أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون















المزيد.....


زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2104 - 2007 / 11 / 19 - 10:08
المحور: الادب والفن
    




1
ـ " من أجل الله ، كبّسني ! "
هذا ما إعتدنا قوله ، في محضر " الشيخ سعيد " ؛ الرجل المجذوب ، الناحل والشديد السمرة ـ كإعرابيّ ، والمنتصب بإستمرار على الطريق العام ، كما لو أنه إشارة مرور . مكانه المألوف هذا ، يشرف على جسر " الكيكية " ؛ مدخل حارتنا ، الرئيس ، وما يتصل به من التقاطع المصالب الشكل ، والمشكل نقطة إلتقاء جادة " أسد الدين شيركوه " بسلسلة الأزقة ، المتمادية في صعودها حتى المنحدرات الجبلية . هنا إذاً ، كان الرجلُ المبارك ، غيرَ المعلوم أصلاً وفصلاً ، موضع إحتفاء التلامذة ولقائهم به ، شبه اليوميّ ، عند خروجهم من المدرسة ؛ هوَ المحابي جمهرتهم بيده اليسرى ، فيما يمناه ، المشلولة ، معقوفة من رسغها بإنحناءة مستسلمة للقدر . " ترَكْ تكْ تكولو ، ترَنْ تنْ تنولو ! " : تتردد لازمة شيخنا ، المتتابعة ، تبعاً لعديد الأطفال حوله ، المؤلفين ما يشبه الطابور . وبالرغم من الخرق ، الخلِقة ، الملتحف بها جسد الرجل على مدى فصول العام كله ، فقد وُجدَ من آباء أولئك الأطفال من يقسم بالإيمان ، الإعتباطية ، عن الثروة القارونية ، الموضوعة بتصرّفه . المفردة الأخيرة ، كان مبعث تشديدها ما سيعقب من إستطرادات عن مَخطر الجنّ ، المتآخي مع الشيخ ، والمتجلي بحلقات الذكر ، " النوبة " ، المترامي صخبها من حجرته ، ليلاً ؛ الحلقات ، المشارك فيها أناس أغراب ، مجهولو المصدر ، والسائل ذكرها على كلّ لسان ـ كأسطورة اخرى ، من أساطير حيّنا . حجرته تلك ، المتموضعة في الخرابة المفتتحة درب الزقاق ، الموصل لمسجد " ملا قاسم " ، كانت محتفية أيضاً بمجاورة ضريح الوليّ ذي الشفاعة ، المنذورة له أنشودة أعيادنا ، الأثيرة :
" يا شيخ محمّد ، لُوْ لو / قديش مصمّد ، لو لو
مصمّد ربعيّة ، لو لو / قدّ التبنيّة ، لو لو .... "

ذلك كان حال طفولتنا ، مع أحد رموزها ؛ مع أحد بقايا الطريقة الصوفية ، " النقشبندية " ، المحالة زمنئذٍ إلى الإنحلال والإضمحلال ـ كأسماله سواءً بسواء . من ناحيتي ، ما شغلتُ بما كان يتداوله كبارنا عن " الشيخ سعيد " هذا ؛ غناه ونوباته ، المُشارك في مجونها الليليّ ، على زعمهم ، النساء والغلمان . فما كنتُ في ذلك العمر ، الهش ، لأهتمّ سوى بتلك الصحبة ، العجيبة ، بين الإنس وطائفة الجان ؛ الإهتمام ، المتأثل وقتذاك فكريَ الطفل ، حدّ أنني دأبتُ على تأمل مجذوبنا ، وزهده في مدّ يده السليمة ، المتسوّلة ، للمارّة العابرين . " وكيف يشحذ الفرنكات ، من بتصرّفه كنوز الملك سليمان ؟! " : يقول صديقنا ، " آدم " ، إبن جيراننا من آل " كرّيْ عَيْشة " ؛ هذا المُعتبر من لدنا دليل عصبة الزقاق ، الصغيرة ، والمعدّة بدورها بمثابة ظلّ للعصبة الحقة ، العتيّة ، التي يقفُ على رأسها أخي الكبير. هكذا قرّ رأينا ، ذات مساء صيفيّ ، على إقتحام أسرار الشيخ الغامض ، والمكلوءة برمم الوليّ ، الأكثرَ غموضاً ، مستسهلين المحاولة ما فتأ بابُ عرينه غيرَ موصدٍ . فالمكان المقدّس ، لا حاجة لتتريس بابه بأيّ مزلاج ، طالما مفاتيح أقفاله ، السريّة ، موجودة في جيوب حراسه ، الجان : هذا ما أدركناه ، حال شخوص أبصارنا نحو الجدران الطينية ، العالية ، المسوّرة أطلال الخرابة تلك ؛ كما وبجلاء أفئدتنا ، المتسارعة الخفقان . هذا الفشل لفضولنا ، الهيّن على كل حال ، سرعان ما عوضناه في محاولتنا ، التالية ، المنتسبة لعالم الأنس .

2
ـ " إنه لا يكفّ عن السكر مساءً ، وعند منتصف الليل ينزل على بيوت جيرانه ! "
نقول بلهجة جازمة ، في إشارة للعجّان ، الغريب ، العامل في فرن " أبي معروف " . من قرية هذا الأخير ، " حفير " ، المعروفة في برّ الشام بطرافة ساكنيها ، قدمَ الرجلُ المتوحّد ، الطاعنُ في سنّ متأخرة نوعاً ، يبدو أنها أكبرُ من سنه الحقيقية ؛ هوَ الأشيب شعر الصدر ، الأصلع الرأس ، وذو العينين الحمراوين ، المسددتين بترقب ، حاقد ، نحوَ عينيْ فضولنا . فمن شقّ باب غرفته ، الملفق في صفته ، الخشبية ، كان بمقدور واحدنا مراقبة العجّان هذا ، المتعتع في ثمالةٍ مقيمة ؛ غرفة الإيجار ، شبه الخربة ، الملفوظة من البدن الجسيم ، الحسن التقاسيم ، لمنزل عمّتي " عيشة " ، والذي آل بعيد وفاتها للإبنة الوحيدة وعائلتها ، العديدة الأنفس . " أرأيتم الشريرَ ، وطريقته ، الفاسقة ، في التحديق ! " : نتوغل في جزاف القول ، غير عابئين بحقيقة إحداقنا بحياة الرجل ، الخصوصية ؛ نحن من لا نلبث أن نتراجعَ بضع خطوات ، مأمونة العواقب ، كيما نسدد حجارتنا الصاروخية ، الصمّاء ، نحوَ باب الرذيلة ذاك ، المفترض في عرفنا الطائش . بيْدَ أنّ طيشنا هذا ، في الواقع ، ما كان بلا عقاب دوماً . ها نحنُ أنفسنا ، الصناديد ، نتبعثرُ في كلّ جهةٍ منذورة لأقدامنا الملهوجة ، الحافية ، فراراً من الغضبة الشريرة ، الصاحية من الذهول ، والناثرة بأثرها غمامة من االيانسون ، ذي العبق النفاذ . أقدامنا السريعة ، المتهافتة ، دأبتْ في هكذا مواقف ، عسِرة ، على المساعدة ؛ وعلى الرغم من أنّ صنادلنا ، الصيفيّة ، كانت غالباً هيَ الضحيّة ـ ككبش إلهيّ : هيَ ذي ثمة ، في عهدة الرجل المستعيد رويداً هدوءه ، والمتطلع نحوَ جمهرتنا بنظراتٍ متشفية : " هلموا يا أولاد الحرام ، وتسلموا قذاراتكم ! " ، يردد على مسامعنا فيما هوَ يلوّح بفردة هذا الصندل وذاك .

ـ " عقاب الأهل ، أرحم من إنتقامك ، أيّها القذر ! "
تخاطبه بدورها دواخلنا ، بينما أعيننا تراقبُ تلك الأحذية ، المستكينة ثمة ، المستسلمة لسكينه الجزارة ، والماعتمتْ أن ترامتْ أوصالاً ممزقة تحت أقدامنا الحافية . إنتقامه هذا ، سيقابله سراعاً إنتقامنا ، المضاد . ولانكفّ عن لعبة الطيش ، المنكدة عيش العجّان البائس ، إلا بأثر شكوى جاره ، " فيّو " ، المتناهية لأسماع آبائنا . ندع الرجل ، إذاً ، وحاله . ولكن ما باله ، حالنا ، ما يفتأ على إلحاحه علينا ، كيما نمرّ ـ كطرف البرق ، فوق الجادة الرئيسة ؛ ثمة ، أين تقوم بسطة " آيدين " . ما من تأويل ، مرجوح ٍ ، على لغز صلتنا الوشيجة بهذا الرجل ، أكثرَ من أرجوحته ، الحديدية ، المركونة إزاءَ الحائط المقابل لمدخل زقاقنا . بضاعة بسطته ، من سكاكر وعلكة وبسكويت وراحة وما إلى ذلك ؛ هذه البضاعة ، المقتصدة ، كانت سبيلنا أحياناً إلى ركوب الأرجوحة تلك ، مجاناً . ولكن مع مزاج صاحبها ، المتقلب تبعاً لعسر خلقه ، كان أحدنا يضطر غالباً إلى إتباع الحيلة : فمن أسباب الإقتراب من العفريت ، الحديديّ ، أن يعمد الواحدُ منا إلى تهدئته أو إثارته ، ومن ثمّ القفز بين فينة واخرى إلى القاعدة المصفحة ، منطلقاً هكذا مع ركابها ، الصغار . إنما وقد أضحى " المساعدون " أكثرَ عدداً من الركاب ، الأصليين ، فما على " آيدين " إلا التلويح بعصاه ، إنذاراً لنا . كان الرجلُ ذا عاهةٍ ، مزدوجة ، بيد يمنى مشلولة ، يقابلها من خلاف رجلٌ يسرى على العطب ذاته ؛ العاهة ، الما فتئتْ لطفولتنا ـ كحجّةٍ على مجلد أسطورته ، المتضخم صفحة صفحة : بيد تقبض على رسن البغلة ، واخرى محتضنة البندقية ، الإنكليزية النوع ، كان في شبابه يقتحم بنفسه دونما وجل ، وبدون أيّ مرافق ، مزارعَ " القابون " و " حرستا " و " دوما " . في هذه الأخيرة ، تحدد مصيره ذات ليلة من ليالي " آب " ؛ شهر الحصاد والنهب . ثمة ، حول شجرة الجوز ، العملاقة ، تحلق بعض القرويين ، المسلحون بالغدارات ، وراحوا يحدقون إلى أعلاها بعيون مجتاسة ، متفحّصة . " آيدين " كان هناك إذاً ، بين أفرع الشجرة الكثة الأوراق ، يحاول تلقيم بندقيته ، أو تسديد فوهتها بشكل صائب ، لما تدافعت نحوه الطلقات النارية ، الصمّاء .

3
ـ " ولما عادت البغلة إلى " دلال " ، بدون صاحبها ، أدركت هذه أنّ شراً ما ، دهَم الرجل "
كذلك يتابع الحكاية ، من إنبرى لترديدها على مسمعنا ، وربما للمرة المائة . بيدَ أنّ التكرار ، في حالتنا ، كان يهب الأسطورة مدىً أرحبَ ، لا مكان فيه للقناعة . هيَ ذي المرأة القوية ، الشديدة العزيمة ـ كما يجدر بجذرها ، الريفيّ ، تتناهض على الفور ، ممتطية البغلة نحوَ مكان الكمين ؛ البغلة الدليل ، التي تمضي بدورها بأثر خطوها المعاكس ؛ تمضي بلا كلل وبكل وفائها لصاحبها . إنهما الآن على مشارف البستان ، أين الجوزة العملاقة محدبة بظلالها على الجثة . ما أن وقع نظر " دلال " على رجلها ، المتكوم ثمة في البقعة العتمة ، حتى إعولت بصراخ لبؤة جريحة . كون المرأة هذه ، قد تحدرت أصلاً من " برزة " ، المجاورة ، ربما لعبَ دوراً أساساً في هروع القرويين إلى نجدة رجلها النهّاب ، المتبدي فيه رمق حياة ، واهٍ . نجا " آيدين " من الموت ، بطبيعة الحال ، إثرَ عملية جراحية ، طارئة ؛ عملية ، ما قدّر لها ، بالمقابل ، أن تمحّص جمجمته من كبسولة رصاصية ، أسلمته لشلل نصفيّ ، مؤبّد . كنتُ أحياناً ، وفي أسى تأملي لتمخض سعال الرجل عن دويّ مختنق ، أتساءلُ ما إذا كان يقصد الكبسولة تلك ، المستعصية في رأسه ، فيما هو يبصق بلغمه الكثيف ، المعذب ، هاتفاً : " خاااك تفووو .. وتفو عليكِ ، أيضاً !! " .

" آيدين ودلال " ؛ أسطورة طفولتنا ، هيَ ذي . تقليبكَ في صفحات مجلدها ، كان لا بدّ أن يصل بكَ إلى مبتدئها بعد خبرها ؛ بما حتمه نموّ وعي الصغار بمسائل " خاصة " بالكبار . لم تع من مسلك الرجل مع زوجه هذه ، وهما في مطاعن العمر ، سوى الإحتداد والبرَم . في مشاداته معها ، كان يكرر شتيمته ، المفضلة : " يا إبنة الحرام ! " ، الخاتمة سلسلة متصلة من المفردات البذيئة . و" الحرام " هنا ، كما جدّ لكَ معرفته ، لاحقاً ، كان معقدَ إزار سيرة هذه المرأة ، الغريبة ، الأكثرَ إلفة لطفولتنا . كان قدر شبابها ، المهتوك ، أن تسلم جسدها الرشيق ، المثير ، لرجل بعد الآخر ؛ قدر ، إبتدُه بزيجة غير موفقة مع قريب ، عجوز ، ولت من سريره ، ذات ليلة ، وإلى غير رجعة . أطفالها الأربعة ، الصغار ، بقوا ثمة في " برزة " ، بإنتظار عودتها ، فيما هيَ متمرغة في وحل الحاجة ، بعدما أفاقتْ على حقيقة ، أن من هربت معه ما كان أكثر من مأفون ، متصعلك ، متفنن بإصطياد الفتيات وبيعهن من ثمّ لسوق الرذيلة . هكذا كبرَ الصغار بعيداً عن عينيّ الأمّ ، وكبرنا بدورنا لنراها في سنها تلك ، المتأخرة ، منصتة بلا مبالاة ، غالباً ، لشتائم رجلها هذا ، المختتمة بصحبته ، العسرة ، حياة حافلة . لا غروَ إذاً ، والحالة تلك ، أن يجدَ كلاهما سلوته بمنأى عن الآخر : " دلال " ، في تنقلها الدائب على مدار اليوم ، مقسمة نهاره وأمسيته على بعض بيوت الزقاق ، ممن ترحب بأنس حضورها . ورجلها " آيدين " ، من جهته ، يتسلى خلف بسطته ، البسيطة ، بصحبة العابرين أو المقيمين من أصحاب الحوانيت ، المجاورة ؛ تسلية ، ما يلبث أن يفتقدها في إستسلامه لوحدة ، كابية ، في رحابة داره الكبيرة ، وحيث لا أنيسَ له فيها سوى هرّه ، الأثير ، " رمّو " الهرم نوعاً .

4
ـ " سُوْ جيبوْ ، سو ! "
كنا نردد هذه الجملة ، غير المعروفة المصدر ، وبالتالي دونما معرفة معناها ؛ اللهمّ إلا أنها منذورة لإثارة كلب الزقاق ، " لوكيْ " ، الأكثرَ إيثاراً لدينا آنذاك . إنه كبير صبية آل " ملليْ " ، المماثل سناً عمرَ بكر أسرتنا ، من تعهد هذا الحيوان اللطيف ، الأملس الجلد والمبرقع نصاعته بوشي ٍ رماديّ ، فاتن ـ كفهد أفريقيّ . ربيبُ الأنس ذاك ، أُنيبَ به إشغال أوقات تواجدنا في الزقاق ، النادرة على كل حال ؛ بطرافة بهلوانياته وشيطناته : " إجلس ، لوكي ! " ، يأمره صاحبه بنبرة مفخمة ، مزهوّة ، فترى الكلب قد بادر من فوره للتكوّم بمكانه . " سو جيبو ، لوكي ، سو ! " ، يعود صاحبنا هذا إلى الهتاف قاذفاً بكسرة خشبية ، أو ما أشبه ، إلى الجهة الاخرى ، فيندفع الحيوان خلفها وليعود بها من ثمّ إلى مصدر الأمر . ولكنّ فرحتنا بالكلب " لوكي " ، قدّر لها أن تنقضيَ ، وعلى حين غرة . هررة الزقاق ، المؤهلة والمشردة على السواء ، أخذت بإخلاء المكان نهاراً لحضور السيّد الجديد ، هذا ؛ مخولة لأنفسها أسطح المنازل ، المتناكبة ، ميداناً لمناوراتها وألاعيبها وغزواتها . حتى حلت ظهيرة ذلك اليوم ، الصيفيّ ، المرتئي فيه " رمّو " الخروج إلى الزقاق لموافقة ألعابنا ؛ ثمة ، أين جمهرتنا متحلقة ، كمألوف العادة ، حول عدوّ جنس الهررة ، اللدود . ويبدو أنّ القط هذا ، المغامر ، كان أكثرَ ثقة بالنفس من أن يبالي بمعنى العداوة تلك ، الموسومة ، وخطرها المهلك . هناك ، إذاً ، عند عمود الكهرباء ، الخشبيّ ، المنتصب في منتصف الزقاق ـ كسارية علم ، فخور ، حوصرَ فخرُ منزل " آيدين " ، المبتئس ، من لدن " لوكي " ، المنقلب فجأة إلى شراسة فهدٍ ، جامح .

مخلوقاتُ الله جميعاً ، من أنسية وبهيمية ، كرِّه إليها أضدادها . في محض المشيئة هذه ، كان لا بدّ لكلاب الزقاق من تنكيد حضور الهررة ؛ بما أنّ كلا الجماعتين على صفة التشرّد ، نفسها . ولكن ، ماذا دهى " لوكي " ، الحسن المسلك والمظهر ، في منقلبه المفاجيء يومئذٍ إلى عدوانية ، غيرَ مُعللة ، في مواجهة مواطنه ، الأهليّ ، " رمّو " : دقائق من الترقب العصيب ، متطاولة ـ كالدهر ، فصلت بين الحيوانين ، اللدودين ؛ دقائق من النظرات النارية ، المتبادلة ؛ من الأصوات المتوعّدة ، المحتدمة ؛ ومن الحركات المناورة ، المتحفزة . بدورنا ، كنا نحن شهود المجابهة ، محتبسي الأنفاس ، ومن الذهول أننا بقينا أشبه بالمشلولين ، عاجزين تماماً عن التدخل لإنقاذ الهرّ الأغرّ ، الذي إعتدنا مخاطبته بنعت التحبب " حبّوش " ، إلمستعار من قاموس صاحبه . لم يطل الأمر ، على كل حال ، إلى أبعدَ من حركة " رمّو " الطائشة ، في الإلتفات نحو عمود الكهرباء ، المدعّم ظهره ، في محاولة يائسة لتسلقه ؛ فما لبث قرينُ الفهد أن إنقض عليه بقفزةٍ واحدة ، خاطفة ومهلكة . هُرعنا من فورنا ، وبكل ما في أقدامنا من طاقةٍ ، إلى " آيدين " ، في ملكوته المألوف خلف البسطة الخشبية ؛ في مكاننا الأليف ، تحت ظلال الأرجوحة . " ماتَ رمّووو ! " : قلناها معاً ، ودفعة واحدة ـ كرشقة بندقية . بلا نأمةٍ ، تحامل الرجلُ على عصاه وراح يجرّ قدمه المعطوبة ، خلف تلك الاخرى ، السليمة . ثمة ، أمام باب منزله الخشبيّ ، المقوّس والمصفح ، كان القط القتيل متكوماً على أعضائه المنفرطة ، المدمية ؛ هناك ، إنتصبَ " آيدين " بقامته المتهدمة ، المتهالكة ، مثبتاً عينيه ، الحمراوين أبداً ، بعينيّ " حبوشه " الحبيب ، المفتوحتين على الظلمة ، الأبدية . " دلال " ، أيضاً ، كانت هنا ، ترقب عن كثب رجلها ؛ هذا ، الما عتم أن حوّل بصره نحوها ، رامقاً إياها بنظرة لا يمكن لذاكرتي نسيانها قط : نظرة ، دخل تحت رقها ، ربما ، كلّ ما في الباطن من مرارة وأسى وتوحّد ويأس وحقد .

5
في غمرة معرفتي الأولى ، الساذجة ، عن مملكة الله ، العلوية ، وما يتصل بها من ملائكة وأبالسة ، كنتُ كثيراً ما أتساءل عن مصير حيواناتنا ، الأليفة ، وما لو سيقدّر لنا نعمة لقائها ثمة ؛ في الفردوس ، الموعود . ولكن أمّي ، في تعقيبها على مساءلة كهذه ، كانت ما تفتأ عن تذكيري بحقيقة ، أنّ من يؤذي مخلوقات الله تلك ، المستضعفة ، لن يرى الجنة ، أبداً . " إنّ " عبُوْ " ، في هذه الحالة ، سيكون مصيره النار ؟ " : أعود لمخاطبة الأمّ ، وفي ذهني ذلك الولد ، من جيراننا آل " حسو شكري " ، الممعن آنذاك في تعذيب الهررة ، المتشردة ، بوجه خاص . " إنه طفل مسكين ، بلا عقل ؛ وربنا لا يؤاخذ أمثاله " ، تعود والدتي لتذكيري بحقيقة اخرى ؛ هيَ غير العارفة بما تدبّره الأقدار لأبنها البكر ، الذي لن يلبث ، بعد مضيّ أقل من عقد ، أن يضحي بدوره " بلا عقل " . بما أنه لكل حارةٍ إبنها المعاق ، المغوليّ ، المُعرّف بمحكية لساننا الأم بـ " عبو " ، فلا غروَ إذاً أن يكون في زقاقنا ولدٌ مثل " شاكر " إبن " حسو شكري " ، منعوتاً من الكبار والصغار بلقب التشنيع هذا ، والمثير حفيظة أهله ، بطبيعة الحال ؛ بدلالة كونه ، غالباً ، مثارَ مشاداتهم مع الآخرين . من جهتي ، كنت وقتئذٍ مطمئناً لمصيري في العالم الآخر ، العلويّ ، وأن حشري يوم القيامة سيكون مع الصالحين . إذ تمنعتُ دوماً عن مجاراة لدّاتي ، الممعنين في أذية ذاكَ الولد ، المسكين ، بله حيوانات الله ، الأكثرَ إستكانة . ولكنني ، في إحدى المرات النادرة ، التي تستعيدها ذاكرتي ، إندفعتُ إلى صفع " شاكر " بقسوة ، جزاءَ تعذيبه لهرة صغيرة . حنفية السبيل ، التي أنشأها جدي لأمي ـ كهبة لأهل الحارة ، ما قدّر لها أن تعرف بإسمه ، " صالح " ، بل بإسم الجارة الأقرب لمسيلها ، " دلال " ، زوجة النهّاب ، الأشهر ؛ هذه ، التي بدورها ما كانت تقل شأناً في منهبة المياه السبيل ، الجارية ، والموصولة طوال النهار وبعضاً من آناء الليل بنربيش حديقتها : هنا ، تحت الحنفية ، المشهورة ببرودة مائها العذب ، المنعش ، وضِعَتْ تلك الهرة الصغيرة ، ولسويعات مديدة ، قبل أن يتهيأ لها يدٌ منقذة . ولكنّ يدَ المنية ، الظالمة ، كانت ثمة أمضى سرعة ً . وكنا قد وضعنا القطة ، المبتلة حتى العظم ، تحت شمس الظهيرة ، الحارقة ، بوهم أن ذلك سيجلب لها الدفء اللازم ، كما مساعدتها على التجفف ؛ هيَ المنتفضة بإرتعاشات أليمة ، متواصلة . وقد جفت المسكينة ، حقاً . بعيد قليل من الوقت ، لحظنا بقلق سكون حركتها ، التام ، وحينما إنتبهنا إلى فداحة خطلنا بوضعها تحت أشعة الهاجرة ، الماحقة ، كان الوقت قد فات .

ـ " إنه عَلويّ . أعرفه من شكل جمجمته ، المسطح ! "
هكذا كان خال أمي يردد على مسامعنا ، في كل مرة يظهر فيها مذيع التلفزيون ، المحليّ ، الأكثرَ حظوة وقتذاك . بدوره ، ما فتأ إختراع " أديسون " هذا ، العبقريّ ، يحظى بإحتفاء الأهلين كباراً وصغاراً ، بما هوَ عليه ـ كوسيلة التسلية ، الليلية ، الأثيرة في مفاضلة تسلياتهم ، المحدودة على كل حال . ما كان ليعني لي آنئذٍ شيئاً ، صفة المذيع ذاك ؛ اللهمّ إلا إحالة ذاكرتي ، الطفلة ، إلى الجار المستأجر وعائلته في إحدى حجرات بيت " العمّ صبحي " ،. كان الرجل ، المنحدر من ريف الساحل ، يؤوب في كل مرّة إلى مأواه ، محملاً بكيس أو أكثر ، من خيرات خدمته في الجيش ؛ كونه من مراتب صف الضباط ، المتطوعين . وذاكرتي ما زالت ، إلى اليوم ، تستعيد مشهد المساعد العسكريّ هذا ، حينما تعلق بركبه هرّ ، أهليّ ، منجذباً بمشام اللحم الطازج ، المنبعث من كيس المنهبة ، الدورية ؛ الهرّ المسكين ، الصغير نوعاً ، الما عتم أن طار لمسافة في الهواء ، معيّنة بحسب قوة ضربة البسطار العسكريّ ، الفظ . منذئذٍ وحتى إختفائه أبداً بعيد أسابيع قليلة من الحادثة ، دأب هذا القط على التجول في الزقاق ، شبه أعمى ، متحاملاَ أيضاً على قدم مهيّضة العظم . بيْدَ أنّ قريبي ذاك ، المشنع على مذيع التلفزيون ، الأكثر شعبية آنذاك ، بصفة مذهبه ، ما كان أقلّ جدارة ً بماضيه ، العسكريّ ، من الرجل الآخر ، المساعد ، المستأجر في كنف منزله . إنما يتوجّب عليّ بدءاً القول ، بأنني كنتُ أفخر دوماً أمام لداتي بخال أمي ؛ هذا المشهور في عائلتنا بلقب " ديغول " ، بما كان من مفخرة خدمته ـ كسائق لأحد جنرالات جيش الإنتداب الفرنسيّ ، في فترة الأربعينيات . هكذا ، كان عليّ أن أشهد على حادثة اخرى ، لا تقل شناعة ً عن سابقتها ، بطلها أيضاً أحد مخلوقات الله ، المستضعفة . كنا في منزل خال الأمّ إذاً ، في صحبة أبنائه الكثيري العدد ، حينما هتف أحدهم فجأة ً ، كمن أصيبَ بمسّ : " هارون .. هارووون ! " ، متبعاً ذلك بإشارة من يده نحو شجرة المشمش البلدي ، الوارفة . بكر الأسرة ، كان على ما يبدو دائم التذمّر من نقصان عديد الصيصان ، المتكفل تربيتها ثمة . وهكذا ، فقد تمّ تحديد " شخص " الجاني ، وبقيَ التذرع بالصبر للإيقاع به . " هُسْ س س .. ولا حركة أو كلمة ، بابا ! " : همس بنا " ديغول " ، فيما هوَ يعدّ تلقيم بندقيته ، ذات الفوهتين ؛ أو " الجفت بعينين " ، بحسب لفظنا الشائع . دقيقة اخرى ، من الصمت المطبق ؛ ثمّ دوى على الأثر صوتٌ مباغت ، هائل ومرعب ، وما لبث أن إنتشر في الجوّ المحيط بنا ، رائحة غريبة ، منفرة ؛ رائحة الدم واللحم والبارود . الهرّ الكبير ، الجسيم ، ها هنا ، تحت الشجرة المثمرة ، متناثر مزقاً بفعل الطلقة القاتلة ، الأشبه بقذيفة . لا بأسَ على صيصان الدار ، من بعد ، ولا خشية .

للحكاية بقية ..

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أشعارٌ أنتيكيّة
- زهْرُ الصَبّار 8 : مريدو المكان وتلميذه
- أبناء الناس
- الحارة الكردية والحالة العربية
- زهْرُ الصَبّار 7 : مجاورو المنزل وغلامه
- بابُ الحارَة ، الكرديّة
- فجر الشعر الكردي : بانوراما تاريخية
- أكراد وأرمن : نهاية الأتاتوركية ؟
- زهْرُ الصَبّار 6 : سليلو الخلاء وملاكه
- مظاهر نوبل وباطنية أدونيس
- جنس وأجناس 2 : تأصيل السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار 5 : قابيلُ الزقاق وعُطيله
- إنتقام القرَدة
- زهْرُ الصَبّار 4 : زمنٌ للأزقة
- شعب واحد
- زهْرُ الصبّار 3 : بدلاً عن بنت
- جنس وأجناس : تأسيس السينما المصرية
- هذا الشبل
- زهْرُ الصَبّار 2 : طفلٌ آخر للعائلة
- وداعاً ، إسكندريّة كافافيس / 3


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون