أختنا الباكستانية ، الجسورة
-
جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
-
زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
-
زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
-
الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
-
زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء
-
نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
-
من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
-
طيف تحت الرخام
-
زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
-
زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
-
جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
-
الحل النهائي للمسألة اللبنانية
-
زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون
-
أشعارٌ أنتيكيّة
-
زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه
-
أبناء الناس
المزيد.....
-
تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة
...
-
الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد
...
-
من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع
...
-
أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
-
السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
-
هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش
...
-
التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
-
الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
-
تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير
...
-
سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|