أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله















المزيد.....

زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2060 - 2007 / 10 / 6 - 10:01
المحور: الادب والفن
    


1
ـ " عراااضة .. ! "
مسحوراً بالمفردة تلك ، الملغزة والمألوفة في آن ، رأى الصبيّ نفسه منقاداً ، بلا وعي ، خلف رفاق الزقاق ، المتحدرين ركضاً لاهثاً جهة الجادة الجنوبية ؛ ثمة ، أينَ السواد البشريّ المتلاحم بحماسة غامرة ، وبهدير هتافاتٍ مدوّية . عبثاُ كانت محاولته تمييز هذا الرجل ، الأشيب شعر الرأس نوعاً ، المعتلي سدّة المظاهرة بيدٍ ملوحةٍ بسيف قصير : " إنه أبوك ! " ، قالوا له وهم يشيرون بأذرعهم القصيرة ، ناحية الرجل ذاك . على أنّ كل شيء ، وعلى الأثر ، ذابَ في لجة الزحام ، كما في فيض شمس الصباح ؛ الصباح المتيقظ مبكراً ، مدهوشاً ، على جلجلة " البيان رقم واحد " ، المنبعث من إذاعة دمشق . يقينٌ متمكن ، بكون الأب من قادَ عراضة ذلك اليوم من أواخر أيلول ، قدّر له الترسّخ في وجدان الصبيّ البالغ للتوّ حدّ أعوامه الأربعة : فتلك ( القامة ) ، المشرعة يومذاك ، والمنقوش على مقبضها ، الخشبيّ ، هذا الإسم ، " جميل " ، ستمسي بعد قرابة العقد من السنين ، علامة التحقيق الجنائيّ ، الوحيدة ، في جريمة القتل المنسوبة للشقيق الكبير ، " جينكو " . ولا بدّ أنّ " عنتر الأعور " ، إمتلك بدوره يقينه الخاص ، حينما شاءَ في صباح الصخب نفسه ، الخروج على الخلق ملوّحاً بصورة زعيم القومية العربية ، العائلية ، مقلداً لهجة بائع جوال ، ممطوطة : " عبد الناصر وأولاده بفرنك واحد .. !! " . ولكنه بعيدَ مرور ساعة واحدة حسب ، شوهدَ وهوَ ملهوجاً ، يُنزل الغلق الصفيحي لدكان الخضار العائد لرزقه ، ويعمد للفرار من المكان لا يلوي على أحدٍ من جيرانه ، المتسائلين . كانت الإذاعة قد أعقبت بياناتها ، الإنقلابيّة ، بموسيقى كلاسيكية مطوّلة ومملة ، ثمّ ما عتمت أن فاجأت مستمعيها ببيان أكثر جدّة ، يبشرهم بتسوية سياسية ما ، تتيح عودة الإقليم الشمالي إلى حظيرة الجمهورية العربية المتحدة . بيْدَ أنها لم تعُد ، أبداً ، تلك الجمهورية العتيدة ، الإعتباطية ، وإنما ضحاياها من أولاد البلد ، المهملين في المعتقلات ؛ من أولاد حيّنا ، خصوصاً ، الذين أخرجوا دفعة واحدة من " المزة " ، السجن الشنيع ، مصاحبين بإطلاقات نارية كثيفة ، مبتهجة . والدي ، كان ثمة وسط العراضة إذاً ، يصافح رفاقه ويهنئهم ؛ هوَ المفرج عنه قبل ذلك بأشهر ، وبوساطة محتملة من لدن صديقه القديم ، " علي بوظو " ـ كما قيل لنا في زمن تال . إلى بيت هذا الأخير ، زحف الجمع اللجب ، الغاضب ، عند عودته العاتية من مركز المدينة ؛ أين تمت مهاجمة بعض مباني الحكومة الإتحادية ، البائدة ، وإشعال النار فيها . كان " علي بك " في القاهرة يومئذٍ ، فنجا من مصير مفجع ، كان ينتظره بالتأكيد في المنزل الفاره ، المتركن عند الجهة الغربية لحيّنا . ها هنا ، على جدران المنزل ، المتداعية بفعل اللهب ، سُجلت إحدى أساطير طفولتنا ، والمترجّعة مصير الأسرة ، المنكوبة : " أم علي " ، الجدّة ، تندفعُ خارجاً وبين يديها صغرى بنات البك ، المتبلغة الإصابة في العين اليمنى . صارخة ً تندفعُ ، مناشدة ً الجمعَ الثائر كفّ أذيتهم عن الدار وقاطنيها . مرأى سليلة الوجاهة ، في هيئتها الموصوفة ، ما أسهمَ بوقف المأساة فقط ، بل وردّ الأهلين ، على ما يبدو ، لخصلة التضامن الكريمة ، التي كادَ أن يمحيها من وعيهم ما طرأ على مسلكهم في الأعوام الأخيرة ، الإنقلابية ، من أطوار غريبة ، دخيلة .

