فضائح طب نفسي صغيرة - دليل تشخيصي بروكرستي 1-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 7674 - 2023 / 7 / 16 - 22:49
المحور: الادب والفن     

في الأسطورة اليونانية دعا الحداد الشرير داماستس المعروف أيضاً باسم بروكرست المسافرين إلى بيته للنوم، ثم وضعهم في سريره الحديدي، فإن كانوا أطول أو أقصر من حجم السرير، قام بروكرست بجعلهم يناسبون حجم السرير،

كيف؟

ببساطة.. عن طريق شد أو قطع أطرافهم..

من استغرب منكم المعادلة لم يعمل بعد في دولة شرقية ولا حتى غربية…

فكلنا في زمان ومكان ما، تم قص أطراف أحلامنا من قبل الأنظمة السياسية، أو الاجتماعية، الدينية وحتى العلمية!

مرحباً بكم يا أحبتي في زمن العار، زمن الفضائح الصغيرة، التي جعلت من بروكرستس وأمثاله نعمة تزاول إيجابياتها بندرتها، فيما تقص أطراف الأحلام على مرأى و مسمع من الجميع، لا بل وفي كثير من الحالات عبر احتفالات زواج، تنصيب، دمغ بمعتقد، هز مؤخرات، أو حتى ترقيات علمية غير مستحقة…

من يتكلم عن العالم الثالث، ليصمت قليلاً ويستمع: الكرة الأرضية أحبت الاسم فطابقته من شرقها لغربها…
أما العالم الثالث الذي سرقوا اسمه، فحزن كثيراً وتحول إلى زمان افتراضي.. لا مكان هناك.. المكان اُستبيح واُستعمر من قبل أمثال بروكرست، وأطراف الأحلام أصبحت لعنة لن تحلّ إلا بالغوص فيها.
************


في العشرة سنوات الماضية بدأت بالاهتمام بالحركة المضادة للطب النفسي، زيارة متاحفهم وحضور مناظراتهم، كنت ومازلت على يقين بأن المعارضة في كل شيء تخلق منه شيئاً أفضل…
وأن الطب النفسي كالوطن، لا يستقر ولا يتطور -حقاً- من دون معارضة شريفة تراقب من يدعون الألوهية ويحتلون الكراسي…

هكذا بدأت رحلتي في إعمال العقل في كل دواء نفسي والعودة حتى إلى تاريخ صناعته.. وهكذا زادت ثقتي بأن نفي الأسباب العضوية للأمراض النفسية والتشخيص التفريقي السليم في الطب النفسي الخطوة الأولى والأهم على الإطلاق في غالبية الحالات.
فيما تحاول شركات أدوية كثيرة وشركات تأمين أكثر أن تحوّل الاهتمام من التشخيص التفريقي والأمراض العضوية إلى تشخيص (ستاندرد) وعلاج دوائي فقط.


الفضيحة الأولى:
كتبت السيدة نون من سوريا إلى موقع الطب النفسي التشخيصي، حكاية طويلة عن قلقها، حكت لي عن أخوة أعداء حرموها من الميراث، ثم رفضوها عندما بدأت بكتابة كتاب عن قصة حياتها… أرادت تشخيصاً، لكنني لم أقل لها ذلك، قلت لها:

-راجعي طبيباً نفسياً، واكتبي قصة حياتك…

لا يصح لأي طبيب نفسي أن يشخص مرضاً نفسياً من دون أن يجلس مع المريض ساعة على الأقل ويراجع وظائف جسمه بكلها، التاريخ المرضي يجب أن يراجع، الأدوية التحاليل المخبرية والصور الشعاعية في بعض الحالات أيضاً.. النفس والجسد كيانان لا ينفصلان.

أرسلت لي السيدة نون بعد فترة رسالة تخبرني أن أحد “ الأشخاص المؤثرين” في الفضاء الافتراضي شخص مرضها النفسي وقال لها عن اسم دواء نفسي العلاج.. قالت لي:
“ دكتور، قال لي أنني مصابة بالقلق المعمم.. لم يطلب أي شيء ولم يرسلني لعيادة أي طبيب، الدواء الذي وصفه يملأ إعلانات الفضاء الافتراضي”…

فكتبت:
-راجعي طبيباً عاماً إن لم يتوفر الطبيب النفسي.. واكتبي قصة حياتك، احكِ فتكميمهم -بكلهم- لفمك فضيحة.
************


العديد من إعلانات الأدوية النفسية لا تقدم الأمراض العضوية كسبب من أسباب المرض النفسي.. تدعيّ بعض الشخصيات النرجسية أننا وبكوننا أطباء نفسيين نمتلك ختبارات نهائية للأمراض.. هذه فضيحة! هذا غير صحيح.

النظام الطبي السائد حالياً يسعى عن قصد أو بسبب زحمة ساعات العمل إلى تحويل الأجيال الطبية الجديدة من إتقان فن التشخيص التفريقي و نفي الأسباب العضوية إلى التركيز على الأدوية وزيادة الجرعات…

ليس من الدراماتيكي وصف “سرير” الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية كمعيار يقص حيوات ملايين البشر بشكل إلزامي لصناعة تشخيص (ستاندرد)…

تنتهي حالات عديدة بسوء الإنذار بسبب تسرع الطبيب النفسي في التشخيص، مما يغلق الباب في وجه العقول الطبية الأخرى للتفكير في حالة المريض بشكل مختلف واعتبار كل مريض عالمًا خاصًا ، ليس قطع "أطرافه" في طريقة بروكرست Procrustes لتلائم "المزاج" المستمر المتغير لكتاب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM.

لمن لا يعرف: يتم قمع المعارضة العربية يومياً وبلا هوادة.. هذا من أهم أسباب تخلف الدول العربية.
يجب أن تعمل المعارضات العربية يداً بيد مع الأنظمة.. هذا الحل الوحيد لمشكلة الشرق الأوسط الشهيرة…

وبالمثل، يجب على الأطباء النفسيين أن يعملو جنباً إلى جنب مع المنظمات المناهضة لتاريخ الطب النفسي، وأن يقوموا بدعوة العقول فيها إلى مؤتمراتهم وسماع أصوات الاحتجاج بكلها، هكذا تكون مصلحة المريض هي العليا، وهكذا نضمن وضع شركات التأمين وشركات الأدوية تحت المجهر العلمي والأخلاقي وتحت سلطة عقول متباينة الآراء وغير ربحية، هكذا نحاول قدر الإمكان تقليص مفهوم (الستاندرد) و التشخيص الواحد الذي يصلح للجميع.


يتبع…