الثقافة أولاً و أخيراً


طارق حجي
الحوار المتمدن - العدد: 7708 - 2023 / 8 / 19 - 22:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أميلُ للإعتقادِ بأن الدولةَ والحكوماتِ المصرية وعبر العقود السبعةِ الأخيرةِ لم تؤمن بما أؤمن أنا به وفحواه أن وزارة الثقافة (مع وزارات التعليم) هى أهمُ إدارات ومؤسسات الدولة المنوط بها إيجاد مواطنين أسوياء وفاعلين. بل أؤمنُ بأن كثيرين (من المسؤولين خلال ذات الفترة) كانوا أقرب للشعورِ بأن وزارةَ الثقافةِ هى "همٌ غير مجدي" ورثوه ويصعب عليهم التخلص منه ! وعلى النقيضِ توجد قلةٌ (منهم كاتب هذه السطور) يؤمنون إيماناً راسخاً بأن وزارةَ الثقافةِ يمكن ان تصبح ذات قيمة إستراتيجية وسياسية ومجتمعية تماثل قيمة أهم الوزاراتِ والمؤسساتِ السياديةِ. بل أُكررُ دائماً أنه بينما يمكن لمؤسساتِ الدولة العميقة أن تحمي المجتمع من الجماعاتِ (والأفراد) التى/اللذين على شاكلةِ الإخوان ، فإن حمايةَ المجتمعِ من الحزمةِ الفكريةِ لهولاء لا يمكن أن تتحقق بدون رؤيةٍ وسياساتٍ وبرامجٍ ثقافيةٍ تشرف على تطبيقها وزارة الثقافة. ومعنى هذا أن هناك فارق كبير بين الإخوان وأمثالهم وبين فكر الإخوان ، وأن تقزيم قدرة الإخوان لا تعني القضاء على خطر أفكارهم ومشروعاتهم السياسية والفكرية والمجتمعية.

وذات يوم قلتُ : إن عدد القصور الثقافية ومراكز الشباب فى مِصْرَ قريب جداً من عدد القرى المصرية (أكثر قليلاً من أربعة آلاف). ومنذ سنوات ، فإن الدور الإستراتيجي الذى تلعبه هذه القصور والمراكز شديد التواضع. بينما يمكن تحويلها لمراكز تأثير قوية تستأصل مخاطر ما يقوم به الإخوان من إستقطاب فكّري لملايين المصريين. وقد تحدثت وكتبت كثيراً عن كيفية تفعيل دور القصور الثقافية ومراكز الشباب وتحويلها لمنابرٍ تبث فكراً وثقافةً عصرية وتقلل من تأثير الإخوان.

وأضيف : أنه بجانب الحاجة لرؤية جديدة لمهام وزارة الثقافة ولإستراجيات وبرامج تحول هذه الرؤية لواقعٍ ، فإن توفير ميزانية مختلفة لوزارة الثقافة ستكون ضرورة حتمية. ومعلوم ان معظم ميزانية وزارة الثقافة خلال العقود الأخيرة كانت تغطي مرتبات موظفي الوزارة وقليل من الأنشطة.

وكل ما سبق يستلزم وجود إيمانٍ بأن مستوى الحجم والنفوذ والتأثير الكبير للإخوان والذى تصاعد خلال العقود الأربعة التى سبقت 3 يوليو 2013 هو ظاهرة ثقافية بقدر ما هو ظاهرة سياسية. فالمناخ التعليمي والثقافي المتواضعين خلال تلك العقود الأربعة ساهم بقوة فى تمكين الإخوان من التغلغل فى العقل الجمعي المصري.

وكاتب هذه السطور يعلم جيداً أن الواقع السياسي المصري قد رسَّخَ خلال العقود السبعة الأخيرة نظرةً للثقافة تجعلها أقرب للترف ! وهذا خطأ كاملٌ وشاملٌ. والدليل على صحةِ رؤيتي أن الثقافة أول أولويات تقدم أيّ شعبٍ أنه فى كل الحضارات من الإغريقية للأوروبية فإن الفورة الثقافية سبقت كل الفورات المادية والعلمية والإقتصادية. فالمفكرون والأدباء فى بلاد اليونان القديمة وكذلك فى عصر النهضة (الأوروبية) سبقوا رواد العلم والإقتصاد.

ولا يغيبُ عني أن كثيرين سيرون فى المنطقِ الذى قدمتُه فى هذا المقالِ المقتضبِ شكلاً من "المثاليةِ الثقافيةِ" - وهو ما سيكون وصفاً بعيداً كل البعدِ عن الحقيقةِ. فكاتبُ هذه السطور إنسانٌ ينتمي للواقعِ بنفسِ درجةِ إنتماءِه للثقافةِ ، ولا أدل على ذلك من مسيرةِ حياتِه التى توازى خلالها البعدُ الواقعي مع البعدِ الثقافي عندما كان رئيساً لمؤسسةٍ إقتصاديةٍ عالميةٍ وكان فى نفسِ الوقتِ معنياً للنخاعِ ككاتبٍ ومؤلفٍ ومتحدثٍ بالشأنِ الثقافي.