مقدمة الطبعة العبرية لكتابي -الثقافة أولاً و أخيراً-


طارق حجي
الحوار المتمدن - العدد: 7689 - 2023 / 7 / 31 - 13:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

المقدمة التى كتبتُها للطبعة العبرية
لكتابي
الثقافة أولاً و أخيراً
الذى ترجمه
البروفيسور مائير هاتينا
الأستاذ بالجامعة العبرية بالقدس
وستصدره
خلال شهر نوڤمبر القادم (2023)
الجامعة العبرية بالقدس.

هذا الكتاب يمثل جزءاً صغيراً من مشروعي الثقافي. ولكنه يتناغم مع باقي فسيفساء هذا المشروع. ومشروعي الثقافي الذى قدمته فى أكثر من ثلاثين كتاباً وما لايقل عن 500 مقالاً وروجتُ له فى ما يزيد عن 250 حواراً تليڤزيونياً وإذاعياً وصحفياً وعشرات المحاضرات العامة ، يمكن تلخيصه في : نشر مجموعة من القيّم سميتها قيم التعايش المشترك والحداثة. وأهم هذه القيّم هى :

التعددية
الغيرية/قبول الآخر
التعايش المشترك
حقوق المرأة
حقوق الأقليات
التفكير العلمي
نسبية الأحكام
مدنية الدولة
الدين شأن شخصي

ومعروف أن لمشروعي الثقافي هذا عدة أعداء فى المجتمعات الناطقة بالعربية ، لذلك كان لزاماً عليّ أن أكافح أكبر أعداء هذه القيم وهى الأصولية الدينية والتى أفردتُ لنقدها ولنقضها أكثر من كتاب وعشرات. وكاتب هذه الكلمات يُؤْمِن أن الأصولية الدينية كثيراً ما تقف فى نفس الخندق/الخنادق مع غيرها من القوى المعادية للإنسانية وللحداثة.

وقد إستلزم مشروعي الثقافي هذا أن أقف بقوةٍ من مجموعتين فى مجتمعي وفى سائر المجتمعات الناطقة بالعربية وهما :

النساء
و
الأقليات الدينية وغير الدينية.

فأيّ مجتمع لا تسود فيه الأنساق القيمية التى روّجت لها فى كل أنشطتي الثقافية هو بالضرورة مجتمع غير منصف للمرأة و للأقليات الدينية ، وإن تفاوتت أشكال اللا-إنصاف من مجتمع لآخر. ولكن تبقى المرأة فى أية بيئة لا تسود فيها هذه القيّم ككائن ناقص الحقوق ، وهو ما ينطبق حرفياً على أفراد الأقليات.

وقد كتبتُ كثيراً عن ضرورة جعل البرامج التعليمية فى المجتمعات الناطقة بالعربية من أهم أدوات أو جهات تأصيل هذه المنظومات القيمية. فبدون ذلك ، سيتأخر حتماً بلوغ الهدف المنشود.

ورغم علمي بصعوبة أن يُساعد الخطاب الديني فى ترسيخ هذه القيّم ، فقد كتبت عن إمكانية تحقيق بعض المراد فى هذا الشأن عن طريق رقابة الدولة على البرامج التعليمية للمدارس الدينية.

وعندما يوجه لي سؤال عن مدى إستجابة حكومة/حكومات المجتمعات الناطقة بالعربية للأفكار التى طرحتها وكررت طرحها طيلة السنوات ال 45 الماضية فإنني أقول أن أشعر (لعدم وجود دليل مادي) أن حكومة بلدي مِصْرَ كانت إستجابتها نسبية ومركزة فى وجود برامج تعليمية جديدة تحض على قبول الآخر. ولكنني أستطيع أن أجزم بإستجابة أكبر من حكومة إمارة أبوظبي. فعندما دعتني حكومة أبوظبي منذ 20 سنة للمشاركة فى صياغة رؤية وفلسفة التعليم فى أبوظبي ، عملت بشكل منهجي على أن تتجلي قيم التعايش المشترك فى المنظومة التعليمية للإمارة ، وهو ما وجد قبولاً وترحيباً كبيرين. وفى سنة 2005 إعتمدت حكومة أبوظبي رؤية وفلسفة وسياسات تعليمية متناغمة تماماً مع الأنساق القيمية التى سخّرت حياتي وأنشطتي لتحقيق شيوعها. يومها إلتقيت بالشيخ محمد بن زايد فى قصر البحر فى أبوظبي وكنت بصحبة وزير تعليم أبوظبي وقتها السيد مُغير الخيلي وحدث هذا الحوار بيننا :

قال لي الشيخ محمد بن زايد : عرفتِ بالرؤية والفلسفة والسياسات التعليمية التى توصلتم لها وعرفت بمساهمتك فى هذا العمل ... ثم ضحك وأضاف : ولكنني غير موافق على وصف السيد / مُغير الخيلي لك بأنك العدو الأول فى العالم لفكر الإخوان المسلمين لأنني أعرف من هو هذا "العدو الأول للإخوان" ! ... فلما سألتُه عمن يكون ، قال لي : أنا محمد بن زايد .

وأحبُ ألاّ أصل لنهايةِ هذه المقدمة المقتضبة دون أن أذكر أنني رغم صدور ترجمات إنجليزية وفرنسية وإيطالية لعددٍ غير قليلٍ من مؤلفاتي صدرت فى عدة دول أوروبية ، فإنني كنت أنوقُ لصدور طبعات عبرية لبعض كتبي. لماذا ؟ لأن أي حديث عن التعايش المشترك فى الشرق الأوسط يعني إستحضار إسرائيل للحديث. فما هو معنى قيم التعايش المشترك فى ظل إستبعاد إسرائيل من الحديث ومن الحوار ؟ وبجانب هذا السبب الموضوعي فهناك سبب شخصيّ محض ! ففى سنة 1960 وعمري عشر سنوات قرأت رواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم وقرأت فى قائمة مؤلفاته إشارة لترجمة واحد من مؤلفاته للعبرية ! فإستقرت فى أعماقي أن يحدث لي شيئاً مشابهاً !! ولم أكن أتصور أن حدوث ذلك سيتأخر لمدة 63 سنة !!!

وأخيراً
فإنني منذ أصدرت أول مؤلفاتي (وأنا أعمل كأستاذ بجامعة فاس بالمغرب فى أبريل 1978 ) وأنا أعيش حلم شرق أوسط مختلف : شرق أوسط ينتمي للعصر وليس الماضي وينشغل بالبناء لا بالصراعات والهدم والعراك !!! يورام ورغم علمي بصعوبة المهمة فأنا لم أشعر يوماً بإستحالة تحقيق الهدف المنشود.

طارق حجّي