أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه















المزيد.....

زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2073 - 2007 / 10 / 19 - 10:08
المحور: الادب والفن
    


1
ربما كفى بكَ غروراً ، يا طفلَ الخريف ، ما كان منقوشاً بأحرف سود ، بارزة نوعاً ، على اللوحة المعدنيّة ذات اللون الأخضر ، المثبّتة على عمود الكهرباء ، الخشبيّ ، بمدخل الزقاق : تمعّنْ في اللوحة ، تلك ! يُمكنكَ الآن ، في سنّ الإبتدائية التي بلغتها تواً ، قراءة إسم الزقاق منعوتاً بكنية عائلتكَ ؛ هذه الكنية ، المحالة بدورها إلى إسم بلدة كرديّة ، تائهة بأنسابها على البساط الأخضر ، المفترش بين قمم " ماسياس " و " طوروس " ؛ أنساب غابرة ، متعددة ، لمسلمين وروم من عشيرة واحدة ؛ " الدوملية " ( أيْ : ذات الكتفيْن ) ، كانت منسوجة دهراً بخيوط زاهية ، قبل أن تتمزقَ فرماناً فرماناً إلى خرق خلِقة . غروركَ الطفل ، إذاً ، ضافره حقيقة أنّ الكنية هذه ، التليدة ، كانت سائدة أيضاً في سلسلة الأزقة ، المتعاقبة على المنحدرات الجبلية : ثمة ، في جهة الحيّ الشرقية ، " سَريْ حاريْ " ؛ أين الخلاء المنتهي بهوّة " وادي سفيرة " ، يخلط نسَبكَ بأنسابٍ اخرى ـ كما في زقاق " وانلي أول " ، المنتشر فيه بكثافة ، ملحوظة ، بيوتات آل " لحّو " / الفرع الآخر من سلالتكَ ، الدومليّة ، المفصولة جغرافياً عن فرعكم بحدود الزقاق المجاور ؛ " آلرشي " . هذا الأخير ، كان يحتبي في وسطه تماماً منزلاً هوَ الأكبر مساحة والأقدر شأناً ؛ منزل الجدّ " صالح شملكيْ " ، الذي فيه ولدَ أخلافه الستة ، وفيهم أمّك نفسها ، في قسمةٍ ، عادلة ، على أمّهاتٍ ثلاث . على أنّ سَكْرَة النسبِ ، الموسومة ، ما أسرع أن تبخرت من رأس صبيّ الأعوام الستة ، الذي كنتهُ أنتَ ، وعندَ أول ضربةٍ لشمس الحقيقة .

ـ " كان الأمرُ ، قطعاً ، مجرّد إنتقام أبناء أخيك من زوجة شقيقهم ، الأصمّ ! "
مخاطبة ً أبي بإيحاءات ، مبهمة ، محاولة بها صرف أذن الطفولة جانباً ، تقول الأمُّ معقبة ً على مأساة أختها ، التي دهمتْ العائلة قبل ذلك اليوم بأعوام أربعة ؛ وهيَ الأعوام نفسها ، التي قضاها في السجن ، الشخصُ المطلق سراحه للتوّ ، والمنعوت من لدنها بـ " كروْ " ( الأصمّ ) . ما لبثت والدتي أن إستطردت ، فيما هيَ تلقي نظرة اخرى على إبنة الخالة ، المرحومة ، التي كانت متلهية ثمة مع شقيقتيّ الكبيرتين : " الكل يعرف الحقيقة ، وأنّ جريمتها ، الوحيدة : كونها إبنة " صالح " ؛ الذي رضيَ تزويج شقيقته من أبيهم ! " . في اللحظة نفسها ، المتوترة ، ينبعثُ صوتٌ مرحٌ ، متمط ّ : " أنا الحيزبون ، جئتكم ثانية ً يا أولاد ! " ، فأقابله بصراخ وصخب وجلبة . كان توأمُ دارنا ، المزعوم ، قد أطلّ علينا برأسيه ؛ الأسودَ والأشقرَ ، فيما إبنة خالتنا ، ما فتئت هناك في مخبئها . هذه الصحبة ، المثلثة ، المتماثلة في العمر نوعاً ، أعتادت النأيَ بأنفسها عن ملاعب نهارنا ومشاغل ليلنا . أن ينحاز " جينكو " إلى رفقتنا ، نحن الأصغر سناً ، كان في صالحنا بطبيعة الحال ؛ هوَ الواقف بسنّ العاشرة ، في منتصف المسافة بين أعمار هاته البنات وأعمارنا . بكرُ المرحومة خالتنا هذه ، كان لها منزلة خاصة في مراتب الأسرة ، تبدّت في إلحافنا على حضورها إلينا . وهوَ الحضور ، غيرَ المرحّب به بحال من قبل عمّتها ، المتكفلة بها وأخوتها مذ وقت دخول أبيهم للسجن . من جهتها ، إحتفظت بكر أسرتنا ، الداهية ، بخيط صلة مع بكر العمّة تلك ؛ زميلتها في الإبتدائيّة ، وواظبت خلال ذلك زياراتها لبيتهم ؛ زيارات ، كانت تؤوب منها ، غالباً ، برفقة إبنة الخالة . خصامٌ مستطير ، إذاً ، دبّ منذئذٍ بين خالتيْ وعمتيْ الأطفال اليتامى ، شاملاً نسبنا جميعاً في معسكريْن ، نسوييْن ، هدأ من غلوائه ، أحياناً ، حياديّة الرجال هنا وهناك . بيْدَ أنّ أطفال الضحيّة ، أولئك ، كان من المقدّر لهم أن يضحوا بدورهم ضحايا .

