حديثٌ عن الحداثة


طارق حجي
الحوار المتمدن - العدد: 7511 - 2023 / 2 / 3 - 22:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لو طُِبَ مني أن أذكر بإيجازٍ قيمَ الحداثةِ أو قيم المعاصرة والتى كتبتُ عنها العديدَ من الكتبِ والمقالاتِ وتحدثتُ عنها فى محاضراتي وحواراتي التلفزيونية فسأقول ما يلي :

تنطلق قيمُ الحداثةِ من ثلاث منظوماتٍ : التعددية والغيرية والتعايش المشترك. فكما أن الطبيعةَ وعوالم الكائنات والنباتات تقول أن التعددَ هو أبرزُ معالمِها ، فإن نفسَ الشيء يُقال على البشرِ وأشكالِهم ومعتقداتِه و أفكارِهم وأذواقِهم. وهذا التعدد ينفي حق أي طرفٍ فى تمييزِ نفسِه أو تقليلِ حقوقِ "الآخر". ومن رحمِ "قيمةً التعددية" تنبثق "قيمةُ الغيرية" أو "قبول الآخر". وهو ما ينفي حق أيّ طرفٍ فى إقصاءِ "الآخر". ومن هاتين القيمتين/المنظومتين تتجلي قيمةٌ ثالثة هى "التعايش" أو "التعايش المشترك". وبديهي أن القيمةَ الثالثة هى ثمرةٌ حتمية و طبيعية للقيمتين الأخريين. وجلي أن هناك علاقة تكاملية بين القيمِ الثلاث. ومن هذا "المثلث القيمي" تخرج منظوماتٌ عديدة من قيمِ الحداثةِ فى مقدمتها "حقوق المرأة" ككائنٍ إنساني على قدمِ المساواةِ المطلقة بالرجلِ. وهذه قيمة وجدت وستظل تجد رفضاً كلياً أو جزئياً من الذهنيةِ الذكورية والتى حكمت تاريخَ الإنسانيةِ من بدايته ، وأن إختلفت درجة هذا الرفض من مجتمعٍ لآخر. فكلما كان المجتمعُ اكثر مدنية كلما كان هذا الرفضُ أقل نسبياً. ومن أهم القيمِ التى تنبع من "المثلثِ القيمي" المذكور ، "حقوق الإنسان" و "حرية الإعتقاد" و "التعليم العصري". وهنا أيضاً يتكرر الرفضُ من أطرافٍ ثيوقراطية وغيرها. فمعارضو مساواة المرأة المطلقة بالرجلِ يصعب تصور قبولهم الواسعِ للمفهومِ العصري لحقوقِ الإنسان و لحريةِ الإعتقاد. أما "التعليم العصري" فمعركته كبيرة مع نفسِ الأطراف ! لأنه يقوم على أسسٍ من حرية الفكر وحرية الإختيار لا يقبلها كثيرون لاسيما فى مجتمعاتِ ما يُعرف بالعالمِ الثالث والمجتمعات التى لم تتأصل فيها "مدنيةُ الدولة" ، كما أن تعريفَ "التفكير العلمي" الحديث سيكون أيضاً غيرَ مقبولٍ من عدةِ أطرافٍ.

وإذا كانت رحلةُ المجتمعاتِ الغربية صوب قيمِ الحداثةِ قد إستغرقت قروناً ، فمن البديهي أن نستبعد هذا السيناريو بالنسبةِ لمجتمعات عالمنا المعاصر والتى تسمى بمجتمعاتِ العالم الثالث. فكثير من أبناءِ وبناتِ هذه المجتمعات يتوقون/تطلعون لرؤيةِ واقعهم يقفز خلال عقود (وليس خلال قرون) للحداثةِ.

فما هو السيناريو البديل والذى من شأنِه إختصار رحلة مجتمعاتِ العالمِ الثالثِ من واقعها الآني من قرونٍ لعقودٍ ؟

خريطة العالم اليوم تقدم الإجابةَ !

فإذا صبغنا الدولَ الأكثر تقدماً على خريطة عالمنا بلون ما ، فسنكتشف بسرعةٍ أننا أمام مجموعتين من "الدول المتقدمة”.
مجموعة تضم دولاً مثل دول غرب أوروبا ، وهى التى تحققت فيها الحداثةُ عبر قرون. ومجموعة تضم دولاً مثل سنغافورة وتايوان وماليزيا وكوريا الجنوبية وهى التى حققت الحداثة خلال عقودٍ وليس خلال قرون.

وجلي أن آليةَ تحقيقِ الحداثةِ فى المجموعةِ الأولى كانت من خلالِ التطور المجتمعي البطيء والتدريجي. أما آلية تحقيقِ الحداثةِ فى المجموعةِ الثانية فكانت من خلالِ دور قسري لعبته القيادةُ السياسية ، وهو الدور الذى تكرر وبنفس الكيفية تقريباً فى دول جنوب شرق آسيا التى ذكرتُها فى الفقرة السابقة.

ولكن ، لابد من إجراءِ دراسةٍ مقارنة بين نوعين من المجتمعاتِ : مجتمعات جنوب شرق آسيا التى تحققت في كل منها الحداثةُ خلال أقل من ثلاثةِ عقود ، ومجتمعات مثل تركيا و تونس بدأت فيها عمليةُ التحول القسري للحداثةِ ، ثم حدثت إنتكاسةٌ (إنتكاسة نسبية فى تركيا وإنتكاسة أكبر فى تونس).