أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية















المزيد.....


فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2077 - 2007 / 10 / 23 - 11:01
المحور: الادب والفن
    


1 ـ استهلال :
كأي شعب آخر ، كان لا بد للأكراد أن يسترجعوا ماضيهم بحنو وحميمية . إن حقيقة فقدانهم لمؤسسات ثقافية مستقلة ، طوال معظم القرن المنصرم ، يُفسر التشاكل القائم لديهم بين التاريخ والأسطورة . وكان من الطبيعي أن ينعكس إشكال كهذا على تاريخ آدابهم ، والتي شكّل فيها الشعر ، الأرضية الأساس . إن التأكيد على الشعر هنا ، لا يخلو أيضاً من التباس . ومرد ذلك الى ندرة الشعراء الكلاسيكيين الذين خطوا نتاجاتهم بلغتهم الأم ، وعددهم ربما ينحصر بسبعة " مختارين " ، ممن وصلتنا أخبارهم من العصر الوسيط الممتد بين القرنين العاشر والسلبع عشر ؛ أي منذ صدور" رباعيات " بابا طاهر همداني ، وحتى الفترة التي فرغ فيها أحمدي خاني من كتابة ملحمته الشعرية " مم و زين " . من النافل القول ، بأن الأكراد أمة عريقة مترسخة الجذور في البقعة الجغرافية التي تضم الهلال الخصيب ، والتي شهدت مراحلها السحيقة القدم ، حكومات أسلافهم الغوتيين والهوريين _ الميتانيين والميديين .. وغيرهم . إنه أمر شاذ ، والحالة هذه ، أن يتأخر الكرد كثيراً في تدوين أدبهم القومي . بيد أنّ التاريخ يملك منطقه وحجته : فكما احتكرت لاتينية الكنيسة الأدب المكتوب في اوربة القرون الوسيطة ، كذلك فعلت لغة القرآن الكريم بالأقوام الاسلامية ، غير العربية ؛ والأكراد من ضمنهم بطبيعة الحال ، رغم أن حظهم على ما يبدو ، كان أقل من حظوظ الآخرين . فبالرغم من نجاح الأكراد بتأسيس بعض الحكومات خلال الطور الثاني من العهد العباسي ، إلا أنهم لم يتمكنوا أبداً من لمّ شملها في دولة واحدة . ولا ريب أنها لمفارقة مأساوية بالنسبة لهذا الشعب ، أن يكون أحد أبنائه ، صلاح الدين ؛ من استطاع فرض إسمه المكلل بالمجد ، كأقوى وأشهر حاكم في عالم القرون الوسطى بأسره . ويجوز القول ، بأن إسهام الكرد ما كان أقل من ذلك في الآداب والعلوم والفنون الاسلامية ؛ إذ يكفي ذكر أسماء بعض من مبدعيهم ، كإبن الأثير وابن خلكان وأبي الفداء وزرياب .. وفي ذلك ، يقول الاكاديمي الروسي أ . اوربيلي ، أن الشعب الكردي : " فقد خيرة أبنائه من الشعراء والموسيقيين والقادة ، الذين ازدانت بأسمائهم تواريخ الشعوب المجاورة " . إنّ النسيان يتكلم ـ على حد تعبير اوكتافيو باث . إن تلك الحقيقة ، آنفة الذكر ، لا تستحق التفاتة من لدن بعض " ممثلي " الشعوب المجاورة ، من مؤرخين وأدباء وسياسيين . إنهم يستكثرون على الكرد أن يكونوا كغيرهم من أقوام الله ، ذوي تاريخ وحضارة وأدب .. وحتى لغة ! . عند هذه الفاصلة من الذاكرة المفقودة ، يتفق أصحاب هذا التوجه الاستعلائي مع نظرة بعض المستشرقين الى تراث منطقتنا ، والمستمدة غالباً من معلومات مشوهة لمبشرين وديبلوماسيين ؛ نظرة تمحض الكرد ، أيضاً ، ببعض من ترهاتهم : " شعب آسيوي غربي . إنه شعب سحيق القدم ، أتى كسينوفون على ذكره تحت اسم " كاردوخ ". والاكراد آريون من أصل ايراني ، لغتهم مزيج من التركي والعربي ذات صلة كبيرة بالفارسية . ليس لديهم أدب . وكثير من الاكراد هم رعاة محاربون نهابون ، كانوا الأداة التي استعملت ضد ارمينيا ". كما جاء في موسوعة " كييه " ، الفرنسية . تأخر الأكراد ، اذاً ، في الخروج بلغتهم ، ناجية ، من بوتقة آداب جيرانهم ؛ وبخاصة العربية الاسلامية . المدهش في الأمر، أنهم حافظوا في الآن ذاته ، على كنز نفيس من التراث الشعبي ( الفلكلور ) ، ضمّ بشكل رئيس ملاحمهم وأغانيهم . لقد استطاع مثقفو هذا الشعب ، خلال القرنين الماضيين ، تدوين جزء ضخم من التراث الشفاهي ، دون أن نغفل مساهمة المستكردين والباحثين الأجانب ، وبالدرجة الاولى من الروس والأرمن والألمان . إذ بلغ من إعجابه بالأدب الشعبي الكردي ، أنّ آبو فيان قال عنه : " خطا خطوات رائعة ، وبلغ الكمال اللازم " .. ويتابع أبو الأدب الأرمني قوله : " إن كل كردي ، ذكراً كان أم أنثى ، هو شاعر بفطرته ؛ فالأكراد يتغنون ببساطة خالية من التعقيد بوديانهم وجبالهم ، بشلالات المياه والجداول والسواقي ، بالأزهار والسلاح والخيل والمآثر الحربية ، بجمال وفتنة فتياتهم الحسناوات .. وقصارى القول ، يتغنون بكل شيء تبلغه مشاعرهم وتدركه مفاهيمهم " .

2 ـ إشراق :
حينما يتعلق الحديث بالبدايات ، فإن العديد من المثقفين الكرد لا يقبلون لأدبهم المدون تاريخاً يقل عن التاريخ الذي يسبق الهجرة المحمدية والميلاد المسيحي . ثمة قناعة هنا ، بأن أشعار بير شلياري ، المنظومة باللهجة الهورامانية تحت عنوان " وصايا " ، تعود الى فترة سابقة لنزول الوحي القرآني . وفي مقدمته القيمة لملحمة " ممي آلان " الشعبية ، ينقل لنا الباحث نور الدين ظاظا ، رأي المستشرق الدانمركي كريستنسن ، والذي يعتقد يأن هذه الملحمة كانت معروفة في ميديا القديمة خلال الألف الأولى قبل الميلاد . من جهتهم ، انشغل مؤرخو الأدب الكردي في اجلاء الغموض عن سيرة شاعر من القرن العاشر الميلادي ، يُدعى علي ترموكي ، وصلت قصائد منسوبة له . وإذا وضعنا جانباً هذا النسب ، اليتيم ، فالمتفق عليه بين جمهرة المؤرخين ، أن بابا طاهر همداني ( القرن العاشر الميلادي ) ، هو الأب الخالد بالنسبة للأدب الكلاسيكي الكردي . جذور هذا الشاعر احتضنتها مدينة " همدان " ـ أو " آمدانا " القديمة ، كما كانت تدعى ، بصفتها عاصمة الميديين . من كل شعره ، لم يصلنا سوى " رباعيات " ؛ وهي إشراقات صوفية لاقت اعجاب الأجانب ، والذين ترجموها منذ وقت مبكر الى لغاتهم الاوربية . هذه الرباعيات ، كان من سوء حظها ، ربما ، أنها مكتوبة باللهجة اللورية ؛ مما أدى الى إختصام المؤرخين الكرد والفرس حول هويتها . ولقد ضمن الأولون ولاء معظم الباحثين الأجانب ، الى وجهة نظرهم التي تؤكد كردية الرباعيات . بل انّ المستشرق الألماني اوسكار مان ، ذهب أبعد من ذلك ، بتوجسه أن يكون المدونون الايرانيون ، خلال طبع هذه الأشعار ، قد أدخلوا العديد من المفردات الفارسية فيها ، وحتى نسب مقطوعات مزيفة لها. كما سبق القول ، فالنفس الصوفي يفوح من رباعيات الهمداني ؛ مفردات يغلب عليها اسماء الحبيبة الملهمة ، الدوارق البللور ، و الأبازيم العاج .. وكلها تدعي مماهاة عشق الذات الإلهية ، كما في هذه الرباعية التي تناجي ( فاطمة ) ، محبوبة الشاعر :
" عيناك تتلألئان ككأسيْ شراب
ومثل كنوز ملك " الريْ " حاجباك
تؤجلين دوماً لقاء اليوم الى الغد
والله وحده يعلم متى يكون غدك "

الحق أنّ الولادة الصعبة للكلاسيكية الكردية ، ستنتظر حلول القرن الثاني عشر الميلادي ، الذي أنجب شاعره الصوفيّ الأكبر ، ملاي جزيري . لقد وصلنا ديوانه كاملاً ، إلا أنّ ثمة نقصاً في سيرة صاحبه؛ وتحديداً ، الزمن الذي عاشه . فمن المؤرخين من تأخر به الى حدود القرن الخامس عشر. والرأي المستند الى شواهد أثبت ، تدعم التاريخ الشائع ( 1100 _ 1170 ). مدينة " بوطان " الشهيرة ؛ موئل الملاحم والاساطير ، والجنة المتراخية على ضفاف دجلة ، هي مهد هذا الشاعر العاشق ومن طبيعتها تطبّع شعره . ما كانت تنشئته لتختلف عن بقية مجايليه ، من تحصيل معارف اللغة والفقه في حلقات الدرس المسجدية. على أنّ تفوقه ، على ما يبدو ، ضمن له الإقامة في بغداد ؛ حاضرة العالم الاسلامي آنذاك ؛ إقامة ، ألف فيها نهره رغم ما كسر من رخائها أسرُ أسوار المعهد الديني . شاعرنا في موطنه مجدداً ، مضيفاً الى معارفه معرفة لغة الله ، فضلاً عن لغة شاعره الأثير " حافظ " ؛ الذى سار على منحاه في تفضيل الأوزان العربية . وكان من إجادته لهاتين اللغتين ، أيضاً ، أنه كتب بهما أشعاراً ورسائل وحواش ؛ وهو ما أضحى بمثابة تقليد معتمد ، عند من جاء بعده من شعراء . في حياة شاعرنا ، الصوفيّ ، عشق آخر ، غير ذي صلة بعشق الذات الربانيةّ ، وحلّق به الى أبعد من سمائها السابعة . شاء القدر أن تكون حبيبته ،" سلمى "، ايزيدية الديانة ، والانكى انها ابنة لأمير الطائفة . وإذ حالت الفروقات الدينية دون ظفر حبه ، إلا أنها عجزت عن منع معجزة خلوده . من كرمة شعر " جزيري " نعتصر هذا القدح :
" من اولى النعم التي منّ الله بها علينا
الكأس السلاف في كتاب السراط المستقيم
بالله وبقدس آياته ، أنه ما لم تشرب القهوة
من بديْ بائعها ، وما لم يفقد الشعور
فلن تبلغ السراط المستقيم "

الملحمة الشعرية الكردية ، الاولى ، كانت على موعد مع الشاعر أحمدي خاني ( 1650 _ 1706
؛ الشاعر المنتمي بروحانيته السرانية وفلسفته العميقة ، الى فصيل المتصوفة الكبار ‘ أمثال ابن عربي وجلال الدين الرومي والشيرازي . ومنه بالذات ، انطلق صوت الوطنية في الشعر ، وربما لأول مرة في تاريخ الكلاسيكية الكردية، مندداً خاصة بالهيمنة العثمانية والصفوية وتلاعبها بالهوى الدينيّ . ويؤكد هذه الحقيقة ، المستشرق الروسي أ . اوربيلي : " عندما نتحدث عن الوطنية في الشعر ، من الضروري ان نقارن بين ثلاثة من شعراء الشرق العظام : الفردوسي الايراني وروستافيلي الجورجي وخاني الكردي " .
هنا أبيات من ملحمته " مم و زين " ، تستجلي موقف الشاعر من عصره :
" إذا كانت تبعيتهم عاراً
هذا العار للناس معروف
خزياً للحكام والأمراء
ولا ذنب للشعراء والفقراء "

اضافة للقيمة الفنية العالية لملحمة " مم وزين " ، فإن اصرار شاعرنا على كتابتها بلغته القومية ، لهو أمر يستحق إلتفاتة جديرة . فالمعروف أن الكتاب الكرد الذين سبقوه ، دأبوا على تدوين مؤلفاتهم بلغات الجيران ؛ حال ابن خلكان وشرفخان البدليسي وفضولي واوليا جلبي .. وغيرهم . لقد كان " خاني " مدركاً وعورة إختياره . وهاهو يقول في ذلك :
" ماذا أفعل حين يكون كسادٌ في البازار
والسلعة ليست رائجة ؟ "

فتحت مبادرة " خاني " الباب للشعراء الأكراد ، لينسجوا على منواله وشياً أضحى أكثر رواجاً في القرن التالي: حكاية " يوسف و زليخة " ، الواردة في القرآن الكريم ، أضحت قصيدة طويلة ؛ مرة بريشة سليم بن سليمان ، والاخرى بخطّ حارس التبليسي ( القرن السابع عشر ) . وهي ذي قصة العشق العربي " مجنون ليلى " ، تصبح ملحمة شعرية كردية بقلم المنوّر ملا محمود بيازيدي ( القرن التاسع عشر ) . ولعل ملحمة " مم وزين " ، هي أندر أثر كردي معروف في اللغات العالمية ، كالفرنسية والروسية والألمانية والعربية . وهذه الأخيرة ، حظيت ترجمتها بشعبية غامرة بالنظر للغة مترجمها العلامة محمد سعيد رمضان البوطي ، البديعة ، وعلى الرغم من تصرفه بالنص الأصلي . جدير بالتنويه ، أن والده الشيخ رمضان ، كان قد أنجز مع زميله الشيخ عبد المجيد بدليس ، ترجمة عربية لمؤلف " خاني " الموسوم ب" نوبهار " ، والذي صدر في دمشق في مننتصف خمسينيات القرن الماضي .

3 ـ إسراء :
ثمة اسطورة ، بطلها الصوفي الكردي ، الشيخ خالد النقشبندي ، والمعروف بلقبه " مولانا " ؛ اسطورةُ حلم أخذه في اسراء عجيب الى أرض الحجاز ، ليلتقي هناك بمجذوب لا يلبث أن يعرف فيه شخص الشيخ الدهلوي ( نسبة الى التحريف الشائع آنذاك لإسم العاصمة الهندية ) ؛ قطب الطريقة الأكبر ، الذي كان قد همس له في ذالك الحلم آمراً إياه بالذهاب الى الهند : " وإلا فإن طريقك سيكون طويلاً " .
نؤوب الى الخطى الاولى ، لمن سيضحي فيما بعد الخليفة المعترف به لصاحب الطريقة ، لنجده فتى يافعاً يتلقى العلم ، من فقه وتشريع ، في مدينة السليمانية ؛ حاضرة إمارة البابان ، النائية بنفسها عن حكم آل عثمان . هو الذي ابصرت عيناه النور في ريف تلك الامارة الكردستانية ، شهرزور ، في عام 1776
، ومن سيسير منوّماً في درب حلمه ، عبر بغداد تلقياً لمزيد من العلم ومن ثم الى مكة حاجاً ، عابراً الشام الشريف في طريقه ؛ عبوراً كان قدره أن يصير إقامة دائمة له فيما بعد . نتابع الاسراء النقشبندي ، وهاهو " مولانا " في الهند يتشح بخرقة الطريقة ، عائداً وقد توّج بلقب فريد ؛ مجدد الوقت . في كردستان ، تكون له الحظوة ا لأثيرة لدى حاكمها الباباني ، بتقريبه من مجلسه وتخصيص زاوية ومسجد لطريقته رابطاً عليها الأوقاف اللازمة . إلا أن الجفاء دب أخيراً بينهما ، خاصة وأن خلق " النقشبندي " منعه من محاباة الأمراء وحاشيتهم ، دون أن ننسى خصوم طريقته اللدودين ؛ شيوخ السجادة القادرية ، الأكثر قدرة وتأثيراً في الإمارة . إلا أنه ولكي تكتمل الاسطورة ، كان لا بد أن يسري سبب آخر للخلاف . إذ ينقل لنا الرحالة الاوربي " ريج " عن أهالي المنطقة ما أسماه بحكاية " هروب النقشبندي من كردستان الى الشام "؛ وهي أن كرامات الرجل عجزت عن شفاء علة إبن الحاكم الباباني . أياً كان الأمر ، فقد احتفلت دمشق للمرة الثانية باستقبال قطب العصر ؛ دمشق التي محضها كرد ذلك الزمان شوقاً مفعماً بالمحبة والقداسة ، لما أشيع عن طهارة أرضها و حرمة جبلها ؛ وهو ما عبّر عنه المنوّر الكردي ، جكَر خوين ، بقوله : " إنهم يضعون آمالهم في الشيخ لإيصالهم الى الجنة ، ويعتقدون بأنه في يوم الحساب ، حين يهبط الله في دمشق ، فالشيخ سوف يجنبهم دخول النار ويفتح لهم بوابة الفردوس " . يصطحب شيخنا معه ركباً مديداً من الزوجات والأولاد والأحفاد ، فضلاً عن جملة من علماء اقليمه الذين صعب عليهم فراقه ، وممن صاروا فيما بعد دعاته في الديار الشامية . يلازم " مولانا " مركز المدينة ، حيث مسجده وزاويته ، ولا يلبث إثر إقامة راسخة أن يختطفه وباء الطاعون عام 1866 ، موصياً قبل رحيله بإيداع جثمانه في سفح جبل قاسيون ، المقدس ؛ السفح الذي يبرز منه مشهد تكيته الكبرى ، المشرفة من رابية ساحرة على حيّ الأكراد . عدا ديوانه ، خلف لنا أكبر شعراء الأكراد المتصوفة في القرن التاسع عشر ، العديد من المؤلفات والرسائل المكتوبة بمعظمها بالعربية والفارسية . وبما أن شعره اختلط فيه لهجتا موطنه الأول بمفردات فارسية كثيرة ، فقد شبّه لبعض المصادر أنه فارسي اللغة ؛ على أساس احتواء هذه اللغة لكم هائل من الكلمات العربية . غير أنّ هذا القول يجانب الصواب ، خاصة اذا عرفناأن العادة التي كانت شائعة عند الصوفيين ، غير العرب ، حبذت حشو الشعر بمفردات وحتى جمل كاملة من لغة الوحي السماوي . وهذه رباعية من شعر مولانا النقشبندي ، أشرنا بين قوسين للكلمات العربية الواردة فيها :
" مرة اخرى ، حبيبتي ، تجلي كضوء السراج
نوّري ( جبل أحد ) ، تكشفي كالنار
يسّاقط طيباً ، فوح نسيم العنبر
على البساط يهطل الضياء ( في الليل يلجون النهار ) "

الشعر الكلاسيكي الكردي ، المدون باللهجة الصورانية ، تأخر الى بدايات القرن التاسع عشر ؛ حقبة مجد الامارة البابانية . وعن ذلك الرجل الذي قام على قامته بنيان الشعر الكردي في العصر الحديث ، يكتب المستشرق الروسي مينورسكي : " أعتقد أن المركز الرئيس للشعراء الأكراد قد انتقل الى مدينة السليمانية ، حيث عاش الشاعر المشهور جداً ، نالي " . الإسم الحقيقي لهذا الشاعر هو ، ملا خضر ، الذي تحدر من نفس اقليم مولانا النقشبندي ؛ شهرزور ، ومولده كان في حدود العام 1800. تفتحت عيناه ، إذاً ، في اوج ازدهار الامارة البابانية ، وقدر لهما ، أيضاً ، أن تشهدا أيامها الأخيرة . في خانقاه الطريقة النقشبندية ، في مدينة السليمانية ، استقر " نالي " بهدف الاحاطة بعلوم الدين ،مكحلاً نظره ، بين صدفة وأختها ‘ بمرأى مولاه شيخ الطريقة . إلا أن دروسه الدينية ، وأسر التكية ، لم تمنعه من قضاء صباه متصبباً بعشق فتاة اسمها " حبيبة " ، دأب شعره على التغني بها حتى النهاية :
" خصلات الشعر مبعثرة حول قدكِ
وقد خدعتني اليوم وحالت دون معرفتك
لماذا لا أبكي ، عندما تؤذين مائة مرة قلبي ..
كيف لا تنسكب الخمرة ، والقدح مكسور من مائة مكان ؟ "

تأثر " نالي " بقراءاته لنتاجات الأدبين العربي والفارسي ؛ مما تشفّه نماذج من شعره الغزلي ، الذاخر بالصور الرائعة . من ناحية اخرى ، فإن المصير التراجيدي لإمارة البابان ، والتي قضت عليها " اصلاحات " الباب العالي ، خلفت جرحاً عميقاً في مشاعره القومية ؛ جرحاً ما فتيء ينزف في شعره . لقد ربطته صداقة ومودة بأحمد باشا ، آخر رجالات السلالة البابانية ، وخصه ببعض قصائد مديحه . وقدّر للرجلين ، فيما بعد ، أن يتشاركا نفس المنفى . حبّ يائس ووطن ضائع ؛ فلا غرو ، إذاً ، أن يسم الشاعر نفسه بالإسم الذي اشتهر به لاحقاً " نالي " ؛ ومعناه ( أنين ) . متغنياً بلغته الأم ، ينشد شاعرنا :
" حينما تعبر بالكردية ، لغة الشاعر فيّ
تضع نفسها عمداً ، أمام امتحان
فارس في ميدان البلاغة ، أنا
أقتحم ، فتنكص أمامي اللغات الأجنبية "

كان قد مرّ عقدان على وفاة مولانا خالد . وهو ذا مريده ، نالي ، يسلك أيضاً الاسراء المؤدي الى الفردوس : يقضي في الشام سنوات ثلاث ، مجاوراً في التكية النقشبندية بحي الأكراد ، والتي تضم تجاليد " مجدد الوقت " . يستند الى قاسيون ؛ جبل الأنبياء والاساطير ، مرسلاً طرفه الى مشهد الحاضرة الساحرة وغوطتها النضرة . في غربته الدمشقية ، يشعر نالي بشوق عارم لمدينة السليمانية ؛ موطن فتوته وأثاله ، فيكتب هناك أحسن قصائده " أفدي بضعة من غبار دربكِ " . ومن الشام ينتقل شاعرنا الى استانة العثمانيين . يلازم هناك أميره الباباني ، أحمد باشا ، والذي أضحى الآن صديقاً حميماً له ؛ صداقة المنفى الأخير التي أغمضت عينا ه عام 1856 . في العام الذي تلى وفاة الشاعر ، تسنى للمستشرق الروسي ، خودكو ، فرصة لقاء الأمير الباباني في باريس . وفيما بعد ، كتب المستشرق عن هذا اللقاء في مقالة له ، وفيها ذكر أن هذا الوجيه الكردي ، المنفي ، حدثه عن شاعر كردي كان يقيم في دمشق وإجادته للغة العربية ، والتي ترجم منها كتاباً في النحو الى لغته الأم ؛ وأن هذا الشاعر عرف بإسمه الأدبي " نالي " .

المصادر :
1 _ بيتر ليرخ ، دراسات حول الأكراد / ترجمة د . عبدي حاجي _ دمشق 1992
2 _ بروفيسور مينورسكي ، الأكراد / ترجمة د . معروف خزندار _ بغداد 1968
3 _ باسيل نيكيتين ، الأكراد / الترجمة لدار الروائع _ بيروت 1971
4 _ بروفيسور قناتي كردو ، تاريخ الأدب الكردي ( بالكردية ) _ انقرة 1992
5 _ نور الدين ظاظا ، ممي آلان ( بالكردية ) / نشر وتقديم _ دمشق 1957
6 _ أحمد فوزي ، قاسم والأكراد / غير مذكور مكان وتاريخ الطبع
7_ وليم ايغلتن الأبن ، جمهورية مهاباد الكردية / ترجمة جرجيس فتح الله _ بيروت 1972
8 _ جكر خوين ، تاريخ كردستان ( بالكردية ) / ستوكهولم 1985
9 _ د . معروف خزندار ، موجز تاريخ الأدب الكردي المعاصر / ترجمة د . عبد المجيد شبخو _ حلب 1993

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
- زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
- هذا الشبل
- زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3
- يا نائب وَحِّد القائد
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 2
- زهْرُ الصَبّار
- وداعاً ، إسكندرية كافافيس
- الأرمن والعنصرية اللبنانية
- الختم السابع : بيرغمان وشعريّة السينما
- قاض سوري للمحكمة الدولية


المزيد.....




- سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال ...
- الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
- من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام ...
- دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-. ...
- -سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر ...
- البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة) ...
- تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
- المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز ...
- طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه ...
- بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال ...


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية