أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ميرَاثٌ مَلعون 4















المزيد.....

ميرَاثٌ مَلعون 4


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2179 - 2008 / 2 / 2 - 08:19
المحور: الادب والفن
    



بركانُ منزل آل " صورو " ، ما عتمَ أن ثارَ على حين فجأة . إنه صوتُ " مريم " ، المميّز ، الملتحم مع أصوات اخرى ، ذلك المتناهي إليّ في تلك الليلة المتأخرة ، الربيعية . كان شجاراً ، نسوياً ، مندغماً بتوسلات ذكوريّة ، مُهدئة . إندفعتُ إلى الشرفة ، لحظة تناهي الطرقات الملحاحة ، العصبيّة ، على باب بيتنا ، والمخلف صدىً عميقاً في الدهليز الموحش . تحت شرفتي كان الزقاقُ ، بدوره ، يتلوى في العتمة ـ كحنش ضرير ، يقظ . وأبعدَ فوق ، في سمائه الصافيَة ، رمقني نجمُ " الزهرة " بعين حسناء السّفح . ما لبثَ أن تناهى إلى موقفي صوتُ الأمّ ، الواهي ، يدعو قريبتنا الجميلة ، الثائرة ، إلى الداخل . بعيدَ ساعة اخرى من الأرق ، وحينما كنتُ في طريقي إلى البيت التحتاني لقضاء حاجة ما ، فإنّ هسيس المرأتيْن ، الخافت نوعاً ، كان ما فتأ يبوح بمناجاةٍ مريرة ، شاكيَة .

ها أنا ذا في مكاني المعتاد ، في الحجرة العلوية ، أرقبُ من خلل النافذة الموقف الصباحيّ ، الحَرج ، المتأثر مثيله الليليّ ، المُجتلب . ثمة في أرض الديار كانت ضيفتنا ، الطارئة ، مجتمعة بزوجها المُحاول صلحاً والمُلحّ عليها ، كما يبدو من حركاته ، على العودة لبيتهما . وبالرغم من فداحة الموقف ، فإنني ما وجدتُ حائلاً معيّنآ ، يمنعني من عقد مقارنةٍ بين الزوجين ، السعيدين . " مريم " ، المجبول جسدها من عجينة اللوز ، الناضج ، كانت مرتدية بنطالاً منزلياً ، قطنياً ، تتداخل حلكة سواده بالأحمر المُزهر ، المنصاح من ربيع كنزتها . فيما بدا " يوسف " ، في إنحنائة هامته المديدة ، القاتمة ، أشبه بـ " ساتير " ، أسطوريّ ، على وشك إلتهام ضحيّته . ساعة أو نحوها ، أمضتها الجميلة مطرقة ً صامتة ، منصتة للكلمات المنهمرة من عل . حتى إذا وضعَ الرجلُ يدَه على كتفها وبلطفٍ بيّن ، فإنّ المرأة الصغيرة ، رفعت رأسها ، أخيراً ، عن نظرةٍ غير طيّبة بحال . بيْدَ أنني ، بالمقابل ، غبطته حالماً ، محلقاً في سرّي ، المنتشي بالعينين الساحرتين .

أنفاس المنزل ، أضحَتْ من أريج ياسمين ، خالص . هذا الحضور ، الزاهرُ ، ما كان له إلا أن يبددَ كآبة حياتنا . وهيَ ذي " ماما دنيا " ، تدعونا إلى بيتها ، العامر ، بغية قضاء الوقت المُضجر في لعبة " كونكان " ، إعتادتْ دوماً على الفوز بها . هكذا وجدتُ يوماً الجسارة لديّ ، كيما أغري الجميلة بتكرار اللعبة فوق ، في عليّتي ، منتهزاً عندئذٍ فرصة َ قيلولة الأمّ ، المألوفة . خجلي قدّام قريبتنا هذه ، كادَ أن يكون صفحة من الماضي ، ما دمتُ أجدني الآن غير هيّابٍ من الإتكاء ، بوعي وبدونه ، على ركبتها القريبة ، في غمرة التلصص على أوراق اللعب ، المحتفيَة بأناملها الناصعة ، الرقيقة ، كما على تفاصيل جسدها ، المتفجرة من بنطالها الضيّق والواضحة ـ كتضاريس الجبل . لا غروَ ، إذاً ، أن تتفتح زهرة فتوتي في هذه الجنة ، العابرة ، المتنزلة من السماء الرحيمة وأن تمضي الأيام على مهل ، معيّدة ً ، غيرَ عابئة ً بالقفر المترامي بعيداً . وكان يوماً ، عدتُ فيه أبكر من المعتاد من عملي الجديد ، المؤقت ، في مكتب محام على قرابة بنا ، بما أنني أعدّ أوراقي للتسجيل في كلية الحقوق . وها أنا أتوجّه مباشرة ً إلى الحمّام ، للتزوّد بالماء الساخن ، الضروريّ لحلاقة ذقني ، فأدفع بابه الخشبيّ لأقف من ثمّ مذهولاً ، أخرسَ ، بمواجهة العريّ ، الصارخ ، للبدن الحبيب . كانت يمناها ما تني متسمّرة حتى قعر الإبط ، الحليبيّ ، المنسجم فضته ، الفاتكة ، بنصاعة الطاسة المرفوعة من لدنها . موقفنا هذا ، المتسمّر ثمة ، إستمرّ بعض ثانية ، فما أسرعَ هيَ أن تكوّمت على نفسها ، متدثرة بالزبد المرغيّ وإبريز شعرها ودواري الربيعيّ .

***
كما تولي الأعياد ، ببهجتها وطفولتها ، كذلك الأمر مع الأيام السعيدة . وإذاً ، آبتْ قريبتنا إلى بيتها ، بعدما وجدَ " يوسف " أنه لا مناص من مواجهة أمّه ، والتشديد عليها بعدم التدخل فيما لا يعنيها . " فاتيْ " ، ستضحي منذئذٍ وحتى وفاتها بعد شهر ، تقريباً ، أسيرة حجرة القهر ، مرددة على مسمع الإبن ، هذه المفردة : " ديّوث ! " . عثروا عليها ، ميتة ، في صباح صيفيّ ، رائق ، فأخرجوها من باب تلك الغرفة ، الموصد على مكائد أسيرة . رحلتْ عن دنيا ، ملعونة الزمن ـ كما إعتادت القول ؛ الزمن ، المُبيح فيه الإبن حرية المرأة ، تحدياً لإرادة الأمّ . من جهتها ، فأمّي وعلى الرغم من تطيّرها مما كان متداولاً عن العين الزرقاء ، المسحورة ، للعجوز المرحومة ، فإنها هُرعت للقيام بالواجب ، الأخير . وحينما عادتْ من بيت الحِداد ذاك ، كان التأثر متجلياً في قسماتها ، علاوة على إنزعاجها من التقولات المعتادة ، المتهمة هذه المرة " مريم " ورجلها بأنهما حبسا العجوز ومنعا عنها الطعام والشراب . كانت " زينيْ " ، صديقة المرحومة ، هيَ المتولية بث الأقاويل تلك ، بتنقلها الدائب عبرَ بيوت الزقاق : " يا حسرة ، ألم نجدها جلدة على عظم ؟ " . ولكن الحياة ستمرّ على كل حال بحكمتها ، الأزلية ، ولن يهتمّ حيٌّ ، قليلاً أو كثيراً ، لسيرة فناء متكررة . ها هوَ إبنُ المتقوّلة نفسها ، المعروف في الحارَة بنعت " قيْ " ، يتأبط ذراع زوجه في الطريق لمنزل آل " صورو " ، في زيارة عائلية معتادة . هذا الرجلُ ، ذو القامة البدينة ، المقتصَدة الطول ، كان لا يفترّ عن تذكير الخلق بوظيفته ، الحساسة ، مبرزاً مسدساً رسمياً من طرف مؤخرته ، العريضة ، ومصعّراً وجنته ـ كفلاح عسكريّ . ليس غريباً ، والحالة تلك ، أن يلازم الرجل ، غالباً ، دكانَ " كور تعزي " ، ما دام هذا الأخير مشنوعاً من الجيران بصفة " مخبر " .

مع أفول الأيام الأخيرة ، الحارّة ، لذلك الصيف ، ما أبهتُ بترك عملي عند المحامي ، ملقياً بخطوي على الأثر في دروب التسكع . تحت وطأة الضجر ، سرتُ في شوارع المدينة القديمة ، متأثراً خطىً موتى . ما أكثرها العيون الحسان ، الملتفتة لعينيّ ؛ أنا غير الآبه ، اللحظة على الأقل ، سوى بسيرة الأسلاف . ما إتصلتْ ، مرة ً ، أسوارُ الحاضرة بحدّ " صالحيّة الأكراد " . سأبقى ، إذاً ، هائماً وغريباً . ولن أبالي ، أيضاً ، بهذا الحارس ، الروميّ ، ذي القلنسوة الفولاذية ، المتوج أعلاها بوبر قان ، والخافر مع أنداده مجلس الشيوخ الموقر ، المشغول بمشروع ألوهيّة عاهلنا ، غيرَ الشرعيّ . ستتوّجه كذلك أطيافُ الأسلاف ، كما توّج ربّة َ السّفح ، جنوني ؛ ثمة ، أين برجها المتوحّد . العتمة تحلّ رويداً . الدروبُ قوافل بلا مشاعل . بمحاذاة الحديقة ، الكبرى ، وجدتني أستعيد أنفاساً هاربة ، مهوّمة عبرَ السور المعدنيّ ، الواطيء ، المظلل بأغصان الزيزفون . ثمة رائحة نفاذة ، يانسونية الهوى ، أوغلتْ في مماشي الحديقة جميعاً ، منبعثة على الأرجح من نوافذ " نادي المحاربين القدماء " . إهتديتُ إلى مقعد ، رطيب ، في آخر القوس شبه الدائريّ ، المُشكل ما يُشبه الفراندا ، والمحدق ببركة المياه الرحبة . كنتُ أتحسس خضرة مجلسي ، لما إعتادت عيناي الغلسة الكثيفة ، لتتفتحا من ثمّ على وسعهما ، بما كان من مرأى شبح ما ، آدميّ ، متكوّم في مقعدٍ قصيّ على الجهة الاخرى من الممشى . كان مطرقاً برأسه بعد ، فما عتمَ أن راح يطلق همهمة ، غريبة المفردات ، فيما بصره يتناهى إلى موقفي . شعرتُ بضيق مفاجيء ، غيرَ معلل . فما لبثتُ بدوري أن قدتُ قدميَ خارجاً ، نحوَ الباب الرئيس ، مروراً قرب مجلس الرجل هذا ، الغامض . وإذ تسنى لي ، عندئذٍ ، أن ألمحَ وجهه ، فقد بدا بعين فاغرة ، منطفئة ، أكثرَ شبهاً بسيكلوبٍ خرافيّ .

لما دلفتُ البيتَ ، الغارق في دياجيره ، تعالى حينئذٍ شدوَ الآذان ، الداعي لصلاة العشاء . توهمي رقاد الأمّ ، المبكر في الساعة تلك ، ضافرَه ما كان من شكواها مؤخراً من صداع معذب ، دوريّ . ترويحاً للوحشة ، أشعلتُ مصباح الشرفة ، ومطلاً من ثمّ على الزقاق العتم ، المقفر من صخب الطفولة . وبينا أنا مراوحاً خطوي ثمة ، إذا بهمس لإسمي ، يرتفع من الجهة المقابلة . وعلى الأثر ، إنزلقت " مريم " بخفة إلى باحة بيتها التحتاني ، ليبرز هيكلها عبرَ الباب . كانت ظاهرة التوتر ، فيما تشير لي بالنزول للإفضاء بأمر ما . ثمّ أخبرتُ منها بأنهم هناك ، في بيت أختي ، قد بعثوا في طلب الأمّ ، لأنّ " شيريْ " في المشفى ، على وشك الوضع . لاحت علامة ما ، ملغزة ، على الملامح الجميلة ، القلقة ؛ علامة تعاسة ، إستعدتُ مشهدها في اليوم التالي مباشرة ً .

***
دفنتْ " شيري " قرب جدث أبيها ، العقيد ، في البقعة المحتضنة مراقد آله والمتبعّل عشبها وزهرها تحت هاجرات لاهبة . كان " قادريكي " الكبير ثمة ، متحاملاً على مرضه العضال ، محلقة جهامته فوق رؤوسنا ـ كباز جريح . ولكنّ منظر الأمّ ، الفاجع ، كان منبع وجعي وعبرتي ؛ أنا المتبقي لها ، في الجهة الاخرى من هذا الخلاء ، الميّت . مساء اليوم ذاك ، الأسود ، وما أن فرغنا من التعازي ، المضجرة ، حتى غادرنا ، " نورو " وأنا ، إلى طاولة السكر ، بدعوة من " ناصر " . خلا العرق ، الحارق ، ما كان هناك مازة . وما لبثت الأناشيد ، النبويّة ، أن إنداحتْ بصوتٍ وَلهٍ ، صوفيّ ، مناشدة إلهاً شاءتْ إرادته إنتزاع روح ، شابّة ، بفعل خطأ طبيّ أو لعنة سلالية . الليل فوقنا ، أجنحة رخ ، ثكلى . ومنزل آل " صورو " ، بدا أكثر قفراً من حفرة مشغولة للتوّ . كنا ثلاثة أعماق ، سحِقة ، مغلفة بإصرار مكروب ـ كبرَكٍ آسنة ، خلفها شتاء راحل .

ـ " الموتُ كذبة كبرى . ثمة روح أزليّ ، حسب "
بلا فاتحة ، إستهلّ " ناصر " تهويمه ، الثمل . ثمّ تابع القول : " كلّ نفس حيّة روحٌ . وحتى هذه .. " ، وإمتدت يده نحو فراشة بائسة ، مهوّمة حول المصباح الشاحب ، فإلتقطتها بأنامل خفاش ، لتتركها من ثمّ تهوي في الفراغ بأجنحة كسيحة : " كلنا يعلم أنّ " شيخ قمْبُز " ، الوليّ ، معمّر كنبيّنا " نوح " . ويقول لكَ جاهلٌ ، أنّ الشيخ ، أخيراً ، لا بدّ ويرحل عن دنيانا . هاكَ ، أيّها القرد ، مثلاً ! لقد أخبرَ شيخنا من أحدهم بحادثة ، عجيبة ، وقعتْ له أثناء العسكريّة . كان المُخبر متوجهاً إلى قطعته ، الكائنة على أطراف البادية ، حينما كبحَ السائقُ من سرعة الحافلة وما عتمَ أن أوقفها على طرف الطريق : " هلمّ وساعِد الشيخ على الصعود " ، قال لمعاونه بلهجة حالمة . هذا الأخير ، المتابع الرحلة عبرَ ضوء السيارة الأماميّ ، ما كان قد لمحَ أحداً يلوّح للحافلة . وعلى كل حال ، فإنه إنصاع لأمر معلمه . دقيقة اخرى وعاد المعاون خاوي الوفاض ، بما أنه ليسَ ثمة شخصاً ليساعده ، فوجد السائقَ متهالكاً بلا حراك في مقعده . وإذ هزه من كتفه ، إنزلق هذا إلى جانب وعلى فمه إبتسامة رضى . كان ميتاً " . صمتَ محدثنا ، ثمّ راح على الأثر ينفث دخان لفافته ، السميكة ، المعترك تبغها ، الرخِص ، بكيْفٍ ثمين . أمّا عبرة الملحمة هذه ، القمبزية ، فما تأخرَ الرجلُ الحكيم عن إتحافنا بها : " وبالجملة ، أنّ السائق ، وحده ، من رأى ذلك الشيخ ذي الرداء الأبيض ! لماذا ؟ لأنّ رحمة الله شاءتْ النجاة للركاب ، ما دام أجلُ السائق قد حلّ بنوبة قلبية ، قاتلة " .

كهذا المطر ، الذي يغسل الدروبَ من أوشاب الشتاء ، الزمنُ ؛ يدرج بين طياته أحزاننا ، وقلوبنا غيرَ العارفة بعد ، أبوّة ً . وحشة المنزل ، بددها نوعاً حضور الطفولة . عند الوضع وقبل إسلامها الروح ، انجبتْ شقيقتي طفلة جميلة ـ كصورة عنها ؛ كأنما لتكون حضورها ، المفتقد ، في الحياة . وبهذه الصفة ، ربما ، أعطوها إسم أمها ، الراحلة . لم يعد مرآها وشقيقها ، الوحيد ، ليثير غير مشاعر حبورنا وبهجتنا . من بعد ، ليس مبرراً إغراق البراعم هذه ، الطرية ، بقطرات إستعبار ، مالحة ، لا تفعل أكثر من إتلاف نسغها وجذورها ، على السواء . حادثة عارضة ، على الأثر ، كادت أن تجرّ الحارَة ، مجدداً ، إلى درب الدّم . ويبدو أنّ صديقي " نورو " ، المستهتر ، كان يطيل من وقوفه على شرفة منزله ، المحاذية لسطح بيت " زيني " . حتى كانت إحدى المساءات الربيعية ، الحارّة ، التي بثت النخوة في أوصال " قيْ " ؛ ذكر الدار ، الوحيد . ثملَ حتى الفضيحة ، ثمّ خرج كي يزلزل بوابة منزل " قادريكي " ، شاتماً لاعناً آله ، أجمعين . من قبل ، ما جرأت زبانية قط ، على بلبلة هدوء كبيرنا . فأتى هذا الغرّ ، المسلح بوظيفته الخطيرة ، بحجة أنّ " نورو " يتحرش بزوجته . " ماما دنيا " ، المفتقدة رباطة جأشها على غير المألوف ، ما أسرع أن بعثت في طلبي . رأيتني بعدئذٍ مرابطاً على درجات البرج الجنوبيّ للملجأ ، المشرف على موقف الحافلات الكبيرة ، منتظراً صديقي . ما أن لمحته عن بعد ، وهو يترجل من السيارة إلا وأتقدّم منه ، كما على سبيل المصادفة ، مقترحاً عليه العودة للسوق لحضور فيلم سينمائيّ . خانتني ، أنا الآخر ، أعصابي . فإضطررتُ لإخباره بحقيقة الأمر ، بما أنه هجسَ بمكروه ما ، دهمَ أسرته . هكذا إندفع " نورو " مهرولاً صوبَ البيت ، بعدما كان قد تفقد وجود المطوى في جيب جينزه ، الأماميّ . حينما وصلنا الزقاق ، عرفنا أن المسألة حلت بودّ ؛ وبسلام ، نادر المثال . فيما تلى من أيام ، بات إبن " زيني " يتملق لكلينا ، رامياً على جلساتنا ظله ، الثقيل .

***
في وحدة الشرفة ، العتمة . في الهبوب العاصف ، أو الهدوء الكاذب ، المحملة بهما سنيكَ الخالية . لتتجاهلَ ما دأبتَ عليه من اللامبالاة ، المريرة ، فيما تطرحُ سؤالاتَ العمر المنقضي ، الموصد . ما من طيف بعد ، يهبكَ مفتاحَ جوابٍ . أنتَ الحائرُ بألغاز الكون ، كهوفاً وسراديبَ وأجنحة ً متناثرة في سرمده ، والمتعثرة بها رؤاك ؛ العاجز قدّام عنادٍ ، مكابر ، يموّه حقيقته ـ كرقّ ، سعيدٍ بعبوديته . لا حبّ في حياتكَ ، إذاً ، بل رغبة حسب . لا علاقة مع الآخر ، متبادلة بإلفةٍ وحميمية وشاعرية ، سوى في الفراش . لا بسبب غرور في الطبع ؛ إنما هيَ لعنة ٌ ، خالدة ، متنزلة من الفلك ، ما فتأ " برجُ العذراء " علامة ً لطالعكَ .

حينما صارَ " ناصر " داعية ً لمُستخلفٍ ، سريّ ، كنتُ أستعيد تأكيده ، المُشفع بمثاله الطريف ، الموسوم ؛ ألا وجودَ للموت في حياتنا . وهيَ ذي سراديب النفس ، الأكثر غوراً ، مؤمّنة ً بدورها على يقين ، متمكن ، أن لا مكان للطهارة على أرض الخطيئة ، الأولى ، المتفيئة صخورَ " مغارة الدّم " . والأمّ ، غير المتناهية إليها أفكار جيلنا الجديدة ، ما كان لها إلا التمترس في مسراب الأعماق ، واجدة فيها ربما حكمة أجدى . أتنبّه ، من جهتي ، لفتور علاقتها بربيبتها ، الفاتنة ، وجلساتهما المعتادة ، التي راحَ يشوبها الصمت المتطاول . محبطاً بقوّة ، جازَ لي ، أخيراً ، أن أعرفَ ما يُغضب والدتي . الحارَة ، المتضجرة أمسياتها ، أضحى لها ما يُشغلها من اقاويل . وسيارة " بويك " الأنيقة ، السوداء السمة ، كان عليها التهادي خلل الزقاق ، الضيّق ، بكل طمأنينة ، وهيَ في طريقها لمنزل آل " صورو " . وها هوَ إبن " زيني " ، متأنقاً ببدلة سبور ، ناصعة ، يغادر مركبته وفي يده كيس بلاستيكيّ ، موشوم بماركة أجنبيّة ، فيما اليد الاخرى ، المعطرة ، تحيل فتحة الأنف عن مشام القمامة الأهلية ، المتناثرة هنا وهناك . تنبعث إذاكَ طلقات نارية ، مألوفة ، من جهة ما من الحيّ . حزيناً ، يبدو لي الصدى المتخلف عن الإطلاقات تلك ، وكما لو أنها تحية شرفٍ لهذا الغندور ، الخطير .

فتحتهما ، إثر إغفاءة مديدة أو مبتسرة ، عينيّ . ربما كان ذلك بفعل زلزلة خطىً مقتربة ، ما عتمَ رعبي أن جسّم صاحبها بشخص العمّ الكبير ، المتناهي إلى موقفي على السطح . بلا نأمة ، رفعني كما لو كنتُ غلاماً غريراً ، ثمّ راحَ يتمتمُ جملته المعتادة ، الأليفة : " لا حول ولا قوة إلا بالله " . في غمرة رعدتي وقشعريرتي ، ما كان لي إلا إستطابة دفء يديه ، الجبارتين . هكذا ينتقل بي بعدئذٍ إلى الناحية الاخرى ، المقابلة ؛ أين البرج الجهم . متيقناً من إنحسار الظل ، العملاق ، أفتحُ عينيّ على وهج القمر ، اليقظ . ولا ألبث من ثمّ أن أتناهض نحوَ النافذة القريبة ، المضاءة بنور ورديّ ، خافت . أدلفُ ، مرتعشاً ما فتات ، إلى مجاهل الحجرة ، الحبيبة ، مسنوداً بقوة الأنفاس المتبقية ، كما والبرد المتغلغل في كياني . ثمة ، على السرير الوثير ، كانا راقدين بصورة متدابرة ـ كثور وغزال في برونزية ، أنتيكية . راعني أنّ وجهها الرائع ، المندس في الوسادة ، يبوح بإغفاءةٍ غيرَ محققة . أهمّ بالتراجع ، وإذا بيدٍ دافئة ، لهفى ، تطوّقني برغبةٍ يقظة ثمّ تردفني خلف الظهر ، العاري . مرعوباً ، توهمتُ تدابري ، المجنون ، مع رجلها . ولكن الجميلة ، الجريئة ، تواصل إلتحامها بي ، فتمسك كفي ضاغطة ً إياه على نهدٍ شبق ، عارم التوثب . وهوَذا همسها ، المنغوم ، يتسلل لسمعي : " نومُه عميقٌ ، فلا نخشينَ شيئاً ! " . فقرات ظهري ، الباردة ، ما تني منغرسة في ظهر الآخر ، الساخن . بلا جدوى ، أجاهدُ في الإنسحاب من تكويرتها الصلبة ، الخرافية ، المتشبثة بأناملي المنقبضة ، المرتعدة . وكان القمرُ حينئذٍ عينَ عملاق ، ساهرة ، متوهجة في أعماق عينيّ .

[email protected]



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذهبٌ لأبوابها
- ميرَاثٌ مَلعون 3
- ميرَاثٌ مَلعون 2
- ميرَاثٌ مَلعون *
- كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
- أختنا الباكستانية ، الجسورة
- جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
- زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
- زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
- الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
- زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء
- نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
- من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
- طيف تحت الرخام
- زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
- زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
- جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
- الحل النهائي للمسألة اللبنانية
- زهْرُ الصَبّار 9 : السّفح ، الأفاقون
- أشعارٌ أنتيكيّة


المزيد.....




- تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة ...
- الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد ...
- من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع ...
- أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
- السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
- هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش ...
- التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
- الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
- تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير ...
- سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - ميرَاثٌ مَلعون 4