2
ما قام به الدهماءُ في يوم الفرح العام هذا ، أسخط والدنا للغاية ، وعلى الرغم من أنّ علاقته بصديقه ذاك ، القديم ، كانت وقتئذٍ منقلبة إلى قطيعة بلا رجعة . ومع أنه عرف ، مؤكداً ، أنّ شقيقه سعى لدى " علي بك " لإطلاق سراحه ، إلا أنه كان متشككاّ دوماُ ، إزاءَ المسألة . على أنّ الأبَ ، بطبيعة الحال ، رفض فيما بعد قطعاً الإستعانة بنفوذ الرجل ، الذي كان وزيراً خطيراً في تلك الحقبة ، الناصريّة ؛ هوَ من خرجَ من المعتقل بسجلّ عدليّ ، أحمرَ الخط ، ليجدَ نفسه مهملاً على ناصية درب البطالة . كان كلاهما ، في فتوته ، على مقعد دراسة اللغة الأم ، في مدرسة الجمعية الحاملة إسم " كردستان " ؛ الوطن الأم ، المفقود . ثمة ، إعتادت نخبة مثقفي الحيّ ، وكانوا قلة قليلة على أيّ حال ، التحلقَ حول المعلم " جلادت بك " ؛ الأمير البدرخانيّ ، المتوطن في منفاه الشاميّ . وإذاً في فصل اللغة ، المًدار بإخلاص وتفان من لدن منفيّ آخر ، هوَ الشاعر " عثمان صبري " ؛ في هذا المكان ذاته ، تعارف أبونا بوزير المستقبل ، وأحد مؤسسي حزب الشعب ، المحافظ ، المتبني فكرة " الهلال الخصيب " ، المدعومة من الأسرة الهاشميّة ، في العراق . أما الآن ، فربما حقّ للوالد ، في عز أزمته المعيشية تلك ، المتخلفة عن إعتقاله ، أن يتحفظ أمام فكرة الإستعانة بوجاهة صديقة القديم . لقد تناهت لسمعه ، ولا شك ، تلك الطرفة المعنونة بـ " وساطة علي بوظو " ، المتداولة في أقاويل الحيّ . وزيرنا هذا ، وبحسب متن الطرفة دائماً ، كان منشغلاً في مكتبه ، حينما أطلّ السكرتير من شقّ الباب ، قائلاً أنّ شخصاً ، إسمه فلان ، يلح على مقابلته . حسنٌ ، ليدخل إذاً ما دام الأمر بهذا الإلحاح . ما أن همّ الضيف الطارئ الخوضَ بلغته ، الكردية ، إلا و" علي بك " يقاطعه مهتاجاً : " ماذا تبغي يا هذا ؟ ولم لا تفصح عن مرادك مثلَ بني آدم !؟ " . هنا ، دخل في وعي الرجل للفور ، أنه أحرجَ الوزير قدّام زواره ، فما كان منه سوى تدارك الأمر والتبسط بعربية سليمة ، راجياً إياه التوسط له في مسابقة قبول لإحدى الوظائف . ثمّ ما عتمَ الرجل أن خرج على الأثر راضياً ، وفي جيبه قصاصة ورق ، يفوح منها عطرٌ رسميّ . لم تنته حكايتنا هنا ، على كل حال . فالمشرف على المسابقة ، كان بدوره من حيّنا ، ولكنه لسوء الحظ في خصومة مع الوزير . في اليوم التالي ، يمثل رجلُ الوظيفة ثانية في حضرة البك . ماذا دهاك ، يا أخ ؟ تعود للتكلم بلغة ما أنزل بها من فرقان ! همساً ، يحاولُ إيصال الرسالة ، بالكردية ، لصاحب المكتب الوثير ؛ لصاحبه الذي كان زميلاً ، في زمن آخر ذي شيمةٍ اخرى . دونما جدوى إذاً كانت محاولته ، اللهمّ إلا إثارة اللهيب في الطبع الناريّ . أخيراً وبدوره ، إنتفخ عرق السلالة في أوداج الرجل ، فما كان منه إلا مخاطبة الوزير ، بالعربية ، وعلى مسمع من ضيوفه : " الموظف الذي تفضلتَ أمس بإرسالي إليه ، طلب مني إبلاغك أنه لم يتعرّف ، حتى الآن ، بشخص ٍ نذل ! " .

