|
القصيدة المُخالِفة
سعدي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 1445 - 2006 / 1 / 29 - 12:34
المحور:
الادب والفن
طالَ ما وجد المرءُ نفسَــه في حيرةٍ من أمرهِ ، وهو يحاولُ مدخلاً مجْـدِياً إلى قصائد لقمان ديركي ؛ أقصدُ أن المداخل قائمةٌ ، متاحةٌ ، لكنّ الجدوى متفاوتةٌ ، ومن هنا تأتي الحيرةُ في اتخاذ الخطوة الأولى ، الخطوةِ ذات العلاقة بالشخص قبل النصّ . ليس بمقدورك ( بمقدوري ) قراءة نصّ لقمان ديركي الشعري بمعزلٍ عن تمثُّـلِ شخصه . والشخص ، هنا ، ذو مرجعيةٍ وراهنيّـةٍ معيّـنتين ، والاثنتان منفصلتان عن عاديّة الواقع انفصالاً عجيباً . ليس لدى لقمان مرجعية شعرية مقررة مقدّسة . لكنّ لديه اعتبارات : رياض صالح الحسين أولاً وربما أخيراً . لماذا يمضي بعيداً إن كان رياض مضى أبعدَ مما يتحمّل ويُحتمَــل ؟ الدرسُ قائمٌ ، مستمرٌّ . المرجعية شخصيةٌ تماماً . أمّــا الراهنية التي أنقذت لقمان من الذوبان في تفاهة النص السائد ، فهي متّصلةٌ بأنه خارج الاعتبارات والمنافع والوظائف . ليس موظفاً في صحيفة ، ولا ناشطاً في تنظيم سياسي ، بل ليس ذا شُغلٍ ثابتٍ على أي حالٍ . هكذا صار خارج التزوير والكذب ، والضحكِ ( شعرياً ) على القاريء البريء عادةً . ثم أنه ليس مغرَماً بالقراءة ، أي أنه ليس دودة كتبٍ . مادّتــهُ الخامُ مباشِــرةٌ من الحياة ( ليست الحياة اليومية المألوفة ) ، واستعدادهُ للاستقبال مستنفَــرٌ على الدوام ، كأنه آدمُ في هبوطه الأول على أرضنا ذات الرتابة ، الرتابة التي لن يعرفها . لقمان ، الكائنُ اليومي ، في ديالوج دائمٍ دائبٍ : حديثٍ لا يتوقّف إلاّ مع الخمود الطبيعي لوظيفة الجسد . هذا الديالوج يتخذ هيأة السردِ في بهائه ، ويمتشق أيضاً أسلحةَ السردِ في مـضائه : • المباشــرة . • التقاط اللحظة . • الموقف النقدي . ليس بإمكانك الفصلُ بين ديالوج الكائن اليومي ، والنصّ الشِــعريّ . إنهما متداخلانِ تداخلاً لا يتحمّل العبث أو محاولةَ التمايز . يا لأدوارٍ أمنحُها أنا يا لَشخوصٍ أرتِّــبُــهم أنا يا لَلمشهدِ يبداُ بإشارةٍ مني يا لَــلـمهزلة ! قلتُ إن الشاعر مسلّحٌ بالسردِ ، عارفٌ بما هو فاعلٌ ، وملتقطُ لحظةٍ وزاويةٍ : في يوم المسرح العالميّ أهديتُكم ثماني قرنفلاتٍ وكنتِ تعتذرين مني كلما مدحكِ شخصٌ . في يوم المسرح العالميّ أُسدلت الستارةُ ولم تحجبْ من الممثلين ســواي . لكأن هذا هو التماهي الحقُّ بين المهرِّج والفيلسوف ، بين اللاعبِ وما وراء اللعبة . أليس الفن ، بإطلاقٍ ، هو هذا ؟ آنَ استعملتُ تعبير " المباشَــرة " ، كان استعمالي احتراماً للمصطلَح وتقديراً ، وتأكيداً في الوقتِ ذاته على أن تجنُّبَ المباشــرةِ مرضٌ أصيبتْ به القصيدة لدينا ، مرضٌ ظلَّ يُعمِـلُ في الشِعرِ تشذيباً وتهذيباً حتى فقدَ جناحيهِ : قوادمَ وخوافيَ ، وحتى لم يعُدْ ذا مغزى أو جدوى … بَـعُـدَ فابتعدَ عنه الناسُ وتناسَــوه ، لأنه ابتعدَ عن الناس وتناساهم ، موغلاً في اللامباشَــرةِ ونفخِ الهواء في البالون المثقوب . لكنّ المسافة التي يضعها الفنان ( الشاعر هنا ) بين الفن والحياة تظل قائمةً وضروريةً ، فهذه المسافة هي ساحة الوصل والفصل في آن : سـأغلق النوافذ جيداً ولن أفتح الأبواب سأرتق شقوق الجدران لأنني أخاف أن يدخل الهواءُ الذي تتنفسون منه إليّ ! هي ، إذاً ، القطيعة الموصولة ، أو الصلــة المقطوعة ، الجدل الدائم الذي يمنح الحياةَ حركيةً واختلافاً : وفي نهاية الليل مع صوت غربان الصباح أنام دون أن أفكرَ بكِ لأنني لم أجد الوقتَ الكافي ! لقد مضى زمن العاشق المولّــه ، الـمُدْنَف ( ما معنى المدنَف ؟ ) . نحن أمام مادّةٍ مسيطَـــرٍ عليها . في هذه الأبيات نتابع أسراراً من صنعة لقمان ديركي ، نتابع المباشَــرةَ ، والتقاطَ اللحظةِ ، والموقفَ النقديّ ، ونتابع كذلك مهارة الاختزال والتكثيف . القصيدة لدى لقمان معنيةٌ بقضايا كبرى ، حقاً ، لكن الشاعر ليس أسيرَ هذه القضايا . أريد القول إنه يمنح القضايا الكبرى ، في السياسة والوضع البشري ، ملموسيةَ الفنِ وملمسَــه ، فتعود شاخصةً مشخّصةً ، نائيةً بنفسها عن تجريديّـتها القاتلة ، وهكذا سنقرأ في ديوانه الأخير " شخوص الممالك الزائلة " شواظاً من ملحمة الأكراد : يا إله الميديين حدّقْ جيداً يا إله الـفُرسِ اسمعني . يا إله المنصّــةِ تعذَّبٍْ قليلاً . تململْ واقرِض أظافرك فلم تبدأ الملهاةُ بعدُ ، ولم يأتِ سيّـدُها . قاضي محمد… أحفادك ناموا على الهزيمة ، فلأكُنْ ومســرحي حذاءً لك تلبسنا وتتمشى في الجمهورية القتيلة بعد عامٍ ، فلأكن ومسرحي شخوصاً لك تحرِّكنا حتى المشانق … آااخ . أي جبلٍ كان ذلك الجبل ؟ أي شعبٍ كان ذلك المسوِّر حدودَك ؟ قاضي محمد … ماذا فعلتَ حين تقدَّمَ الجنودُ وتراجــعَ البرزانيون إلى جهتهم ؟ * مياهٌ كثيرةٌ مرت تحت الجسور ، وهي تمــرُّ الآن أيضاً . لكن من العسير على قصيدة النثر أن تجد تجلياً لها أبهى ممّــا أنجزه لقمان ديركي . إن قصيدته تستحقّ العميقَ من التأملِ والكثيرَ من الاحترام .
لندن 27/1/2006
ــــــــــــــــــــــ * مقدمة أعمال لقمان ديركي الشعرية التي تصدر قريباً في دمشق .
#سعدي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اقتسامُ الفطيسة
-
شاعرُ مدينة سان فرانسسكو اليومَ : شيوعيّ !
-
العواصمُ تتداعَى
-
في عيد الميلاد
-
موعدٌ في الجَنّةِ
-
هيلين تشادويك تغني - ليل الحمرا - بالإنجليزية
-
أوراق الخريف: يوسف الصائغ مبتدِئاً
-
الصديقة في الخمسين …
-
صدّام حسين وضعَ السقفَ
-
جبلُ النُّوبان
-
نافذةٌ على مشهدٍ مُفزِعٍ
-
نصيحةُ مُجَرِّبٍ
-
خاطرةٌ عن المِرآة
-
الحُرِّية
-
سِياجٌ في الريف
-
ثلاث قصائد عن الخريف
-
هارولد بِنْتَر والعراق
-
المِنْتَفْجِي … رئيساً
-
جَبْلة
-
تنويعٌ على سؤالِ رئيسِ أساقفةِ كانتربَري
المزيد.....
-
-باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
-
فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
-
مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
-
إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز
...
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|