أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه















المزيد.....

زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2093 - 2007 / 11 / 8 - 08:00
المحور: الادب والفن
    



1
عدواً ، أيها الولدُ ، عبْرَ درب الجادّة الرئيسة ، المفضي للمدرسة !
ها أنتذا هنا بعدُ ، في المنزل الأليف ؛ في صورة ، تعود لسنوات ثلاث خلتْ ، من هذا اليوم نفسه ، الذي شهدَ جرّك إلى وحشة الفصل المدرسيّ ، الظالم ؛ الصورة الفوتوغرافيّة ، الما فتئت مزينة حجرة المنزل ، الكبيرة ، والمثبتة بالجدار المعتلي سرير الأب : في المقدمة ، إذاً ، تظهرُ أنتَ ، عاقداً يدكَ اليمنى باليد اليسرى لإبنة العمّ ، أينَ الخلفيّة منذورة لجدّتكما ، وهيَ خلف ماكينة الخياطة ، مضيئة ً اللقطة ببسمتها ، العذبة ، المحتفية باللقطة . ثوبكَ ، الناصع البياض ، المتألق بدوره في الصورة ، هوَ من حياكة الماكينة وصاحبتها ؛ ثوب البنات هذا ، المتماهية به ملامحكَ آنئذٍ ، كما والشعر الطويل ، الكثيف ، المتهدّل على كتفيكَ الدقيقتين . قبل إختفاء الصورة تلك ، أبداً ، بعيدَ زواج إبنة العمّ ؛ قبل ذلك ، بأعوام عديدة ، كانَ على هيئتكَ القديمة ، الموصوفة ، أن تختفيَ أيضاً : مجزرة ، شهدها دكان الحلاق ، المرتكن في الجانب الأيسر من مدخل الزقاق ، لمّا إنهال مقصّ قريبنا ، " جحا " ، على شعركَ جزراً بلا رحمة . متألماً تحت اليد الثقيلة للجزار هذا ، الهائل الجثة ، كنتَ تسفح الدموع بلا طائل ، ما بقيَ الوالد مشغولاً عنكَ بما في خبيئته من حديث السياسة ، المستجدّ .

ـ " نعيماً ! الآن صرتَ رجلاً ، وعقبى ما يأتي ذلك اليوم ، لأزيّن فيه شاربكَ ! "
هكذا شيّعني الحلاق ، متهكماً ، عند مغادرتي دكانه ، صحبة والدي وعبراتي . بيْدَ أنني ، وفي مناسبة اخرى ، حققت ثأري ، الشخصيّ ، من غلظته ، المعهودة ، فصلاً عن ثأر أمّي ؛ والتي كانت قد أقامت مناحة ، حينما حضرتُ إليها ، بعيد المجزرة ، برأس مجزوز ، خال من ضفيرة الطفولة . " أبي يطلب من إبنكِ ، " جحا " ، الحضور إلى منزلنا " : قلتُ لأمّ حلاقنا هذا ، المتناهضة لإستقبالي قدّام باب منزلهم ؛ ومن راحت ، على الأثر ، تقهقه بصخب وبصورة مستغربة . ما كان لدهشتي إلا أن تستفحل ، لمّا ظهرَ بعدئذٍ رجلنا المطلوب ، بكرشه البارزة وسحنته المضرّجة بالغضب ، صائحاً بي : " ماذا تريد ، ولاه !؟ " . مثلَ " جحا " في حضرة والدنا ، على كل حال ، وقصّ له شعره ؛ إلا أنّ قصّتي مع أمّه ، ذلك الصباح ، أمسَتْ نادرة الأمسية التالية . " من المعيب أن تذكرَ إبن عمّك ، بلقب " جحا " ذاكَ " : خاطبني الأبُ ، وأثر المرح لم يزايل ملامحه . وكان أن عرفتُ ، وإن متأخراً نوعاَ ، أنّ هذا اللقبَ ، المتداول في العادة بضمير المفرد ، الغائب ، ليسَ للمخاطبة أمام قريبنا المعنيّ ، أو أقربائه ؛ بما أنّ " خليلَ " ، هوَ إسمه الرسميّ ؛ أو " خلّوْ " ، إذا شئتَ ، بحسب تكريدنا للأسماء العربية .