2
الأنسابُ مقاماتٌ ، تكتسَبُ ولا توهب ؛ إنها للأسلاف وأضرابهم ، على كل حال . ما يعنينا ، هوَ الحصول على ألعاب مناسبة ، شيقة ، يتبارى بإستنباطها أخوتنا الكبار ؛ بما أنّ دخلَ الأهل أعجز من رفدنا بها ، حتى في مناسبات الأعياد . وهل ثمة من مثيل لأخي " جينكو " ، حقاً ، في تركيب اللعب تلك ؛ من مركبات ، مشغولة بأسياخ حديدية ، نحيلة ؛ إلى سيوف وخوذ وتروس من الحديد نفسه ، الأكثر متانة ؛ إلى أشياء اخرى ، مسلية ، ما أنزل بها في سورة الطفولة . ما كان من شيمته ، مطلقاً ، اللهوَ بإختراعاته تلك ، العجيبة ؛ الثمار المبكرة لفنه ، والموؤدة لاحقاً ـ كعقله سواءً بسواء . حتى النقود ، الوفيرة نوعاً ، المستجلبة وقتئذٍ من مهارته في الألعاب " الاخرى " ، كان يهبها لنا عن طيب خاطر ، دون أن يحتفظ لنفسه إلا بنذر من كفافٍ لمكانه الأثير ؛ صالة السينما : كل فيلم ، حرّيف ، مسكون في ذاكرة طفل الخريف هذا ، إنما هوَ من واردات إلهامكَ ، يا أخي ! ؛ كل بطل ، متحلّق في سماء طفولته ـ كسانتو وجوليانو جيما وستيف ريفز وكلينت استوود ، قد تبجّس من ديناميت حماستكَ ؛ وكل حضور له ، المتكرر مرة فمرة ، للفيلم الأثير نفسه ، كان بفضل نقودكَ تلك ، المُقامِرة : ولكنني ، في السنّ تلك ، ما جرؤت على إخباركَ بالشرك المنصوب لسذاجتي . ففي يوم ما ، معيّد ، إستوقفني أمام صالة " عائدة " شابٌ مهذب الهيأة ، ذلق اللسان ، فيما كنت أهمّ بشراء تذكرتيْن ، لي ولإبن عمّي : " لديّ تذكرتان لا أحتاجهما " . في زحمة الأولاد قدّام شباك التذاكر ، بدت أريحية الشاب ، المهذب ، مكرمة ً سماوية . ما لم نعرفه ، إبن العم وأنا ، أنّ التذكرة عادة ً يختلف ثمنها تبعاً لدرجة الصالة ، ممتازة كانت أم عادية ؛ كنا أصغرَ من إدراك ماهيّة الدرجات تلك . وعلى كل حال ، ففيلم " سبعة عبيد من روما " ، كان تحفة ً لأعمارنا لا تفوّت ؛ وعلى الرغم من خيبتي ، حينما هزأ بي فيما بعد " فوفو " ، صديق أخي الحميم ، مقهقهاً : " التذكرة في سينما " عائدة " ثمنها خمس وثلاثون قرشاً ، وعلى ذاك فهوَ " نصَبَ " منكما سبعين قرشاً ! " .

