مواقف من ذاكرة الطين والماء


كاظم فنجان الحمامي
الحوار المتمدن - العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 09:51
المحور: سيرة ذاتية     

من باب الإنصاف ضع قلبك في المكان الذي تحب. فما بالك لو كان المكان ضفاف هذا النهر الخالد ؟. .
في السنوات الأخيرة من عملي الطويل في سلك الإرشاد البحري، وبسبب عشقي وحبي لهذه المهنة التي أفنيت من اجلها زهرة شبابي، اخترت بنفسي الامساك بمقود السفينة، والعزف على إيقاعات دفتها أثناء انسيابها بين منعطفات شط العرب. وذلك قبل احالتي إلى التقاعد وانتقالي إلى بغداد. .
كنت اجلس على الكرسي المخصص لرجل الدومان، على يميني فنجان ساخن من القهوة، وفوق كتفي الأيمن تتدلى حاكية الهاتف اللاسلكي VHF المرتبطة بالسقف. على يساري شاشة رادارية ملونة، وبين يدي بوصلة رقمية شديدة الدقة، وناظور حديث بعيون زرقاء داكنة. كل شيء يبدو طبيعيا داخل برج القيادة باستثناء المرشد الذي صار جزءا من نبض السفينة المكلف بإرشادات. .
لا يمكن ان نسميها هواية، ولا يمكن ان نسبغ عليها صفة العمل من موقع ادنى، بل هي حالة نادرة من افرازات الشغف الروحي والتفاعل العقلي والقلبي بين محطات الماضي التي توشك ان تطفئ أنوارها وتختفي وبين ذاكرة الطين والماء. .
في سكون الليل واثناء التنقل بين مرفأ الواصلية وربوع الفداغية، وهي مسافة طويلة تكاد تكون مستقيمة لولا الانحراف التدرجي في قوس الممر الملاحي الملتف حول نفسه بجوار بساتين (چويبدة) المزدانة بأشجار النخيل والحناء. والتي ترتوي من مياه ترعة بهمنشير، كنت أجد نفسي منشغلا أثناء السير بقراءة ما تيسر من سور القرآن الكريم على ظهر القلب. .
كنت ارى في هذا السلوك المهني وداعاً جميلاً تمتزج فيه خلاصة العمر وعصارة العمل الدؤوب وتراكمات الخبرات المكتسبة والمترسبة على ضفاف هذا النهر الخالد. .
في عام 2017 قررت ان اكتب الصفحة الأخيرة على متن سفينة عملاقة من سفن الحاويات كانت قادمة من البحر في طريقها إلى ميناء أم قصر، وهي بطول 330 متراً، فاستأذنت من ربانها ومرشدها كي يمنحوني فرصة اخيرة للإمساك بالدفة وإرشاد السفينة إلى حوض الأرصفة العشرة. كانت اشبه بجبل يتحرك بخطوات مدروسة لترسم صورة رائعة من صور الانتقال إلى عصر جديد تتعامل فيه موانئنا مع اجيال متطورة من سفن الحاويات. .
كلمة اخيرة: تواضع فإنك لن تخرق الأرض، ولن تبلغ الجبالَ طولاً. .