2
سذاجتي الطفلة ، شاءتْ التنقل منزلة ً منزلة ، بينَ التعريفات والصّفات . فوالد حلاقنا ، " العمّ أبي يوسف " ، كان على وهمي شقيقاً للوالد ، بما شبّه لي من صفة لقبه ذاك ، الشائع في أسرتنا . " عمّ الدببة !! " : هتفتْ بي أختي الكبيرة ، السمراء ، ملتفتة من ثمّ إلى توأمها ، المزعوم ، مضيفة ً بالسخرية نفسها : " تصوّري أن يكونَ " جحا " ، إبن عمّكِ !؟ " .
ـ " أنتِ الأكبر سناً ، على أيّ حال . وإن شاء الله سيكون " إبن العمّ " هذا ، من نصيبك ! " ، تردّ عليها أختنا ، الشقراء ، المتطيّرة في العادة من سيرة القران ؛ هيَ من دأبتْ في سنها تلك ، الحدثة ، إلتقاط إشاراتٍ من هنا وهناك ، عن " نصيبها " الزاحف إليها حثيثاً ، بما أنّ شقيقتها هذه ، الكبيرة ، مسترسلة في الدراسة بهمّة ونجاح . على أنّ طيرة أختي ، الموصوفة ، كانَ لها مبررٌ وافٍ ، للحقيقة . ففي مقام العادات زمنئذٍ ، دأبَ الأهلُ ، عموماً ، على القول أنّ " البنت لأبن عمّها " ؛ حتى جرى ذلك مثلاً . وهوَ القول ، المتعاقب على لسان صغرى عمّتيْنا ، في قحّة إشارتها ، الصريحة ، إلى شقيقتنا ، الشقراء : إلى أكبر أشقائها ، من الأحياء ، إتجهتْ عمّتي بعدَ أعوام ثلاثة ، محرضة ً إبنه ، الكبير ، على التحرّك لكي يتجسّد فعلاً واقعاً ، ذاكَ القولُ المثلُ ؛ إلى منزلهم ، الكائن على الجادّة الرئيسة ، غيرَ ببعيد عن مدرستي ، الأولى ؛ " محي الدين بن عربي " ، التي كانت وقتذاك مقيمة في زقاق " بكَاري " .

جادّة " أسد الدين شيركوه " ، مستقيمة وقاسية ـ كمسطرة المعلّم . على الجادّة هذه ، سيري اليوميّ ، المعتاد ؛ سيرٌ كان عليّ إعتياده ، منذ صبيحة اليوم الخريفيّ ذاك ، الذي جُررتُ فيه ، جرّاً ، إلى المدرسة . مستعبراً بمرارة ، ألحفتُ على والدي يومئذٍ أن يبقى معي ، فيما كان صديقه " عز الدين ملا " ، مدير المدرسة ، يحاول تهدأة مخاوفي . في تلك الأثناء ، حضرَ إلى حجرة الإدارة تلميذ آخر ، صحبة أبيه . تلميذنا الجديد ، كان أيضاً على الحالة ذاتها ، الباكية المتوسّلة ؛ على حالتي ، المضطردة سوءاً الآن ، في جدّة الحضور هذا . بعض المعلمين ، ممن كانوا ثمة في الحجرة ، إرتبطوا مع الوالد بصداقة وطيدة ، وثقتها السياسة ، بالدرجة الآولى ؛ مثل " عبد المجيد قاسو " و " عبد اللطيف آلرشي " و " عادل ملا " . هذا الآخير ، وربما بإعتباره معلمي المقبل ، كان يتبسّط معي وقتئذٍ أكثر من زملائه ، الآخرين ، وبلهجته الودودة ، الدافئة ، التي سيقدّر لي مؤالفتها لاحقاً . حجرة الفصل ، الأول ، إستهجّ بها نفسٌ جماعيّ ، كريه ، سيكون عليّ فيما بعد وفي تجربة الصبا ، العسكرية ، أن ألتقي ما يدانيه عند ولوجي سجن مدرسة الدفاع الجوي . وعلى كل حال ، تخفف بعض الحنين إلى المنزل ؛ مشامه العبق وإلفة مكانه ، لمّا رأيتني على مقعد واحد مع التلميذ ذاك ، البكّاء ؛ مع " جهاد " ، كما قدّم لي نفسه ، بعدما خمدتْ هواجسه وهواجسي .

3
عدواً ، إذاً ، يا طفلَ الخريف ؛ عدواً ، والفصلُ خريفُ !
أنتَ هنا ، تلميذ لحضرة " الشيخ الأكبر " ؛ قطب الصوفيّة ، ما دامتْ مدرستكَ ، الإبتدائية ، تحملُ إسمه " محي الدين العربي " . ولغرابة الإتفاق ، كان عليكَ إقتفاء أثر الخطى الخجولة ، المترددة ، لأمّكَ ذات السنوات الستّ من عمرها ، في حضورها للمكان نفسه ، حينما كان بعدُ منزلَ " علي آغا زلفو " ، والد صديقتها ، " ملك " ؛ زميلة الفصل الدراسي في مدرسة " ستّ الشام " ، المتركنة في أحد أجزاء المنزل القديم للباشا الكرديّ ، العثمانيّ ، " محمود بوظو " . أعوام ثلاثة ، إذاً ، تبوّب فيها حضوري في المدرسة تلك ، الأولى ؛ أعوام قطع تسلسلها ما كان من نقلي لاحقاً إلى مدرسة " النضال العربي " ، الإبتدائية ، الكائنة في موقف " الجوزة " ، إعتباراً من مستهل الفصل الثالث ، إلى نهاية الفصل الخامس . وَسْمُ كلّ من مدرستيْ الطفولة هاتيْن ، بنسبِ " العربيّ " ، الغريب عن طبيعة حيّنا ، الكرديّ ، قدّر لي إكتناهه مذ أعوامي المبكرة تلك ، وربما تأثراً بمشاعر الأب ، المعلنة أمام الصغار ، غالباً : لم يأتلفَ إسمُ مدرستي ، الأولى ، في داخلي ، قبل بلوغي الوعيَ المناسب لمعرفة ماهيّة فلسفة " إبن عربي " ، الصوفيّة ؛ هذا الإسم ، الذي أضحى كما لو أنه أحد مآثر العمر ؛ وكما لو أنه نعتُ أحد معارف المرحلة تلك : زملاء هذا الفصل وذاك في المدرسة والدرب المؤدي إليها ، على السواء ؛ " جهاد " ، الطفل الجميل ، الأنيق ، الحلبيّ الأصل ، ومن سيكون رفيق أعوام الدراسة الإبتدائية ، جميعاً ؛ " نعمان " و " زاغروس " ، زميلا الفصل الأول حسب ؛ " دبّانة " ، بحسب تشنيع رفقة الفصل الثاني على كنية زميلنا هذا ، الصبيّ الرقيق الريفيّ النشأة ، المتلقي بصقاتهم بإبتسامة بائسة ، مذلة ، ما كان لها إلا ان تجلب شفقتي وحدبي عليه ؛ " حسّون " ، قريبي ، الذي يصغرني عمراً ، والهارب الأبديّ من الدروس إلى مغبرة الدروب وملاهيها ، العشوائية ؛ " سيفو " و " جمّو " ، زميلا الفصلين المتتاليين ، الرابع والخامس : من أضحى كلّ منهما رفيق العمر ؛ إلى أن إخترمَ عمرَ الأول حادثُ سير ، وعجّل برحيل الثاني عن الحارة إدمانُ أبيه ، الفرّان ، على الإنتقال من مكان إلى آخر .

المنزل الكبير ، الذي كانت الدولة قد إستأجرته من ورثة صاحبه ، الآغا ، وحوّلته إلى مدرسة طفولتكَ ؛ هذا المنزل ، القائم على دورَيْن ، سبق أن شهدَ حلول ضيوف آخرين ، غرباء . ها هنا ، حلّ الأمير " جلادت بدرخان " وصحبه المنفيين ، إثرَ تمرّدهم على سياسة " أتاتورك " ، العنصريّة ، والمهيمنة منذئذٍ على موطنهم المفتقد ؛ كردستان . أبوكَ بدوره ، وجدَ في شبابه أباً روحياً في الأمير هذا ، وكان أحدَ مريديه ؛ فما كان لمدرستكَ ، إذاً ، إلا أن تحتبي شيئاً من ذكرياته أيضاً . هكذا توزعتْ مجموعة المنفيين ، المناهزة سبعة عشر شخصاً ، على قسمَيْ الدار ، التي كانت مقفرة من ساكنيها إثرَ إنتقال الآغا إلى حيّ " المهاجرين " ، الراقي : القسم العلوي ، يُصعد إليه بوساطة درج حجريّ ، ضيّق ، يؤدي إلى عدد من الحجرات ، التي كانت مختصة على ما يبدو برهن " الحريم " لعزلة شبه مطلقة . أما الدور الأرضيّ ، فهوَ يستقبل الداخل إلى الدار بباحته الصغيرة ، المرخمة بحجر المرمر الناصع . تكاد هذه الباحة لا تحوي سوى غرفة لا تقل صغراً عنها ؛ شُغلت في زمن سنتكَ الإبتدائية ، الأولى ، كمقر للإدارة : ذلك المكان الغريب ، الموحش ، غيرَ الممكن لكَ نسيانه ، والذي شهدَ مدافعتكَ للأب على بابه ، فيما كنتَ باكياً ملتاعاً مروّعاً ، تستعطفه العودة إلى طمأنينة البيت . ومن رهبة الخطوة الأولى ، إلى ما تلاها من خطىً أكثرَ ثقة ، فيما كنتَ يومئذٍ تتنقل من باحة المدرسة الصغرى ، هابطاً الدرجات العريضة ، إلى باحتها الكبرى ، التي كانت على الترخيم ، الفخم ، ذاته : بحيرة بيضوية ، على جانب من السعة ، تتوسط تلك الباحة ، وتقابل الإيوان الفسيح ، المسقوف ، والفاصل بقوسه الخشبيّ بين حجرتيْن كبيرتيْن : تلك الحجرة ، إلى يسار الإيوان ، كانت المحتفية بحضوركَ ؛ ما فتأت مكان الفصل الأول ، الإبتدائيّ . وربما أنّ " جلادت بك " بدوره ، كان قد دأب ، مثلكَ ، على تأمل سقف الإيوان ، الباذخ ، المشابه لسجادة أعجميّة ، مستطرفاً صخب السنونو ، المعشش ثمة .

