حمير اليوم لا تشبه حمير الأمس


كاظم فنجان الحمامي
الحوار المتمدن - العدد: 8450 - 2025 / 8 / 30 - 11:19
المحور: كتابات ساخرة     

قرر ابي في خمسينات القرن الماضي ان يبني لنا بيتا في محلة الفيصلية بالبصرة (حاليا اسمها: الجمهورية). وكانت مواد البناء تُباع في مكان قريب من ملعب كرة القدم قبل الشروع ببناءه. .
اذكر ايضاً ان صاحب علوة المواد (الحاج كامل) كان مميزا بما يقدمه من تسهيلات لأصحاب البيوت الجديدة (قيد الإنشاء)، فيكلف احد الحمير التابعة له بخدمتنا والقيام برحلات مكوكية ذهابا وإيابا لنقل الطابوق و (الفرشي) والاسمنت والرمل والجص، كان يبيع الطابوق على العدد، بينما كان يبيع الرمل والجص والأسمنت بوحدة قياس قديمة تسمى: دغار (تُكتب أحياناً: طغار، وتلفظ شعبيا تغار). يبدو انها انقرضت ولم يعد لها وجود بين وحدات قياس الأوزان. .
اذكر ايضاً ان الحمار المكلف بخدمتنا اسمه: (ابو زنيهر). كان ودوداً وديعاً هادئاً. لا يرفس ولا يزگط ولا يعنفص ولا ينهق. يحمل في دماغه خرائط مفصلة ومتكاملة لتضاريس المنطقة بكل أزقتها وتفرعاتها ومواقعها، ويحفظ احداثياتها بخطوط الطول والعرض. .
فوجئت في يوم من الايام عندما طلب مني ابي الذهاب مع الحمار لجلب الطابوق من العلوة. شعرت بالخوف، قلت له: ولكن يا ابي أنا صغير (تسع سنوات) لا اعرف الطريق، ولا أتقن السيطرة على الحمار. فقال لي بنبرة حازمة، اركب فوق ظهره الآن، وسوف يتكفل الحمار بالمهمة كاملة. ثم أردف قائلا: اركب ولا تخف. . صير رجال. . لا تصير زعطوط. .
فركبت وأمري إلى الله. شعر الحمار بخوفي وادرك حيرتي، فأخذ يتحرك بخطوات ثابتة متعقلة، كان هو الدليل وهو الناقل الأمين. اما انا فوجدت في الرحلة متعة كبيرة في الذهاب والإياب. .
اشعر انه كان يمتلك منظومة GPS من صنف متقدم، وربما كانت لديه اتصالاته الفضائية بالاقمار الاصطناعية. والدليل على ذلك انه كان يطيل التفكير لساعات وساعات، فكنت أكافئه بالماء والخبز اليابس وأجمع له بعض الحشيش. .
لكن اللافت للنظر ان حمير هذه الايام لا تفهم شيئا، وليست لديها دراية بخرائط الطريق، على الرغم من انها تنحدر من نفس السلالات القديمة، ولها علاقات جينية متينة بقبائل الخيول والجحوش والبغال. .
اما الاستحمار فهو طلسمة الذهن وإلهائه عن الدراية الانسانية والدراية الاجتماعية، و أشغاله بجدليات الحق و الباطل, والمقدس و غير المقدس. .