" فوفو " ، هوَ إبن جيراننا ، آل " حج عبدو " ؛ الإبن الأصغرَ للرجل الذي صرعَ بيد شقيقه ، الأصغر . ما كان هذا الولد ، الشاطرُ ، أكثرَ نباهة ً في يوم تال ، من أيام العيد : هنا ، قرب سينما " دمشق " ، إقتعدَ الأرض معتكفاً في زاوية متطرفة ، مشبوهة ، فيما إعتكبَ حوله غبارٌ مُقامِرٌ . و" لعبة الكشتبان " بسيطة وسهلة ، كما توهمُ الحشدَ المتزاحم حذاقة ُ مديرها ؛ الذي ما كان سوى جارنا هذا . هنا ، في مركز المدينة ، المزدحم ، تعيّن عليه اليقظة من رجال الشرطة ، المتربصين . ولذا ، إصطحبَ لرفقته ، الأمينة ، قريبه إبن " سنجو موسو " ، كيما يراقب المكان وينبهه عند الضرورة . اللعبة إذاً في خضمها ، واللاعبون على خسارة تلو الاخرى ، ما فتأت الكرة المقصّبة ، الأدقّ من حبة العدس ، تتسلل بخفةِ عفريتٍ من تحت الكشتبان إلى خلف الأظفر الطويل ، الخشن ، لمدير اللعبة : " ، إصحَ للشرطة ، أبا النوف " ، يخاطبُ صاحبُنا قريبَهُ بين فينة متوجّسة واخرى ؛ فلا يسمع سوى الجواب نفسه ، المكرر بلهجة خاملة ، نعسة : " أنا صاح ٍ لهم ! " . يرعبنا ، نحن الصغار ، منظر الشرطيّ ؛ فما بالكَ بدوريّة كاملة ، مدججة . " كبسة !! " : يصرخ أحدهم ، أخيراً . يتفرقُ المقامرون شيعاً ، منذورة للدروب الغريبة والغبار ، فيما نتسمّر نحن في مكان الرعب هذا ، البوليسيّ . بيْدَ أنّ " فوفو " ، وبالرغم من حذره ، يقع في قبضتهم . " عجَبكَ هكذا ، يا أبا النوف ؟ " : يخاطبُ بحدّة رفيقه ذاك ، الذي ما زال على جموده ، الأزليّ ، ولازمته نفسها : " أنا صاح لهم .. صاااح " .

3
مسلكنا العابثُ ، المرحُ ، ما أسرعَ أن طلبَ الفراق . عقب العيد ، مباشرة ً ، حضرَ ملاكُ الموت إلى الزقاق ، كيما يختطف هذه المرة روحَ إبنة " الشاميّة " ، الصغيرة المماثلة لعمري ؛ موتٌ ، قدّر له أن يكون أولى مناسبات الحِداد ، التي نازلتْ بعمق ذاكرة الطفولة . قبلاً، رحلَ العمّ الأكبر ، ثمّ تلاه بعد عامين شقيقه التالي عمراً . هنا وهناك ، ما ظفرت الذاكرة سوى بمشهد وحيد لكل منهما : جزعي الشديد ، المشدوه بدموع الأمّ وجلبة بعض النسوة حولها ، المحملات عدّة غسيل عمّنا ، الميّت ؛ وفي التالية ، إنصاتي مبهوراً لموال ، بالكردية ، ممدود ومتطاول ، مهيمن على رأس العمّ الآخر ، بصوت إمرأته " آموجني " ، الحزين . " وفاء " ؛ هوَ إسم البنت الراحلة ، إذاً . كانت رفيقة ألعابنا المشتركة وشقيقها ؛ المعروف بلقبه " أبي رأسين " ، والذي يصغرني بعام واحد . إنهما من أسرة غريبة ، من " الميدان " ، إستملكتْ في فترة سبقت ميلادهما جزءاً من منزل إبن العمّ ، الأكبر : ولذلك عُرفتْ الأسرة في الزقاق ببيت " الشاميّة " ؛ بيت المرأة الصعبة الطبع ، المتحكمة فيه رجلاً وأولاداً وشجراً وأحجاراً . إنها الآن هناكَ ، في حركة دائبة ، عملية ، مشرفة على أمور الجنازة ، المقتصدة ؛ ثمة ، بلا أثر ما لعبرةٍ أو تأثر ، فيما هيَ ترمي ملابس إبنتها الميتة إلى الأشقاء ، المتعوسين ، المركونين ضمن حلقتنا الصغيرة ، آمرة ً إياهم بأخذها بعيداً عن الزقاق وإحراقها .