3
على مدارج المعتقلين السياسيين ، المفضية للحريّة في " يوم الإنفصال " ذاك ، سارَ أيضاً بعضُ سجناء الحق العام . هكذا فجأة ً وجدَ " قابيلُ " نفسه طليقاً ، ولمّا يمضي بعد نصف مدّة حكمه . كان جارنا هذا ، أصغرَ أولاد آل " حج عبده " ، الثلاثة ؛ بأعوامه المقاربة يومئذٍ منتصف الحلقة الأربعينية . ثمة إذاً ، خارج بوابة سجن " القلعة " ، ما وُجدَ من يستقبل الرجل غيرَ شقيقه الأكبر . هذا السجن ، كان يقبع في جيرة السوق الكبير ، الذي إعتاد " قابيل " ، في زمن أقدمَ ، أن يتبضع منه الأقمشة الرجالية ، ليعيدها إليه من ثمّ ـ كألبسة جاهزة ، مخاطة بأنامله ، الحاذقة ؛ الأنامل نفسها ، التي شدّت على المطوى القاتلة . هذا الرجل ، الملقب من لدنا " تأتوءة " لفأفأة في نطقه ، أعتبرَ في زمن طفولتنا ـ كشرّ لا بدّ منه ، ما دام باب منزل آل " حج عبده " يقف بمواجهة باب منزل " حج حسين " . ويبدو أنه في سنام فتوته ، تألق بوسامةٍ لا رحمة فيها ، مشفوعة بأناقة مكتملة ؛ أناقة خياطٍ أصيل : أقولها على ذمّة صورته الشخصية ، الفوتوغرافية ، المتهيء لي مرّة تأملها ملياً في حضور صغرى أقماره ، الموافق عمرها عمري . كلانا إذاً ، كان في يوم الجريمة في سنّ عامه الأول ، متملياً بالكاد الزقاقَ ولداته وألعابه وهرره وكلابه ؛ زقاقنا ، الذي ما عتمَ أن إرتفعَ فيه ، على حين بغتة ، صدى جلبة رجاليّة ، مبينة : " إبنتك أصلاً بلا أدب ولا تربية " ، يصرخ إبن " حج عبده " بوجه شقيقه الأصغر هذا ، معنفاً إياه بسبب شيطنات طفولية ، مألوفة .
ـ " عادة ً لا يتتتكلم عن التتتربية والأدب ، من كان مقامراً سكيراً ! "
ـ " كـ ... إمرأتك ! " ، يقذف شتيمته شقيقُ " قابيل " هذا ، محمّلة ً على جنحيّ صفعةٍ مدوّية ؛ شتيمة ، ما تهيأ له أن يحدس ، على الأرجح ، بكونها مختتم كلماته في الحياة . أهلينا وبدورهم ، ما كان أيضاً في حسبان شهودهم المشادة تلك ، الأخوية ، أنها ستتناهى إلى مشهدٍ تال ، دمويّ . جداراً جداراً ، تطوّح جسَدُ الرجل في إرتطاماتٍ وخبطات وإنتفاضات ، متعاقبة ، حتى مستقرّه في نزع نهائيّ حذاء عتبة منزلنا ، ثمّ هموده من بعد . أعوامٌ سبعة ، على الأثر ، وأجدني صحبة لدّاتي أمامَ مدخل الكهف المهيب ، المتوسّط جبل " قاسيون " من الجهة الغربية لحيّنا ؛ الكهف المَقام ، المنعوت من لدن الخلق بـ " الأربعين " ، إحتفاءً بحضور ، مجنح ، لأربعين نبياً . " هوَ ذا حجَرُ " قابيل " القاتل ، ما فتئ ندياً بدم شقيقه ! " ، يخاطبني شقيقي " جينكو " ، مشيراً لكسرةٍ صخريّة ، منطوية على نفسها بتواضع ـ كمتسوّلة ؛ هيَ من كانت مكسوّة بدِمْقس شاميّ ، متوسّلة ً أعطياتِ حجاج المقام ، من ملتمسي الشفاء أو البقاء. من تلك العمرة النجيعية ، أستعيدُ أيضاً ما كان من تدخل الرفقة الآخرين ، ورفدهم الإسطورة إياها بتفاصيل اخرى ، تفصحُ عن مداركهم الدينية المشوّشة ، والمحدودة على كل حال . على أنني وقتئذٍ كنتُ متفرّداً بذهني عن الجدل المحتدم ، في توغلي غلسة مكان آخر ، أبعدَ قليلاً ، وأكثر إلفة ً من هذا المكان الشبيه ؛ الذي شاءَ رحّالة المسلمين والفرنجة تعريفه بـ " مغارة الدّم " .

4
السجن ، مثلما الأرض الخلاء ، يطؤها البريءُ والفاجر . هنا ، وراء هذه الأسوار الحجريّة ، المتداعية بأديمها الغابر ، حظيَ " قابيل " بشيء من السلوان ، ما دامت لغته الأم هيَ الأكثر سؤدداً في " القلعة " ؛ بما كان من عديد مواطنيه مساجين وسجانين ، سواءً بسواء . على هذا ، كانَ محض إتفاق ، في واقع الأمر ، أن يلتقي الرجل في أحد أفنية السجن ، بجاره " عُطيْل " ؛ أحد أحفاد " حج حسين " ، الذي أعطى الزقاق نعته . إبن الحارة هذا ، كان ينزل في العنبر المجاور ، كما باحت المجاملة ، العابرة ، والعسرة في آن : فالرجلُ شبه أصم ، فيما الآخر على حبسة لسانه تلك ، الموصوفة . لقاء إثر أخيه ، وجدَ السجينان نفسيهما في عِشرة يوميّة ، لا غدَ لها على كل حال . " عطيل " ، الأحدث عهداً بالتجربة ، بدا أقل مبالاة في أروقة هذا المكان ، مقارنة برفيقه الناذر ساعاته السجينة ، المتطاولة ، للخواء والسأم واليأس . خارجاً ، بدتْ الحريّة لقلب " قابيل " أبعدَ منالاً من جبل " قاف " ؛ هوَ المتناهية نظرته نحوَ " قاسيون " ؛ الجبل المحتبي أضواء منازل الحيّ ، الألقة ، الراقدة حتماً في مثل هذه الساعة المتأخرة : ثمة ، في الزقاق الغافي على كوابيس زمن ٍ غريب ، مفقود الإلفة ؛ هناك ، تتعاشر على إغماض ٍ إغفاءةٌ أكثر عمقاً لأطفاله . ما كان يفصل بين منزليْ سجينينا ، إن هوَ إلا حائط من المدماك اللبنيّ حسب ؛ حائط ، ما أمكنه عزل الصرخة المكتومة ، المنبعثة في عمق ليلة أسحَقَ بعداً .

" جريمة شرف في حيّ الأكراد ! "
بهذه الجملة ، المدوّية ، ظهرَ في صفحة الحوادث ، الداخلية ، مانشيتٌ عريض بإحدى الصحف المحلية ، الدمشقية ؛ جملة مثيرة ، متبوعة بما تيسّر من التفاصيل الأكثر إثارة ، فيها ما فيها من أسماء شخوص وأمكنة ، كان من المحال ، قبلاً ، أن يَفضي بها بوحٌ ، أو همسٌ حتى . بيتُ الجريمة ، في الجهة العليا من الزقاق ، الشاخصُ جهة َ دارنا ببَصَر شبابيكه الرثة ؛ بيت الأشباح هذا ، لن يفتأ فاغراً فاه ، الأشدَق ، لطراوة طفولتي : من هنا ، سُحبتْ جثة الإبنة البكر لكبرى عمتيّ ، الملتحفة بما أغسى عليها من ظلام ليليّ ونور إلهيّ على السواء ؛ هيّ المكفنة بملابسها المدماة الممزقة حسب ؛ كيما تكون جديرة ً بالطيف المخيف دهراً طفولتنا . من هنا ، أيضاً ، من المنزل نفسه وفي زمن تال ، كان على كبرى بنات العمّ ، الأكبر ، أن تتقدّمَ خلل الخطى القليلة ، الفاصلة بين الجهتيْن ، وعبرَ دهليزنا المختوم بدرجات ثلاث ، عريضة ، والمُفضية إلى أرض الديار ، ومن ثمّ إلى درجات أربع اخرى ، أعرضَ ، كادت أن تتعثر بإحداها ؛ هيَ الملهوجة ، التي كانت في طريقها نحو جلسة الأسرة ، الصباحية المعتادة ، بمنظرة الحديقة المتناهضة لوداع الصيف . " قرعتُ باب منزل أخي ، ولا أحد ثمة ليجيبني ؟ " ، نُطقتْ لاهثة ً هذه الكلمات المريبة ، المرتسم على سيمائها ملامحُ تعاسةٍ ، جازمة ، والمتهاطلة على رؤوس الأهل ـ كمطر أسوَدَ ، من لدن سماءٍ عدوّة ، متوعّدة .

5
ـ " ماذا فعلتم بالمسكينة ، لا وفقكم ربّي ! "
هكذا أخيراً أجابتها صرخة الأم ، المشفوعة بملحق متطاول من عويل ونواح . جدّتي أيضاً ، كانت هناك ؛ هيّ المقيمة لدينا ، غالباً ، مذ وفاة العميد الأخير لآلنا . بلا نأمةٍ ، إنتهضتْ وبين يديها غلام السنتين ، الذي كنتهُ ، ميممة ً شطرها نحوَ الحجرة الكبيرة ، ثمّ أنشأتْ ثمة تنشج بالصمت نفسه : القتيلُ هيَ إبنة زوجها ذاك ، من امرأته الشركسيّة ، وكانت منزّلة عندها في مقام بناتها الثلاث عاطفة ً وحنواً ورعاية . هذه الإبنة ، هيَ علاوة على ذلك ، خالتي . ما قدّر للسنّ البدائية تلك ، من عمري ، أن ترسّخ صورتها في ذاكرتي . على أنّ بكرها الشقراء ، ذات الحسن الأغرّ ، لا بدّ وكانت وفق شهادة أهلينا هيَ الصورة المشرقة ، المنسوخة عن الأصل ، المغيّب . خالتنا ، كانت منذ صغرها منذورة للتعاسة ؛ مذ لحظة إفاقتها وشقيقها ، الأصغر ، على حقيقة إختفاء الأمّ من المنزل ؛ حقيقة ، حَفرتْ بمدية اليقين نقشاً في اللحم البضّ ، لما إنتظراها باكييْن النهار ذاك بطوله ، دونما جدوى ؛ وحينما تذكرا ، بالخصوص ، ما كانت تتهددهما به دوماً : " إني راحلة قريباً إلى أهلي .. ليكن هذا واضحاً لديكما ! " . إلى جدّتهما ، المقيمة في " الصالحية " ، غير ببعيد عن منزلهما ، هُرعَ طفلانا في مساء اليوم نفسه ؛ إلى أمّ والدتهما هذه ، اللا مبالية سوى بطقس وحدتها ، الحالم ، يتوجّهان بهتافٍ معولّ متأس ضارع ، أنْ إلحقي " ماما " قبل أن تدركَ الحافلة الظالمة ، التي توشك على الإنطلاق إلى " عمّان " . بقيا بضعة يوم هنا ، لدى العجوز البرمة ، المتأففة على الدوام ، ثمّ ما أسرعَ أن غذا السيرَ ، ثانية ً ، على الطريق السلطاني ، المفروش بأحجار الغرزة الرمادية ، والموصل حيّ " الشيخ محي الدين " بجاره الأقرب " حيّ الأكراد " . في منزل الأب ، إذاً ، الشاهد على ولادة الصبيّ بعد البنت ، ما كان الحالُ أكثرَ يسراً : ثمة ضرّة اخرى لوالدتهما ، مطلقة ، إلا أنها متشبثة بالبقاء هنا ؛ بما أنه لا مأوىً آخر يحويها وذريتها . ولكنّ الخالة " ريما " ، الطيّبة ، كانت هناك في الدار الكبيرة ، سيّدته على كل حال ؛ وهذا هوَ المهم ، ما دامت لن تسمح لرجلها بردّ طفليه التعسين ، المتوحّدين ، إلى جدتهما في " الصالحية " .

ـ " الصالحانيّة تلك ، دبّرت عريساً لإبنتها مناسباً ، ما كان في واقع الفضيحة سوى عشيقها هيَ ! "
ـ " وربما أنّ إمرأتكَ ، أستغفرُ الله ، من صلبه هوَ .. من صلب أبيها !! " : دأبَ صوتُ الشقيقتيْن ، اللجوج الضاري ، يصرخ في ليالي السجن ، الدهريّة ، بأذن " عطيل " شبه الصمّاء ؛ الصوت ، وما تصرّف عنه من إشاراتٍ خفيّة ، ملتبسة ، عن ذاك الجار الوسيم ، الغريب ، المستأجر حجرة ً لديهم . أثناء المحاكمة ، كانت المَدارك شبه القاصرة لسجيننا ، أعجزَ من أن تدركَ تلك العدوانية التي محضته إياها ، وبلا شفقة ، عينا كلّ من كان حاضراً في تلك القاعة ، المهيبة ، من " القصر العدليّ " ؛ وبشكل أحدّ أولئك الشهود ، من أقارب وجيرة ، المجمعين على تأكيد براءة المغدورة . ولكن لسعده ، فما تناهى إليه شيء مما كان يدور هناك ؛ اللهمّ إلا هذا الهسيس ، المأفون ، المستمرّ في سمعه منذ أن إكتشفت جدّته الحنون ، " سارة " ، وهوَ طفل بعد ، أنّ الأذن اليسرى كانت معششة بدودٍ مريع . وإذاً ، على المنوال نفسه من اللا مبالاة ، تلقى " عطيل " القرار بحبسه خمسة عشر عاماً ، وكذا ما أعقبه من إهمال الأشقاء أمر إستئناف الحكم ونقضه . هؤلاء الأشقاء ، الذين بالمقابل ما بخلوا عليه خلال سنين أربعَ من زياراتهم لسجنه ، بالمونة الوفيرة ، المستجلبة من نفحات كرَم الأعمام ، الموسرين ، ولا على أطفاله ، الأربعة ، بألوان من الذل والمهانة والعسف والعذاب ، المستجلبة من أتون حقدٍ تليد .

للحكاية بقية ..




#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
- هذا الشبل
- زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
- يا نائب وَحِّد القائد
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2
- زهْرُ الصَبّار
- وداعاً ، إسكندرية كافافيس
- الأرمن والعنصرية اللبنانية
- الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما
- قاض سوري للمحكمة الدولية
- رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 3
- زنّار الجنرال
- موت إنغمار بيرغمان ، آخر رواد السينما العالمية
- أمير الشعر
- لحية أتاتورك


المزيد.....




- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...
- اصدار جديد لجميل السلحوت
- من الكوميديا إلى كوكب تحكمه القردة، قائمة بأفضل الأفلام التي ...
- انهيار فنانة مصرية على الهواء بسبب عالم أزهري
- الزنداني.. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان
- الضحكة كلها على قناة واحدة.. استقبل الان قناة سبيس تون الجدي ...
- مازال هناك غد: الفيلم الذي قهر باربي في صالات إيطاليا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله