الخير : هدف الإنسانية الأول


طارق حجي
الحوار المتمدن - العدد: 7691 - 2023 / 8 / 2 - 14:36
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

من الغرائب ، إختلاف مدلول أو مدلولات تعبير "الخير و الشر" عن مدلولِ أو مدلولاتِ تعبيرِ "الحلال والحرام". وكان المنطقُ يحتم تطابقهما. ولكن البونَ الشاسع بينهما اليوم يؤكد لنا "تاريخية" و "بشرية" و "ذكورية" العقلِ الذى أفرز مفاهيم "الحلال والحرام" ، بينما تحلت مفاهيم "الخير والشر" ببعدٍ إنساني لحدٍ بعيدٍ.


وأنا أدعو قاريء هذا المقال لإستعراض قوائم ما هو معدود فى مجتمعات منطقتنا من "الحرام" وسيكتشفوا وحدهم ما قصدتُه ب "تاريخية" و "بشرية" و "ذكورية" العقل الذى قنن حرمة عشرات و مئات الأمور.

ولاشك عندي أن العقل الذى يميّز بين "الخير" و "الشر" هو أرقى معرفياً وفكرياً وثقافياً من العقلِ الذى ينظر للأمورِ من منظورِ "الحلال" و "الحرام".

ولاشك أيضاً أن مرجعيةَ أهلِ "الحلال" و "الحرام" هى مرجعية تقوم فى معظمها بل فى كليتِها على "النصوصِ" و أقوال "السابقين" وليس على العقلِ والفكرِ والمنطقِ.

ولم يسبق لي كتابة أو قول ما سلف دون أن يرن فى أذني إسمُ "أبي حامد الغزالي" (المتوفي سنة 1111 ميلادية). فهو الذي رسّخَ فى عقولِ المسلمين بوجهٍ عامٍ وفى عقول "فقهاءِهم" بالذات أن العقلَ الإنساني غيرُ قادرٍ على إدراك الحقائق بمفردِه ! ولمن يتوخى المزيد أُضيفُ أنني أوقفت سنتين من حياتي (خلال ثمانينيات القرن الماضي) على دراسة منطق الغزالي من خلال مطالعتي لكل ما وصلنا من كتاباتِه ثم أوقفت سنتين أُخريين بعد ذلك مباشرةً لدراسة النطق المغاير والمخالف (بل والمضاد) لمنطق الغزالي وأقصدُ منطق إبن رشد ( المتوفى سنة 1198 ميلادية) والذى أزعم أنني طالعتُ بمنتهى التدقيقِ كل ما عاش من كتاباتِه.

ومن العارِ على شعوب منطقتنا ليس فقط عدم إكبارِها (المستحق) لإبن رشد بل إكبارها لفقيهين لا يصل أيٌّ منهما ل 1% من قيمة وقامة إبن رشد العقلية والمعرفية ، وأقصدُ إبن تيمية (المتوفي سنة 1328 ميلادية) و قيّم الجوزية (المتوفي سنة 1350 ميلادية).
ولا يغيب عن بال القاريء أن هيمنةَ وسيطرةَ ونفوذَ طبقةِ رجالِ الدينِ إنما هى (بشكلٍ مطلقٍ) مع "تيارِ الحلال والحرام" لأنه من جهةٍ يضمن ويؤكد انفرادهم بكونهم "المرجعية الأساس" ومن جهة أخرى "يمنع" الآخرين ومن بينهم كبار العلماء والمفكرين والمثقفين الموسوعيين من أن يدلو بدلوهم فيما هو مباح وما هو غير مباح. وهذا نقيض ما يسمح به منطق "الخير والشر".

كما لا يخفى ، أن "منطق الحلال والحرام" لا يسمح لمفهومِ الإنسانية بالوجود ! على نقيض "منطق الخير والشر" والذى يسمح برحابة بتجليات مفهوم الإنسانية. بل ان "منطق الحلال والحرام" كان وسيكون على الدوامِ ركيزةً لمنطقِ "نحن و هم" US & THEM بكل معانيه السلبية.

وكاتبُ هذه السطور كان ولايزال يحلم بمشروعٍ تعليمي ثقافي فكري يروّج لعقليةِ وثقافةِ ومنطقِ "الخير و الشر" فى صيغةٍ إنسانيةِ ، بل وكنتُ ولا أزال أحلمُ بأن يكون منطق "الخير والشر" هو دليل وبوصلة وموجه ومرجعية منطق "الحلال والحرام". وهو أمرٌ لا يمكن تحقيقه دون أن يسبقه تأصيل وترسيخ لبشريةِ الفقه ، كل الفقه ، تماشياً من مقولةِ مؤسس علم أصول الفقه أبي حنيفة النعمان (المتوفي سنة) : "علمنا هذا رأيّ ، فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه". ولاشك أننا نعرف من سيقاتل ضد هذه الدعوة من أفرادٍ و مؤسساتٍ سترى فيها تقزيماً لسطوتِهم ولنفوذهم اللذين يقتربان من القداسة كرجعيةٍ أولى وأخيرة !