ـ " هيَ من قتلَ أختي ، المسكينة ! "
كان صديقنا الحزين ، ذو الرأس الضخمة ، يردد أمامنا بإستمرار ؛ مضاهياً تأكيده بما يقصّه عن قسوة الأمّ وعنفها : " تكرهنا ، وتضربنا بإستمرار . وكانت تخص أختنا ، المرحومة ، بحقدها . بالقبقاب شجت رأسها ، أكثر من مرة . وحتى في الحمّام ما كانت تكفّ عن التنكيل بها ، فتدلق على رأسها ماءً حارّاً للغاية .. مغلياً والله ! " . المرأة ، التي قيلَ عن متعتها في هيض العظام الرخوة ، الهشة ، لفلذة أكبادها ، وبقسوةٍ غيرَ مفهومة بحال لغضاضة أعمارنا ؛ هيَ نفسها ، من كانت مالكة ً لمبالغ جمّة من اللباقة والكياسة في حضور نساء الحارة . مرحّبة برفقتي للأولاد ، كانت الجارة هذه ، الغريبة ، تستقبلني بهشاشة وبشاشة ، مدهشتين ؛ هناك ، في منزلها المتواضع ، والنظيف للغاية في آن ، والمضروب عليه ، على كل حال ، أثراً ماحقاً من قبضتها القوية ، النافذة . ربما أن صدمتي بوفاة رفيقة الزقاق ، التي بدتْ واضحة في ملامحي يومذاك ، كانت مناسَبة ً لحديث بين أمي وجارتنا تلك في عشية العزاء ؛ حديث نادر للحقيقة ، بما أنّ الحرَجَ كان سائداً بينهما في العادة . أضحيتُ منذئذٍ ولداً بكاءً ، يَهدرُ دموعَهُ في أيّ جنازةٍ مقيمة ، أو عابرة ؛ وبقي الحالُ كذلك ، دوماً .

4
مهرولاً ، كان على ملاك الموت ، ذي الهيئة المألوفة لكوابيسنا الطفلة ، أن يؤوب ثانية للزقاق : هيَ ذي غريبة ، اخرى ، على موعد مع الإنتحار ، تسمّماً . رجل المرأة هذه ، القاسي القسمات بعينيه الزرقاوين ، المشعتين شرراً ، وبصفته ـ كضابط من منبت قرويّ ؛ هذا الرجل ، كان المُشكلَ هنا وباعث المأساة . أكثرَ من مرة ، شهدنا نحن الصغار ضربه لزوجه ، المبرح ، فيما جيرانه من آل " عبده كَوتشي " ، أصحاب المنزل ، يحاولون تهدأته وكف أذاه . مشهدٌ ، كان يثير على الدوام مرحَ " حسام " ؛ ذكر العائلة الوحيد ، والمتخلف عقلياً ، وفي الآن ذاته ؛ بكاءَ شقيقته الكبرى ، المرير المؤسي . بأثر الملاك ، مضتْ الجارة ، البائسة ، في درب الزقاق ؛ ثمّ ما عتمت أسرتها ، الصغيرة ، أن غادرتْ بدورها إلى مسكن جديد في الشارع التحتاني ؛ مسكن ، لن يلبث أن يحتبي إمرأة اخرى ودموع البنت ، المتجددة . هذه الأخيرة ، صرتُ ألتقيها لاحقاً ، في طريقي إلى المدرسة : كانت علامة تعاسة ، راسخة ، منطبعة في الوجه الجميل ، المتغيّر إلى دمامة كئيبة . وفيما بعد ، أيضاً ، أُخبرتُ من شقيقتي ، التي تكبرني مباشرة ً ، أنّ هذه البنت أضحت تلميذة في فصلها الدراسيّ ، وأنّها على الرغم من صمتها ووداعتها ، الظاهريْن ، لا تني كل مرة عن الهمس لزميلاتها ، المهووس ، في الرغبة بالموت إنتحاراً .

