النرجسيّة السرطانيّة - أسباب طلاقي 2-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 7858 - 2024 / 1 / 16 - 00:47
المحور: الادب والفن     

لا شيء يقتل الإنسان كالذكريات، الحنين للحظات مرتْ دون أن يدرك قيمتها، و لأشخاص مرت عليهم عجلة الزمن، فصنعت منهم آخرين.
لا شيء يحيي الإنسان كالذكريات، ذكريات النهوض بعد السقوط، الاستمرار رغم الخيبات، وناس غيروا حيواتنا ودائماً وضعونا فوق مستوى الشبهات…
في الطب النفسي، تصنع الذكريات أسساً لا تمحى للشخصية، وتعد اضطرابات الشخصية غير قابلة للعلاج، ما لم يرجع المعالج النفسي إلى الذكرى التي صنعت الخلّة و العرض النفسي الذي يراه.
********


اقترب موعد قدوم صديقاتي إليّ، ايطاليا بلد بعيد وجميل، لبنان - ومع أنني أسكنه- أجمل، لكنه أبعد…
يبتعد البلد عنك، كلما زادت معاناتك، يلبس الوطن ثياب الغربة، والغربة دوماً ترتدي الصوف...

منذ اُرغمتُ على الرضوخ والمسايرة، أصبح الصوف واجباً.. عيشتي مع عبد المنتقم و أربعة أطفال في ظل الظروف الاقتصادية السائدة في لبنان تلّ خراب، و تحويره لحياتي خراب آخر…

المهم: دخلت صديقات طفولتي البيت بصخبهن المعتاد.. و افتتحت ميريت الحديث حول وضع الدول العربية.. ، ميريت من الناس المباشرين، تتكلم فيما تفكر به، ولا تصفيه ليحصل على رضى أي من السامعين، كان والدها معارضاً سياسياً، أمضى في سجون الأنظمة العربية من السنوات ما جعله يفعل المستحيل ليخرج أولاده من تلك الحدود.

في حوارها الأول مع عبد المنتقم، ناقشته كما لو أنها تناقشني، المسكينة لم تعرف أنني وعبد المنتقم لا نتناقش ولا نتحاور، في جميع المواضيع، هو يفصّل وأنا ألبس!

بعد ذهابها للنوم، قال لي عبد المنتقم:
- هذه “ فلتانة” لا تعرف غن الإسلام شيئاً، و هي عميلة تريد سلاماً في المنطقة.
-
بكيت وأنا أخبر ميريت أن تحترس في كلامها معه:
-لا تفتحي هذه المواضيع معه.. فهمك بشكل خاطئ.
-فهمني كما أراد، ولن أتغير من أجل أي كان، لماذا كان يمد لي الأسئلة بدهاء، ليحصل على أجوبة مفترضة؟ لمذا لم يخبرنا أو حتى يلمح لنا أنه تضايق من الحديث؟
-قصدك زوجي منافق ومدعيّ؟
-لا تضعي على لساني ما لم أنطق به، أنا قلت كان يجب أن يخبرني، لكل جملة في هذي الأرض معانٍ مختلفة، وجزء من شرح المعنى يخضع لمشاعر المتلقي، المتلقي المحب يسمع الجوانب الإيجابية من أي حديث، بينما تقنص الكراهية طيور الأمل في أي حديث، لا تهتمي، سأحل الموضوع.

رأيت ميريت كالزهرة البرية التي لا تشبه أحداً، وأرى نفسي ذابلة في ظلّ بيت قديم ومهجور اسمه منتقم، قررت أن أخبره:
-لماذا لم تقل لصديقاتي البارحة أن يصمتن؟ لماذا ميريت هي بالذات من أهانك؟ ولم استمريت في معاملتها بطريقة جيدة وسحبت الكلام منها رغم انزعاجك؟
-هذه نرجسية، لم تقبل رأياً آخر…
-لا هي لم تعرف حتى أنك انزعجت، فأنت لم تبين لها ذلك أبداً، أنا أخبرتها.
-تقصدين أنا منافق، سترين اليوم…

في مشوارنا ذلك اليوم، قلب منتقم وجهه، واضعاً عقدة الذكر العربي عليه، لاحظ الجميع ذلك، لكنه استمر في إعطاء ميريت معي درساً لا ينسى:
-إن تجرأ أحدهم وعارضني أو داس على طرف ثوب أنايّ، سأريه من (Emotional dysregulation) الاضطراب العاطفي ما يضمن سمّ يومه.

مافعله منتقم في ذلك اليوم، جعلني أرى بدقة سبب الاضرابات العاطفية عند أطفالي، رأيت عندهم قسم الناس والمواقف إلى ألوان الأبيض و الأسود.. ما يسمى في الطب النفسي (Splitting) القسْم.

في اليوم التالي استلم ريما، صديقتي المرحة، العفوية، ليخبرني أنها انفعالية وقليلة أدب…
في اليوم الثالث، كانت حصة سمايا لتصبح “ القوية، العنيدة، المغرورة”…

أصبحت المشاوير مع صديقاتي، لعنات علينا، ما يخترنه يصفه منتقم بالفاشل، مكاناً، توقيتاً، انتظاراً، طعاماً، رقصاً.. وما يختاره هو “ الأجدى والأثمن”.
وبعد أيام أصبح يأخذني مع الأطفال في جولاته “الممتازة” .. في محاولاته غير المباشرة للإيقاع بيني وبين صديقات أعرفهن من أكثر من ثلاثين سنة…

رحلتْ صديقاتي، مع كم من السم يكفيني لعام كامل، وفوق كل هذا حوّل منتقم كل مواقفهن ضده، إلى مواقف ضدي.
في ذلك الوقت ولشدة امتلائي و تعبئتي صدقته.. لكن اليوم وبعد مرور سنوات على ما حدث، أرى ما حدث من الجانب الآخر للحقيقة.
ربما حكيت هذه القصة كسبب لطلاقي، لكن في تفاصيلها تفاصيل حياتي معه.
********

لا شيء يقتل الإنسان كالذكريات، الحنين للحظات مرتْ دون أن يدرك قيمتها، و لأشخاص مرت عليهم عجلة الزمن، فصنعت منهم آخرين، مثلي أنا…

لقد خسرتُ ميريت. علاقتي مع ريما ليست كالسابق، و سمايا انفجرت في وجهي حاملة كلما ملأني به ضدها…

يشاع خاطئًا أن النرجسي هو الواثق من نفسه، لكن لا، النرجسي حساس جداً، أبعد ما يكون عن الثقة بالنفس، “ أناه مهزوزة” لا تقبل أي حوار لم يربح فيه، أي رأي لم يصفق له.
وإذا ما اجتمع اضطراب الشخصية النرجسية مع اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية، ستكون النرجسية الخبيثة، وهي كالسرطان، تنتشر في جسد كل العلاقات حولها، مهما كان عمر العلاقة…

من أهم دفاعات الأنا عند هذه الشخصية هو الإسقاط: أي تحويل مشاعر الشخص السلبية إلى الشخص المقابل، كما فعل منتقم عندما حوّل رأيه عن ميريت إلى كلام وضعه على لسانها، وحول حبه للسيطرة إليها.

بعد طلاقي: أستطيع أن أقول وبثقة:
لا شيء يحيي الإنسان كالذكريات، ذكريات النهوض بعد السقوط، الاستمرار رغم الخيبات، وناس غيروا حيواتنا ودائماً وضعونا فوق مستوى الشبهات، بيننا وبينهم عقود من الأحزان قبل الأفراح، وحتى إن غادروا، لا يرحلون.

يتبع…