ضرورة التفاهة -الطب النفسي التجميلي 6-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 7973 - 2024 / 5 / 10 - 22:47
المحور: الادب والفن     

الحكايات كثيرة عن العقل، أهمية العقل، قدرة اللاوعي على قلب الحقائق وعكس الأحداث، وفيما تنتشر التفاهة حول العالم انتشار النار في الهشيم، تكاد تنعدم المقالات عن ضرورتها.. أجل ضرورة التفاهة.
سأقص لكم بعض حكاياتها، فترون أحبتي ضرورتها.


************


الحكاية الأولى:

حدثني عدنان عن أهمية الجنان وقدرة الإنسان على الوصول إليها من دون عمل “ العبادة لوحدها تكفي”..
أجبته: العمل خير أنواع العبادة..
-كنت أعرف أنك كافرة…
-وتكفرني أيضاً، أين الإيمان في هذا؟
-في ديني من ليس مثلي كافر.
-أنتَ قلتها، هو دينك.. دينك لوحدك، ليس له اسم آخر.

من أكثر الجمل التي نسمعها كمغتربين: “ لماذا يريدون الجميع مثلهم” ، “لماذا حضروا هنا إن كانت حياتنا لا تعجبهم” ، “ يتمسكنون حتى يتمكنون، وعندها يبدؤون في محاولة تغيير مجتماعاتنا، غيروا في بلدانكم”.
وفي زمن التيك توك، تنتشر محاولات "التغيير" انتشار النار في الهشيم.

تلك الفيديوهات البسيطة التي تنتشر لرقص والدي عروس عربية ما مع بعضهم، أو لمحبة أم عربية لأطفالها، لطباخ عربي وسيم يبدع في صنع الطعام، أو لترتيب المطبخ و تنسيق الملابس.. كل هذه لم تعد تفاهة، بل ضرورة حتمية في زمن حوّل الإعلام الغربي -بمساعدة أهل الدار- الدارَ إلى جهنم.

ما الذي يعنيك من دين هذا أو تلك؟ ما الذي تريده من الناس غير المعاملة الجيدة والعمل الجاد الصادق لنفع من حولهم؟
لماذا تصمم على إقحام نفسك في خصوصيات الآخرين؟ كيف تستطيع أن تبرر لشخصك إدّعاء دور الله و حساب الناس؟
في محاضرتي الأخيرة في مؤتمر الجمعية الأمريكية للطب النفسي طرحتُ مفهوم القلق الوجودي وكيف يجب تفريقه عن الاكتئاب الكبير والقلق المعمم.. ثار النقاش بعدها بين المتدينين وغيرهم حول الحاجة للديانات في الحياة.

إن النقاشات دوماً صحية و غالباً فعالة في إثراء العقل والخبرات..
إن الدين الحق هو المعاملة وهو الحب، كل الأديان في جوهرها وجِدَتْ لذلك.. من لا يؤمن بهذا لم يعرف القلق الوجودي.
************

الحكاية الثانية:

-طبعاً شاهدتُ ذلك المسلسل…
-تافه جداً، كيف قدرتِ على ذلك؟ أنا لا أشاهد إلا الأخبار والبرامج الوثائقية.
-كل منا يبحث عمّا ينقصه.

نحن موجودون في هذه الحياة لتحقيق رسالة ما، قد تكون مرورنا في شارع في لحظة عابرة وإيقاف حدث ما سيغيّر حيوات كثيرة.. نحن موجودون لنضيف إلى هذه الحياة لا أن نأخذ منها، اقتلاع شتلات من الواقع غير ممكن، الزراعة دوماً ممكنة.
هذه الرسالة تكبر أو تصغر بحسب قدرتنا على العمل، فإن زرعنا كثيراً صار في أرضنا من الخيرات ما حتماً سيعود علينا وعلى من بقي إلى جانبنا عندما احتجناه.
ومن يعقدّون الأمور، بجعل الأعمال الكبيرة فقط هي من يستحق الثناء خائبون..
لا تستمر الحياة دون شخص قربك يضحك ويهوّن عليك كل ما يحدث.. إن لم تجد هذا الشخص، فالاكتئاب صديقك…
لن تنهض بعد الفشل إن لم تعرف قراءة الفن والأدب من أتفهه إلى أعمقه.. الفن الذي يسمى هابطاً يضيء طرقك إلى الفن الحقيقي.

في تجربة مماثلة للمسلسل الأمريكي الشهير friends ، قاموا بإنشاء مبنى كامل في نيويورك، يحوي على غرف مماثلة للشقق السكنية التي سكنها الأصدقاء ومقهى نسخة طبق الأصل عن مقهاهم المفضّل.
هكذا تستطيع أن تزوره كما تزور المتحف -لا أن تسكن فيه-، تستطيع شرب القهوة أيضاً.
تخيلوا مقهى باسم " العيال كبرت" و فيه أثاثها، تفاصيلها بكلها -لوحة عاطف، الكنب، التلفون- مع تليفزيونات تبث المسرحية..
أو مكاناً للقراءة و شرب الشاي باسم "الفصول الأربعة" المسلسل السوري الذي ندر مثيله.. مع تفاصيل من شخصياته وطاولات بأسمائهم…
الفن بأي مستوياته يخلق حالة من عودة للذكريات، تذكرك بأن رسالتك لم تنتهِ بعد.
الخوف الوحيد من التجار.. تجار الأفكار والأحلام.
************

الحكاية الثالثة:

-الكتابة ليست عملاً، هو طبيب قولي له أن يعود لعمله.
-كم طبيب يوجد حولك؟ وما نسبة الأدباء المبدعين؟ عودته إلى الطب جريمة في حق موهبته. أنا أؤمن بها.

ما يجعل الناس بؤساء حقاً هو محاولاتهم الحثيثة للحاق بأحلام غيرهم، عدم تقديرهم لمواهبهم، وعدم وجود من يؤمن بهم.
شخص واحد يؤمن بأحلامك إيماناً مطلقاً.. كافٍ جداً لاستمرار هذه الحياة، وإن لم تجده فآمن بنفسك، برسالتك، بموهبتك، وابتعد عن كلام الناس.. هم يعيشون في فقاعة نجاح وهمي، في الحقيقة أنت الناجح الحقيقي.


يتبع…