4
ـ " بقطفلك بَسْ شي مرّة ، عإسمكْ بس شي زهرة "
موسيقى هذه الأغنية ، الفيروزية ، المبثوثة من إذاعة دمشق ـ كمقدّمة للبرنامج اليوميّ ، " مرحباً يا صباح " ؛ هذه الموسيقى ، كانت بمثابة جرس إنذار ، مؤشر لحضوري ، متأخراً ، إلى المدرسة ، ما كان يبعث في فؤاديَ الطفل خفقات متسارعة ، مؤلمة ـ كخبط جنح السنونو ، المتهالك على الأرض إثر صعقة السلك الكهربائيّ ، المربوط بسقف الإيوان . طرقة طرقة ، يصّاعد الخفقُ ما أنْ أدنوَ من وقع موسيقى الأغنية تلك ، الصادحة خلل مذياع دكان " مرعي كحلة " ؛ هذا الدكان ، المتألق نجمه في مدار المحلات العديدة ، العشوائيّة البضاعة ، المتناثرة على جانبيْ الجادّة . باكياً أعدو ، حينئذٍ ، حتى تتقطع انفاسي ؛ أعدو وأعدو ، بكل يأسي المتشكل وَجلاً على شكل مسطرة المعلّم ، القاسية . " آه ، إنه الأستاذ " عبد المجيد " ، هذه المرّة ! " : يهتف داخلي ، زافراً هواجسه في غبطة لا مزيد عليها ، فيما يطلّ عليّ وجهُ المعلّم ذاك ، الصبوح ، المتعيّن عليه هذا اليوم المناوبة ـ كموجّه يوميّ . وجه آخر ، كان يصدفُ أن ألتقيه في يوم متأخر ، آخر ؛ وجه الأستاذ " سعيد مللي " ، المتجهّم ، الملقي على كل قادم ، عبْرَ الباب الرئيس ، تحيّة ملامحه الهازئة ، المتوعّدة : " قف هناك ، في صفّ المعاقبين ! " ، يهرّ بتشفّ وغلّ المعلم المناوب هذا ، الأشبه شراسة ًبالقط الهَرم ؛ أو " الهارون " ، بلهجتنا المحليّة .

الكابوس الموسيقيّ للدرب ، الموسوم ، كان له شقيقة هنا ، في الدار الكبيرة ؛ دورة مياهها ، القذرة دوماً . دوّار وغثيان ، كانا دوماً في إنتظار ولوجي خلل مدخل الدورة ، المفضي إلى بابٍ ، خلفيّ ، مفتوح على جنة الدار ؛ على أنفاس اخرى ، عبقة ، للحديقة الغناء ، المنقسمة إلى جزئين . كان الجزءُ العلويّ ، على شكل مصطبة مستطيلة ، متربة ، معدة لألعاب التلامذة ، الرياضية . أما الجزء السفليّ ، فمترع حتى حافة ثمالته ، بالأنواع المختلفة من الشجر المثمر ؛ كالتين واللوز والأكيدنيا والتوت والحمضيات والتفاحيات ، علاوة على الخمائل والعرائش المترامية حتى أحضان النهر . ولو قدّر لكَ ، وقتئذٍ ، التواجد في هذه البقعة ، الساحرة حقاً ، لإنجذبَ بصركَ تلقائياً جهة تلميذ ، وجل الملمح ، منعزل عن الصحبة الصاخبة ، بإنحنائه غالباً على المنحدر المخضوضر لضفة " يزيد " : كنتُ ذاك الطفل ، المُضَافر تغرّبه بإفتقاده لوجود الشقيق الأكبر ، الذي يقضي فصله الإبتدائيّ ، الخامس ، في مدرسة اخرى . ثمة إذاً ، كان بصري بدوره ينجذب نحو محرس دار " بكداش " ، المترائي لعينيّ في الجهة المقابلة لموقفي ؛ المحرس ، المقفر من حضور أبي ، كما من حرسه ، ما فتأ رجل الدار في منفاه ، التشيكيّ ، مذ لحظة إعلان الجمهورية العربية المتحدة . هنا ، أيضاً ، إعتاد " عبد الجليل رشواني " ، شبه الأصمّ ، على الحضور للمكان ، الأثير لذكرياته ؛ هوَ من كان في الزمن الأول ، السعيد ، مريداً مخلصاً للقائد الشيوعيّ ذاك ، واهباً جلّ وقت فراغه للإعتناء بحديقة المحرس ؛ الحديقة ، المهملة الآن ، كما الطاحونة الصغيرة ، التي صنعها بيديه لتكون لائقة بالدار وصاحبها . هنا إذاً ، منحنياً على الطاحونة ، المهجورة ، المعطلة ، المنكفئة بحزن على ضفة النهر ، دأبَ " عبد الجليل " على مداعبة مراوحها ، مردداً بتنهّدة : " دوري يا طاحونتي ، دوري ! .. لا بدّ أن يأتي ذاكَ اليوم ، وتدوري ! " .

5
الصداقة بين الكبار ، تثمرُ أحياناً جنياً طيباً لصغارهم . ورفقتي لزميلي في الصف ، " نعمان " ، كانت من واردات تلك الثمار . معلمنا من جهته ، الشيوعيّ ، أنار لنا الضوء الأخضرَ ، بما كان من حدبه على أبناء " الرفاق " . وفضلاً عن صديقي ذاك ، كان في فصلنا زميل آخر ، هوَ " زاغروس " ، إبن المحامي خالد الكردي ( الملقب بـ " زعيم " ، لطول قامته ) ؛ صديق عمر والدي . هذا الإبن ، وبالرغم من لطفه وخلقه الدمث ، ما قدّر لعلاقتي به أن تتجاوز الزيارتين لمنزله ، التي قوبلت بحفاوة أسرته . " نعمان " ، كما أذكره ، كان من صنف أخي الكبير ؛ ولداً مقداماً ، إعتادَ التصدّي للتلامذة الخشنين ، الناشرين في المدرسة آفات أعمالهم : " أترى " نعمان " ذاك الولد ، هناك .. لقد خطف مني بالأمس لفة الجبنة ! " ، إعتدتُ على الإشارة لهذا وذاك من الأشرار ؛ فما يلبث صديقي أن يكرّ ، مغبرّاً ، بإتجاه إصبعي المُشيرة . في منزله الرحب ، الكائن في دخلة " ياسين آغا مللي " ، كنتُ في أحد العصاري ، الربيعيّة ، منحن على أرض الحديقة ، المعشوشبة ، أتأمّل دودة " أم أربعة وأربعين " ، المخمليّة الوبر ، حينما إرتفع صوتُ أحدهم . كان هذا " رفيق " ؛ إبن " حسين عاقو " ، الشهيد الشيوعي ، المتفاني ، وصديق والدي القديم . ثمّة بقامته الفارعة ، النحيلة ، وقف الرجل متبسّماً لي بودّ وترحيب ؛ هوَ من إعتاد وقتذاك زيارة منزلنا . وكم كانت دهشتي كبيرة ، حينما قال لي " نعمان " بكل بساطة : " إنه خالي " . أصَرَة صداقتي لغلام الدار ، ما كان لها إلا أن تتوثق ، إثر المصادفة السعيدة تلك : وربّما أُضيفَ لصداقتنا نوعٌ من وشيجة القربى ، ما دامت عمّة " رفيق " ، المرحومة ، كانت الزوجة الأولى لعمّي .

ـ من أجل الله ، " زعيم " ، خذ طريقاً آخر ! "
يقول الأبُ لصديقه ، الفارع الطول ، ومن عدّ في ذلك الزمن القديم ، الإنقلابيّ ـ كعلامة ، فارقة ، كانت توجّه عناصر الأمن ، المتعقبين أشتات هذه المظاهرة وتلك ، المفرقة بالقوة ، إلى وجهتهم المطلوبة . فما أن يلمح الشرطيون رجلنا هذا ، بطوله المميّز ، إلا ويتسربلون معاً وراءه بكل تصميم وعناد ، في مطاردة تنتهي غالباً بالعجز قدام سرعة ساقيه ، والإتيان بغيره من " الرفاق " ، المتعوسين برفقته . " فتحي الأعور " ، كان أحياناً أحدَ أولئك المبخوسي الحظ ؛ خصوصاً ، ما لو ساقه رجال المكتب الثاني إلى رئيس مفرزتهم ، الكائنة في " المرجة " . ها هنا ، في ساحة دمشق ، الأقدم ، يدخلوا صاحبنا إلى ذلك الرئيس ، المنحدر من ريف " حوران " ، والذي حالما يقع بصره عليه ، فإنه لا بدّ سيهتف بلهجته الطريفة ، محنقاً متوعّداً : " يا أعورَ الـ ... ! أانت هنا قدامي ، من جديد ؟ " . هذا الرئيس ، قدّر له أن يعرفَ إبن زقاق " آلرشي " ، في طورَ فتوته ، الأول ؛ شقياً ، متعيّناً على أثاله التفتح بين الأفاقين والمقامرين والبلطجية . ساحة " المرجة " ، نفسها ، الشاهدة بدورها على ناصية " فتحي الأعور " ، الخاطئة ، كانت قد فجعت قبل ذلك بمرأى جسد " حسين عاقو " ، متهتكاً ، مسحولاً في جنباتها الحجرية ، قبل تهالكه على قضبان سكة " الترام " ، المتصالبة ـ كجسدِ مسيح ٍ : في ذلك اليوم ، كان الرعاع والغوغاء ، المسلحين بالغدارات والمدى والفؤوس ، مع من إنضمّ إليهم من متزمتي المدينة ومتنسبي القوميتين اللدودتين ، السورية والعروبية ، متجمهرين هناك ، في الساحة ، في غمرة هجومهم على مكتب الحزب الشيوعي ، إنتقاماً من قرار تقسيم فلسطين ، الحائز يومئذٍ على تأييد السوفييت . ثمة إذاً ، أين كان " عاقو " متمترساً في مدخل البناء ، مشهراً مسدسه ، مغطياً على إنسحاب الرفاق ، المتواجدين ، عبرَ فتحة المنور المؤدية إلى أمان السطح . ما لبث الرجل ، الجسور ، وإثرَ تأكده من سلامة رفاقه أن إستسلم لقوى الأمن ، الحاضرة ؛ هذه ، التي ما عتمت ، بدورها ، أن جردته من سلاحه ثمّ سلمته ببساطة إلى أيدي المتظاهرين ، السفاكة .

للحكاية بقية ..

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أبناء الناس
- الحارة الكردية والحالة العربية
- زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه
- بابُ الحارَة ، الكرديّة
- فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية
- أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
- زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
- هذا الشبل
- زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
- يا نائب وَحِّد القائد
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2


المزيد.....




- ابتكار ثوري.. طلاء -يعرق- ليُبرّد المباني!
- كيف يساهم تعليم العربية بكوريا الجنوبية في جسر الفجوة الثقاف ...
- بالتزامن مع تصوير فيلم -مازيراتي: الإخوة-.. البابا لاوُن الر ...
- -الدوما- الروسي بصدد تبني قانون يحظر الأفلام المتعارضة مع ال ...
- المرحلة الانتقالية بسوريا.. مجلس شعب جديد وسط جدل التمثيل وا ...
- تركي آل الشيخ يكشف عن رسالة لن ينساها من -الزعيم-
- الاحتفاء بالأديب حسب الله يحيى.. رحلة ثقافية وفكرية حافلة
- رغم انشغاله بالغناء.. ويل سميث يدرس تجسيد شخصية أوباما سينما ...
- قوارب تراثية تعود إلى أنهار البصرة لإحياء الموروث الملاحي ال ...
- “رسميا من هنا” وزارة التربية العراقية تحدد جدول امتحانات الس ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه