أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - ذكرى قديمة جدا















المزيد.....

ذكرى قديمة جدا


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6557 - 2020 / 5 / 7 - 19:21
المحور: الادب والفن
    


آشتي 1 نيسان 2020
يجلس حارث مرزوق الذي يبلغ من العمر بضعاً وستين عاماً على الرصيف أمام بيته المستأجر في حي (آشتي 1) في أربيل وحيداً هذه الساعة من عصر يومٍ من أيام رمضان. يخيِّمُ الهدوءُ على الشارع والحيِّ بأكمله بسبب حظر التجوال الذي فرضته الحكومة هذه الأيام للحدِ من إنتشار فايروس كورونا.
كان حارث قد جاء مع أسرته إلى أربيل من البصرة قبل خمسة عشر سنة عندما اضطربت الأحوالُ وفُقِدَ الأمنُ، وصار الكثيرون يخشون على حياتهم من القتل. كانت عصاباتٌ مجهولةٌ تقتلُ الناسَ لأسبابٍ مجهولة. وكثُرَ اللغطُ حول أسبابِ القتلِ ودوافعِه. ولكن حارثاً إختصرَ الطريقَ، فتركَ البصرةَ وكلَّ شيءٍ وراءَه، وقَدِمَ للعيش في أربيل.
على أية حال، فلم تكنْ البصرة مسقط َ رأسه، ولا بلدةَ آبائه وأجداده. فقد نزحَ أبوه مرزوق مع عائلته في أواخر الخمسينات من باب الشيخ ببغداد واستوطن البصرة التي أعجبته كثرةُ الخيرِ فيها. فسكنَ في حيِّ العشّار، وراح يجوبُ القرى هو ومساعدُهُ الأسمرُ الصامتُ دوماً (سَتْوري)، يبني كورته الناريّة، وينصب كيرَه، يُصلِحُ الأواني النحاسيَّة العتيقة، ويبيع الجديدَ منها مما تصنعه يداه المبدعتان في مهنة الصفّارين التي ورثها عن أسلافه البغداديين، ويبيّض القديم منها بعد أن يجلو عنه صدأه.
حارث رجلٌ عمليٌّ جداً. فهو يستطيع أن يشتغلَ بكلِّ مهنةٍ تدرُّ عليه مالاً. فقد عمل صفّارا وحدّادا ومصلِّحَ سيارات ومركِّب أنابيب وتنكجي وكلَّ ما يخطرُ على بالِ أحدٍ من تلك المهن التي تتطلب بنيةً قويةً، وفكراً ثاقباً في التعامل مع المعادن.
يجلس هذه الساعة وحيداً، ليس لديه ما يقوم به، فالحظر أوقف الأعمال. وحيث لا وجود للعمل، فذلك يترك البابَ مفتوحاً للذكريات كي تطفو. يساعدُ هذا الهدوءُ الغريب على ذلك ، هذا الصمتُ الذي ذكَّر حارثاً بهدوءِ خضابوه ليلاً، وسكونِ خضابوه فجراً، قبل أن تضج بحركةِ الناسِ من جميعِ الألوانِ، ومن جميعِ الوجهات. هذا الصمت الذي حاول حارث تفاديه والهرب منه ملتجئاً الى أصواتِ المطارقِ والمثاقبِ والمناشيروالمقاصّ عقوداً من الزمن، هارباً منه إلى ضجيج الناس في الشوارع والأسواق والمعامل والورش خوفَ أن يحاصرَهُ وحيداً ليعيده الى ذكرى قرية خضابوه. تلك القرية التي ظلَّ طيلة تلك السنوات الخمسين يتحاشى إنبعاث ذكراها في رأسه. ولكنَّها هذه الساعة إنتصرت عليه، وإستبدت به، وحاصرته، فما عاد قادراً على الفرار منها، فاستسلم لها. إستسلم لذكرى خضابوه صيف عام 1970. خضابوه التي تقع على الجهة الغربية من شط العرب بين القرنة والبصرة، أو على وجه الدقّة بين كرمة علي والدير.
خضابوه تموز 1970
وخضابوه صيفاً ليست مجرد قرية صغيرة تتألفُ من بضع عشرات من البيوت تقع على نهرٍ صغير، بل هي عالمٌ كبير متنوع ينبضُ بالحياة.
الصيفُ موسمُ التمرفي البصرة. ويا لتمر خضابوه، ما أكثَرَه، وما أطيبَه. حِملُهُ الذي ينوءُ بجذوعِ النخلِ ورؤوسِها شهيٌّ طريٌّ متنوعٌ الألوان والأشكال. ونخلُ خضابوه غابةٌ كثيفةٌ بالكاد ترى السماءَ خلالها . تضجُّ أرجاؤها بالحركة والصخب، إذ تُنشأُ الجواخين1 بسرعة حيث تُجَّمَعُ أرواطُ 2 التمر، وتُصنَّفُ وتُنقى وتُعبأُ وتُسوَّق بأيدي الفتيات الجميلات. تفِدُ إلى خضابوه عشراتُ العائلاتِ بل ربما المئاتُ من نواحي العمارة للعمل في جمع التمر، فينصبون خيامَهم البسيطة في الجوبات3 والمناطق الخالية من النخيل. تتقاضى النسوةُ العاملاتُ المُجدّاتُ تمراً لقاء جهدِهنّ. فتغدو الواحدةُ خفيفةً نشطةً، وتروحُ محملةً بوزنةٍ4 من أوسطِ أنواعِ التمر قبيلَ الغروب. وما إن ينتهي الموسمُ حتى ترحلُ العائلاتُ حاملةً ما إدخرته من تمرٍ على ظهور الحمير والسيارات مؤونةَ فصلِ شتاءٍ قادم . ويفدُ إلى خضابوه عشراتُ العائلات من البدوِّ، فينصبون خيامَهم غيرَ بعيد. ويشترون بمالِهم ما يسدُّ رمقَهم من التمر لعامٍ قادم، ثم يرحلون حاملين مؤونتَهم على ظهور الجمال. ويمتليء النهرُ بمئات الأبلام والمشاحيف 5 المحملة بشتى أنواع السلع من الرقّيّ6 والقرع والسمك المصفوط7 والفخاريات على إختلافها، والقفف8 المقيَّرة المعمّرة، والملح وأشياء أخرى. كلُّ بلمٍ أو مشحوف لعائلة. تأتي تلك العوائلُ من الأهوار ومن ريف العمارة، ومناطق أخرى. كلُّ عائلة تتكون من رجلٍ وامرأة، يحملون معهم طحينهم وشايهم وسكرهم، وأدواتٍ بسيطةً للخبزِ والطبخِ المتقشف. فيتحولُ النهرُ إلى سوقٍ عائم. لا تجد من يتعاملُ بالمال هنا إلا نادراً، فهم يتعاملون بالتمر فقط. والأسعار هنا إما عدلَهُ أو عدلَ نصفِه أو ثلثه. فإذا كنت تريد أن تشتري سمكاً مصفوطاً، عليك أن تدفعَ ثلاثةَ أضعافِ وزنَهُ تمراً، أما إذا أردتَ أن تشتري قرعاً فتدفعُ وزنَهُ تمراً. وسعرالملح نصفُ وزنِه تمراً. وسعر الحِبّ9 ملؤُهُ تمراً، ومثلُ ذلك للحُبّانة أو المدانة أو الشربة 10الأخوات الصغيرات للحِبِّ الكبير. ثم ما يلبث أن يخلو النهر من الأبلام والمشاحيف التي تتسلل جميعها قبل موسم المطر والبرد محملة بالتمر الى شط العرب عائدةً الى وجهاتها السريّة البعيدة.
وحين يكثرُ الخيرُصيفاً تطيبُ الأنفسُ، وتشتاقُ الى الجَمالِ. وهل أجملُ من قضاء الليل بالإستماع لقصصِ الحُبِ يرويها الوافدون من الأهوار، وأغاني الشوق والحنين التي يغنّيها أصحابُ المشاحيف ، وقصائدِ الشعر الطويلة ينشدها البدوُّ الذين يحفظون آلافَ القصائدِ عن الحُبِّ والهجر والرحيل والكرم والشجاعة.
وحين يكثرُ الخير تزدهر قصص الحبِّ، وينشط العشاقُ، فتنشأُ علاقاتٌ، وتحمرُّ الوجوه، وتتعرقُ الجباه، وتضطرب الحركات، وتتلعثم الكلمات، وتتيه الأعذار عن المعتذرين.
مجتمع خضابوه
نهر خضابوه ليس نهراً صغيراً حفره الرجالُ القدامى الأسطوريون الذين أسسوا هذه القرية، وجعلوه يتصل بشط العرب، فتتدفق فيه مياهُ المدّ لتسقي البساتين. لا، هذا وصفٌ ظالمٌ لهذا النهر العتيق. نهرُ خضابوه هو أهم نهر في العالم. فهو الوحيد الذي يعرف كلَّ الأحياء الذين يجولون تلك الأنحاء. لا يعرفهم فسحب، بل يعرف أدقَّ تفاصيل أسرارهم التي ربما لا يعرفونها هم أنفسهم. ولكنه لا يفشي تلك الأسرارلأحد، بل يحتفظ بها لنفسه. هو الوحيد الذي يعرف الأسماك التي تجوبُ مياهَه. ويعرف المهلهل الماكر الذي يجلس على الأغصان فوقَه ليتصيَّدها وهي غافلة. ويعرف الطيور التي تخوض فيه طيراً طيراً. ويعرف السلاحف التي تتشمس على جروفه. ويعرف الرجال الذين أخلصوا بعملهم وقت تنظيفه، وأولئك الذين إعتقدوا أنه يمكن أن ينجزوا العمل بأقلَّ جهدٍ ممكن. يعرف كلَّ الفلاحين ومُلّاك الأراضي، ويعرف كيف يصل الى أراضيهم فيسقيها مرتين في اليوم. ويعرف النساء اللواتي هدَّهُنَّ التعب وما عُدْنَ قادرات على حمل مائه إلى بيوتهن. وحين تخوض الفتيات ماءَ خضابوه عند الشرائع، يعرف هو أكثر من غيره مقدار جمال سيقانهن، وبإمكانه التمييز بين البيض والسمر منهن، وبين النحيفات والممتلئات. ومن دون أن يشعروا يضحك خضابوه من المراهقين الذين يغتسلون سرّاً في مياهه ظناً منهم أن أهلهم لم يعرفوا ما الذي عملوه سراً في خلواتهم. ويعرف الشباب الذين تواعدوا على جروفه بعد مغيب الشمس لئلا يسمع أحدٌ همسَهم. يعرف خضابوه وحدُه تضرّع الذين يريدون أن يتزوجوا حبيباتِهم، ودعاء اللواتي يُرِدْنَ أن يُنْجِبْنَ، ودموع الأمهات اللواتي يقدمن نذورهن له من أجل أن يعود أبناؤهن الجنود سالمين. يسمع خضابوه كل نقاشات الكهول المحتدمة حول قضايا عديدة كفلسطين والنفط والإصلاح الزراعي والجبهة الوطنية والحرب والتعذيب والثورة والعمل السرّي.

وافدون آخرون
وحين يكثرُ الخيرُ صيفاً يأتي الى خضابوه أناسٌ آخرون، مثل باعة الذهب والفضة من الصاغة المندائيين ذوي الدشاديش البيضاء والكوفيات الحمراء واللحى الطويلة، الذين يعرفون كلَّ امرأة من نساء القرية بإسمها وكنيتها. ونساء القرية يحترمن تجار الذهب الجائلين لصدقهم ونزاهتهم وجمال ما يبيعونه من الأقراط والأساور والقلائد والحجول والكلّابات ( جناكيل) وهي الحُليّ التي تثبت الشالات على الرؤوس. كما يفِدُ الى القرية أيضا الندّافُ الذي يصلح ويصنع للناس أفرشة جديدة من لحف ووسائد ومقاعد. ويجول في أزقة وساحات خضابوه باعة الدوندرمة. وسيارة الأطباء الذين يقومون بأخذ صور للصدور خوفاً من مرض السلّ، وأولئك الذين يلقّحون الأطفال ضد الأمراض. ويجول أيضا رجالٌ ملثمون يحملون على ظهورهم قنانٍ ويمسكون بأيديهم خراطيماً، يدَّعون أنهم يقاتلون البعوض! ويفِدُ الى القرية أيضا الصفّارون الذين يصلِحون ألأواني النحاسية من مساخن وقدور وصوانٍ وأباريق وأوانٍ أخرى.

الصفّارون
تأتي زمرة مرزوق الصفّار الى القرية كلَّ عام، وتمكثُ فيها بضعة أيام، وربما بضعة أسابيع. كما كانوا يقصدون قرىً أخرى. يأتون فينصبون كورتهم أسفل النخلة الطويلة أمام القصر القديم. إذ يمتاز هذا الموقع بميزات فريدة لا تجدها في غيره. فهو مكان مرتفع وجاف لا تصل اليه رطوبة الأنهار. وهو ظليل جدا، إذ يلقي حائط القصر القديم ظله عليه ما يوفر للزمرة فرصةَ العمل بأجواءٍ مريحة. ثم أن حائطَ القصر الممتدَّ من الشمال الى الجنوب يتيح للريح الشمالية المنعشة الهبوب هنا بسرعة أكبر من الأماكن الأخرى. سيما وأن الطرف الشمالي لحائط القصر القديم ينتهي بجوبة واسعة تتجمع فيها رياح الشمال فتندفع بقوة كإندفاع الماء في عنق قمع، محصورة بين القصر من جهة الغرب وصف نخيل باسقات ، ما يخلق ممراً ضيقاً للريح تسلكه باتجاه الجنوب. ويقعُ هذا الموقع قبالة بيت أحد أطيب السكان الطيبين جداً، فيكرم الزمرة ويجود عليها بكلِّ ما يحتاجونه من ماء وزاد. والموقع فضلا عن ذلك قريب من المضائف الأربعة الطويلة المبنية من الحصران وسعف النخيل والقصب والتي تصطف قبالة الساحة التي تلي القصر القديم، حيث تتكدس خلفها البيوت المكتظة والصرائف المتراصة والتي تتخللها حظائر البقر والأغنام. يمكن لمرزوق وفريقه أن يأكلوا ويناموا في تلك المضائف. والأهم من كلِّ ذلك ما للموقع ذاك من قيمة فريدة، فهو يقع على الطريق الرابط بين سلسلة القرى الممتدة شمالا وجنوبا. فكلُّ نساء تلك القرى يسلكن هذا الطريق في طريقهن الى نهر خضابوه حيث يملأن أوعيتهن بالماء، وكل الرجال يسلكونه في طريقهم الى المضائف لاحتساء قهوة الصباح والمساء. والجميع يسلكونه أيضا وهم ذاهبون الى الدكّان الوحيد. ويمتد هذا الطريق جنوباً ليعبر الجسرالخشبي العتيق، ويتوغّل الى مساكنَ أخرى وقصورٍ أخرى.
يحفر مرزوق وفريقه حفرةً في الأرض ويعملون منها موقداً موصولاً بقناة هوائية ترتبط بمنفاخين. كلُّ منفاخ من الجلد له فتحة مستطيلة تغلقها خشبتان مستطيلتا الشكل عليهما مقبضان جلديان. يجلس مرزوق بين المنفاخين، ويلقف الهواء بيمينه وشماله بالتناوب، ثم يضغط على الجلد المنتفخ، فيمرّ الهواءُ عبر القنوات الأرضية ليتدفق أسفلَ الموقد المليء بالجمر، فيتوهج ناراً حمراءَ ليس في القرية مثيلاً لها، لا في مواقد النساء حيث يطهين الغداء، ولا في مضائف الرجال حيث يعدّون القهوة. نارٌ تزيل ما علق من صدأ أخضر على الأواني النحاسية، نارٌ تسخّن الأواني ليسهل طلاؤها بالقلاي11 فتصير بيضاء، ثم يسهل تزييّنها بصبغةٍ حمراء في حواشيها فتصيرُ لوحةً فنيةً تتوهج تحت ضوء الشمس خاصة تلك التي تخصّ العرائس. نارٌ تكاد تذيب النحاس فتصير الأواني طيّعة مرنة، يشكلها مرزوقُ كيف يشاء.
أما سَتْوري مساعده الشاب مفتول العضلات والصامت طيلة الوقت، فعليه جلب الفحم الى الموقد، وجلب النشادر12 كلما إحتاج إليها مرزوق، ونقل الأواني التي يجب إصلاحها، وترتيب تلك التي تم إصلاحها. ثم أن عليه أن يمسك بجذع النخلة، ويقف على االطست النحاسي المراد تنظيفه ، فيضغ فيه رملاً خشناً وحصىً ناعماً وبرادةَ حديد، فيرقصُ عليه رقصةً رتيبة، فيلفُ جسمه يميناً ويساراً وهو يحتضن النخلة كأنه يراقصها، فيدعك الأناء برجليه حتى يصير براقاً بفعل إحتكاكه بالرمل الخشن، لتتكفل النار بما يتبقى من الصدأ الأخضر العالق به.
أما حارث الصغير ابن مرزوق الوحيد البالغ من العمرعشرا، فكان عليه تقديم المساعدة هنا وهناك، وكان عليه أن يتعلمَ المهنة بكل تفاصيلها، وعليه أن يعرفَ الناسَ، وعليه أن يكونَ معروفاً لدى النساء، ذلك لأنه هو من سيرث المهنة بعد أبيه.
بدا هذا العالم غريباً وصاخباً، وجميلاً لحارث الصغير. وبدا له كأن الكل يعرف الكل. بل كأنهم عائلة واحدة كبيرة. واعتقد أنه جزء من هذا العالم الجميل. فأحبَّ خضابوه كما لم يحبّ مكاناً آخراً من قبل.

الوقوع في الحب
لكن أمراً ما حال بين حارث وبين تعلّم المهنة تلك. فقد خسرَ تركيزَه. والعملُ يتطلبُ التركيزَ. فبدلَ أن يركِّزَ على النار وما تحتاج إليه من تلقيمها بالفحم بقدر معقول، وبدلاً من أن يجلب لأبيه القلاي حين يحتاج أليه، وبدل أن يجلب له القدر الذي عليه الدور، صار يخطئ بهذه الأمور. فيجلب الأبريق بدل الطشت، والفحم بدل القلاي، ويضع في الكورة رملاً بدل الفحم، ما أثار غضبَ أبيه غيرَ مرةٍ ، فضربه، وصرخَ به، وقذفه بدلَّةٍ نحاسيّةٍ مرة، وبأبريقٍ نحاسيٍّ أخرى.
ولم يكن بيد حارث حيلة، فمنذ أن رآها أصابه ما أصابه. فقد جاءت مع أمِّها التي تحمل قدراً نحاسيّاً معطوبا لإصلاحه. أما هي فقد كانت فتاة أكبر من حارث قليلا، سمراء بلون الحنطة، لها عينان عسليتان، وفم صغيركتمرة، وأنف جميل. تلبس نفنوفاً أزرقاً، وعباءةً لا تكادُ تثبت على رأسها، فتنحسر كاشفةً عن شعر أكثر سوادا من الليل. سلبتْ لبَّه. وأطاحتْ بتوازنه. فقد أحبَّها، وتمنى أن تكونَ له. لم يعلم ما كان أسمها، ولم يدرِ أين كانت تسكن عائلتها، ولم يتسنَ له أن يعرف أسم أبيها وأمها.
منذ أن لاحظ أبوه هذا التغير الغريب الذي طرأ على أبنه، تكلَّم معه، ثم عنَّفه، وفكر أن يترك خضابوه فلا يأتِ إليها، ويستعيض عنها بالعمل في قرى أخرى. ولكن كيف له أن يستغني عن الرزق الوفير الذي تدرّه عليه أعماله في خضابوه.
قال له " بابا هذا باب رزقنا" وقال له " بابا ذوله مو من ثوبنا ولا إحنه من ثوبهم" ، وقال له " ولك بابا شجابنا ألهم"، وقال له" بابا ولك هم سمعت صفّار ياخذ فلّاحة؟ أطك روحي! "، ولكن كلّ ذلك لم يجدِ نفعاً. فقد ملكت تلك الصبية قلب حارث الصغير وفكره.
في صيف تالٍ جاءت أمها لتطلب من مرزوق أن يبيّض لابنتها مسخنة، وأن يجعلها أجمل مسخنة على الأطلاق، وأن يعمل لها أوانٍ نحاسية تليق بالعروس. وقعَ ذلك كالصاعقة على رأس حارث الصغير. فحبيبته ستتزوج قريبا. فاستسلم لحزنٍ عميق. وقرر أبوه بعدها ألا يأتِ الى خضابوه رأفة بأبنه الذي لم يدرك لم لا يجوز للصفّار أن يتزوج فلّاحة. وكيف يمكن أن يكون الناس طبقات وفئات منعزلة لا يمكنهم أن يحبّوا بعضهم، ولا يحقُّ لهم أن يتزوجوا وهم يعيشون معا في بلدٍ واحد.

خضابوه 1973
منذ ذلك الصيف تغيرت أمور كثيرة. فقد ظهرت في البصرة معامل كثيرة. واستقطبت الشباب للعمل فيها. فحصل (سَتْوري) على فرصة عمل واختفى. وحصل شباب القرى على وظائف في المعامل والموانيء التي توسعت.وترك الناسُ القرى. ولم تعد العائلات تفِدُ الى القرية من الأهوار والبوادي، إما لأنهم وجدوا أعمالا هناك، أو لأنه لم يعد هناك ما يكفي من التمرلإطعام كلِّ هؤلاء. ثم ما لبثت الحروب أن اندلعت ، فلم تعد النساء يلبسن الملابس الملونة، بل ساد السواد، وحلِّ الفافون محل النحاس، ثم اكتسح البلاسيك الساحة، وخيَّمَ الحزنُ على خضابوه. وبدأ النخل يموت، والماء يصير أجاجاً، والأنهار تتعفن، والطيورتغادر أعشاشها.

آشتي 1 نيسان 2020
جالسا على الرصيف أمام بيته في حي (آشتي 1)، في هذا اليوم الرمضاني من أيام كورونا، كان حارث يتذكر تلك الصبية التي وقع بحبِّها ذات يوم ولم يرها مرة أخرى. ويشعر أنه ما زال يحبُّها ويشتاق إليها كما أحبَّها صيف عام 1970 أو ربما أكثر. ومن جديد أثار هذا الصمتُ برأسه السؤال القديم مثلما أثار في قلبه الحبَ القديم. السؤال الذي لم يجد له جواباً. كيف يمكن أن يكون الناس طبقات وفئات وهم يعيشون معا. فقد انتقل أبوه من باب الشيخ وعاش في البصرة ولكنها ظلت بالنسبة له باب رزق. ليس مسموحا لحارث أن يحبَّ فلاحة ابنت فلاح. كبر حارث في البصرة ولكنه بقيَّ ذلك الصفّار البغدادي حتى بعد أن فُقِدَ النحاسُ ، وحتى لو لم يكن قد عاش في بغداد. وعندما فُقِدَ الأمنُ وعمَّتْ الفوضى بعد عام 2003، صار هو أكثرالخائفين. وعندما نزح الى أربيل ظل هنا منذ خمسة عشر عاماً نازحاً غريباً. ولم يستطع لحد الآن أن يفهم كيف له أن يعشق خضابوه كلَّ هذا العشق إن لم تكن خضابوه وطناً له.

1- جوخان موقع تجميع التمور
2- أرواط جمع روطة وهي كدس التمر
3- جوبة ساحة خالية من الشجر
4- وزنة سلة متوسطة الحجم
5- زوارق
6- بطيخ
7- منقوع بالملح لحفظه
8- سلة كبيرة مطلية بالقار
9- زير ماء
10- أوعية فخارية
11- قصدير
12- مادة كيمياوية



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية لا يعلم بها أحد
- سلسلة قصص الجنون - تنويه ختامي
- سلسلة قصص الجنون 8- -عقل- المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 7- سيد عودة
- سلسلة قصص الجنون 6- سامي المجنون
- سلسلة قصص الجنون 5- شهاب
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
- سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
- رفعة الجادرجي
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - ذكرى قديمة جدا