يا لتعاستكِ " عربيّة " ! قرينتكِ تلك ، الغريبة ، الماضية إلى جهةٍ مجهولة ، أغستْ على تعاستها ، كان لا بدّ أن تخلفَ في داركِ حزنها المقيم ـ كلعنة . أشهر قليلة ، على الأثر ، والحفيدُ الأصغر ، الأثير ، " علي " ، إستوفى حقّ اللعنة ، الموسومة ، بإنتهاضه لملاقاة الملاك ذاك ، الذي أضحى كما لو أنه " مواطن فخريَ " في مملكة زقاقنا . على العتبة الواطئة ، المنذورة لجلسة جدّته لأمّه ، إعتدنا مداعبة الطفل ، المدلل ، المكتسي دوماً قمبازاً ناصعاً ، مزركشاً بعروق زهرية اللون ؛ العتبة نفسها ، التي تراءى هوَ فيها على هيئة شبح ، شاحب ، خلل أيام الحمّى ، الأخيرة . وللمرة الاولى ربما ، نتنعم بفاكهة حديقة " عبده كَوتشي " ، بعدما صارت هذه رقىً تسترقي بها صحّة الطفل الأسمر ، الواهن ؛ حديقة الجدّ المقتر ، المحرّمة ، الحافلة بأشجار مثمرة ، نادرة ـ كالموز والليمون الحلو . هذه الأخيرة ، ما كنا في تطاولنا إليها ، بحاجة لإذن صاحب الدار ؛ بل لإشارة من أولاد " كري عيشة " ، أصدقائنا ، المتصل سطح دارهم بالسطح ذاك ، الشحيح . ولكنّ " علي " ، لخيبة سعده وسعدنا ، لم يقدّر له الإبلال أبداً . حينما إحتملتْ الجدّة الجدث ، المستدق للغاية ، بدا لكل من عرفها من أهلينا ، كأنما هيَ مشيّعة ً ولداً ولداً ذريتها ، الراحلة . عيناها الزرقاوان ، غارتا عندئذٍ في مستنقع محجريهما ، فيما الهالات دوائر دوائر من مسيل الدموع ، غيرَ الناضب بعد . لكِ الله ، إذاً ، أيتها الغريبة ؛ ولنا أسطورة عينيكِ ، المُسَطرة بمداد ، أزرق ، على صفحة الوجه الأبيض للطفولة .

5
ـ " إعتباراً من اليوم ، لن يكون لي صديقٌ من آل " حج حسين " .
ـ وأنا أيضاً ، يا إبن " زنكَليْ " ! ، لست بحاجة لرفقتكَ " : محتدّاً بأنفةٍ شديدة ، أجبتُ إهانة " شيرو " ، زميلي في المدرسة الإبتدائية . في اللحظة نفسها ، التي فيها أدرت له ظهري بإحتقار ، إستقرّت حقيبته المدرسية ، الجلدية ، بضربةٍ غدر مبين على أمّ رأسي . وإلى أمّي ، على الأثر ، لكي أشكوها من عدوانيّة " إبن العمّ " هذا ، غير المبررة ، لتقابلني بضحكة مجلجلة ، شاركها فيها من كان حاضراً الجلسة الشتويّة ، الأليفة ، في الحجرة الكبيرة : " يا بُني ، من الطبيعي أن يغضب رفيقك ، حينما عيّرته بأصل عائلته " . المفردة الأخيرة ، في عرفنا ، المعروف ، لا يمكن أن تكون شيئاً آخر ، غير صفة للكنية ؛ فلا غروَ إذاً أن أبقى ، ولوهلة اخرى ، في حيرةٍ ؛ ما دام " شيرو " يحملُ كنيتنا نفسها . شقيقتي الكبرى ، الحاضرة وقتئّذٍ ، كان في فمها حجرٌ ما عادت تطيق صبراً إلا على لفظه . وإذاً ، كلمة " زنكَلي " ، ( " الجرَس " ، بالكردية ) ، هيَ والحالة كما شرحتها الأخت ، نعتُ تشنيع لا أكثر ولا أقل : إنها تحيل لجرس الكنيسة ، بطبيعة الحال ، ما دام آل " لحّو " ، على مرّ الحقب والقرون ، كانوا على مذهب الروم ، النصراني ؛ مذهب جدّهم الأول ، " لحْدو " ، قبل أن ينقلبوا بطواعية هدايتهم للدين الجديد ، الحنيف ، إلى تبني لقب جدّتهم " عَرَبيْ " ، الذي عُرفوا به مذ حلول سلالتنا في الشام ، الشريف .

من القائل ، أنّ الموتَ مفرّقُ الجماعات : يقيناً ، إنه مَعْقِدُ عصبتنا ، الصغيرة ، المتنامية يوماً بعدَ يوم . كلّ رحيل ٍ ولادة ٌ لصحبة جديدة . وها هوَ " شيرو " ، المفجوع تواً بمقتل أبيه ، يجدُ في زقاقنا ملاذاً لحيويته المأسورة في منزل الأسرة ، الكائن في طلعة " وادي سفيرة " ؛ المنزل ، المشمول منذئذٍ بالوحدة والتعاسة والكآبة . من جهتي ، نهضتُ دونما حماسة إلى صحبة قديمة ، مفجوعةٍ ، بدورها ، بما كان من حكاية الأنساب وإشكالاتها . ثمة حكاية أكثر جدّة إذاً ، طغت على كل ماعداها ؛ حينما شاءَ عمّ " شيرو " ، أن يكونَ نسخة اخرى من الأسطورة المنتسبة لجبلنا ، " قاسيون " ؛ المعرَّفة بالأخ القتيل : هذا العمّ ، كان قد كمن لشقيقه الوحيد ، الأكبر منه سناً ، عند أطلال خرابة " الرزي آني " ، المشرفة على الطريق العام . شجرة الميس ، المركونة ثمة مظللة مكان الكمين ، كانت أول من أطلق صرخة ذعر ، متأثرة بإندلاع الطلقات ، الغادرة ؛ صرخة ، أصدى عنها فرَقٌ متوجّس ، متسائل ، في أفئدة الصبّار والتين والجوز والزعتر والحور والسنديان والصفصاف ، المتناثرة حتى حافة النهر . بقيَ صديقنا ، الجديد ، يحيا طيّ صفحات الحكاية تلك ، المدميّة ؛ وما كفّ ، بإعتباره بكر القتيل ، عن ترديد قسم الثأر من العمّ القاتل . هذا الأخير ، سرعان ما إنتقل بأسرته من الحارة ، بعدما شملته مكرمة العفو الأخيرة ، الإنقلابية . فوق " عربين " ؛ البلدة المكتنفة بظلال الغوطة ، والتي إلتجأ لكنفها " قابيل " سلالتنا ، ظلّ قسَم الثأر ، الموعود ، يحلق مذاك الحين بجنحَيْ طير السوء ، المشؤوم . وسيظلّ ثمة في حومته ، أبداً .

للحكاية بقية ..




#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
- هذا الشبل
- زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
- يا نائب وَحِّد القائد
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2
- زهْرُ الصَبّار
- وداعاً ، إسكندرية كافافيس
- الأرمن والعنصرية اللبنانية
- الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما
- قاض سوري للمحكمة الدولية
- رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 3
- زنّار الجنرال


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه