أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رمسيس حنا - النرجسية الموسوية















المزيد.....


النرجسية الموسوية


رمسيس حنا

الحوار المتمدن-العدد: 5028 - 2015 / 12 / 29 - 22:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


قبل بداية المقال أود أن أوضح أن المقال لا يهدف الى التجريح أو التشهير و لا الى التقليل من شأن المتبوعين و لا التابعين لأى ديانة بقدر ما هو تعاطف تجاههم و محاولة لفتح كوة ليروا و يبصروا من خلالها الى مدى ما تصنعه النرجسية من مسخ لإنسانية الإنسان و تشويه للعقل البشرى الذى فى الإصل خُلق حراً حتى يتمكن الإنسان من التصالح مع نفسه أولاً و مع بيئته و ما تحتويه من حوله؛ و من ثم يهدف المقال الى إعمال العقل و تدقيق النظر فى النصوص الدينية و سلوكيات مصدريها و ما بُنى عليها من شروحات الشراح و تفسيرات المفسرين لنرى الى أى مدى من الإيجابية أو السلبية تتركها تلك النصوص و مصدريها على التابعين البشر و التى تلقى بظلالها و تبعاتها على المعاملات البشرية في صور الغطرسة و الإستغلال و الكراهية و التهجير و القتل التى تُمارس على الفقراء و المساكين و الضعفاء من البشر. فالموضوع هنا يتعلق بمعاملات البشر المتواجدين على هذا الكوكب و من ثم فهو موضوع عام يمس الجميع و عواقبه و اَثاره تلقى بثقلها على كل البشر. و يكون القصد الوحيد من هذا المقال هو الإنسان و قدسية الحياة – فى رأيى على الأقل – التى دونها لا توجد مقدسات على الأرض.

و لا يستطيع أحد – كائن من كان – أن ينكر أنه لا يوجد على الأرض كائن بشرى معصوم من الخطأ، بل أن الخطأ هو اسلوب فاعل للتعلم و لولا الخطأ ما كان الإنسان ليتعلم الصُح. و الخطأ و الصُح ليست أمور مطلقة ثابتة لا تتغير بل هى ككل شيئ على الأرض أمور نسبية يتغير مفهومها حسب المكان و الزمان و الأشخاص. و لا يستطيع أحد أن ينكر أنه لا يوجد على الأرض كائن بشرى معصوم من الأمراض الجسدية أو الأمراض النفسية حتى لو تقبل البعض إمكانية حدوث الأمراض الجسدية و عدم قبولنا أو إعترافنا بالأمراض النفسية رغم وجودها بين ظهرانينا.

فإذا أوصلنا البحث – أو أى أبحاث – الى نتائج قد لا نرغب فيها فهل ندين و نستنكر و نرفض البحث و النتائج و يكون رد فعلنا عليهما الشتائم و السباب و الإتهامات بإزدراء الأديان الى غير ذلك من الممارسات النرجسية التى لا تهدف الى لا شيئ سوى إسكات من يتكلم من غير التابعين فلا يُسمع إلا رجع الصدى الصادر من حناجرهم و من ثم يئدون أى فكر مخالف أو مختلف فيُقتل العقل فتسهل قيادة المتبوع للتابعين فنغذى النرجسية التى فينا و تزداد أمراضنا أمراضاً؛ و أوجاعنا أوجاعاً و ألامنا ألاماً. و الأغرب من ذلك أنه عندما يصبح المرض جمعياً يتحول هذا المرض الجمعى الى مقياس للصحة النفسية و كل ما يخالف مقاييسنا و معاييرنا يصبح هو المرض نفسه.

عرفنا أن مرض إضطرابات الشخصية النرجسية (NPD) له أسباب جينينة حيوية يُطلق عليها العوامل الحيوية النفسية "الحيونفسية (psychobiology) حيث أن هناك رابطة قوية بين المخ و التفكير و السلوك، و أسباب بيئية ظرفية سلوكية (حسب ظروف النشأة أو التنشئة) و هى ما يهمنا فى هذا المقام حيث يمكن التدليل عليها من النصوص. و هى أسباب معقدة مركبة. فقد ينجم المرض عن عدم التوفقية (mismatches) فى علاقة الوالدين (الأب و الأم) بالطفل سواءاً كان بتدليلهما الزائد عن الحد أو النقد المفرط للطفل. أو بسبب غياب الرعاية الوالدية الواجبة و عدم وجود البيئة الأبوية الأمومية الحاضنة للطفل؛ وقد نخلص من ذلك الى أن النرجسية – أو مرض إضطرابات الشخصية النرجسية – ليست مرضاً عضوياً خالصاً و لا هى مرض نفسياً بحتاً بل هى خليط ناجم عن عوامل حيوية فى المخ و عن البيئة التى يعيش فيها الفرد و التعليم الذى يتلقاه و المعاملات التى يُعامل و يتعامل بها و الخبرات و التجارب التى صادفته أو التى وُضِع فيها.

و نحن نلاحظ أن متبوعى الأديان الإبراهيمية الثلاثة قد نموا فى بيئات تجمع بينها علاقات والدية/بنوية غير موفقة أو غير توفيقية (mismatches).

إن شخصية موسى فى حد ذاتها شخصية مثيرة للجدل من حيث كونها شخصية سوية نفسياً. فنحن فى (خروج 2: 1) نبدأ مع نشأة موسى بطريقة يكتنفها الشك و الغموض. فالأصحاح يبدأ بالتأصيل لنسب موسى حيث يذكر النص:

(1 وذهب رجل من بيت لاوي واخذ بنت لاوي. 2 فحبلت المراة وولدت ابنا.ولما راته انه حسن خباته ثلاثة اشهر.)

و على غير عادة سفر الخروج الذى يهتم بالأنساب و يركز على ذكر الأسماء نجد هنا لا ذكر لإسمى والدى موسى – لا ذكر لإسم أبيه و لا لإسم أمه – و لا الطفل يُعطى أسماً من قبل والديه رغم أنه مكث مع أمه ثلاثة شهور مخبأة إياه على عكس من نلاحظه فى الثقافة العبرانية من إهتمامها فى إختيار و إنتقاء الأسماء لمواليدها حتى قبل أن يُولدوا. بالإضافة الى أنه إذا كان موسى هو كاتب الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم و يذكر والديه فى صيغة نكرة – مجرد رجل و بنت من سبط لاوى – فإن الأستنتاج بوجود علاقة والدية/بنوية غير موفقة بين موسى و والديه يكون إستنتاج له ما يبرره.

و الأم تخبئ الطفل لأنه (حسن) أى جميل المنظر فلم يذكر سبب اَخر مباشر فى هذه المناسبة. فها هو نارسيس يُولد جميل المنظر بهى الطلعة يقع فى حبه كل من يراه. و لكن أمه تخبئه فلا يعلم أحد عنه شيئاً و الطفل لا يخرج الى بيئته ولا يتعلم منها أى شيئ. و لكن النص يجعلنا نربط تخبأته بسبب أمر ملك مصر – الذى لم يكن يعرف يوسف – للقابلات بقتل المواليد الذكور لبنى إسرائيل (خروج 1 : 16). و لكن القابلات لم يفعلن ما أمر به فرعون بحجة أن العبرانيات أقوياء و إنهن يلدن قبل وصول القابلة اليهن و من ثم يأمر فرعون شعبه كله أن يقوم بهذا العمل (خروج 1 : 22) أى أن على المصريين أن يعرفوا مَن مِن العبرانيات يكن حوامل ثم يترقبوا يوم الوضع فيدخل المصريون بيوت العبرانيين ليعرفوا ما إذا كان المولود العبرانى ذكراً أم أنثى فإن كان أنثى إستحيوها أما إذا كان ذكراً فيطرحونه فى النهر. و هى قصة غريبة على الثقافة المصرية القديمة التى تعشق الحياة أولاً و ثانياً فلم يكن ملك مصر بهذا التهافت و التفاهة لكى يتفق مع القابلات للتخلص من مواليد العبرانيين الذكور و هو ذو سلطة يستطيع أن يأمر أحد جنوده بالقيام بهذا العمل دون إعتراض من أحد. ثالثاً كما أن ملوك مصر لم يعانوا إطلاقاً من الفراغ حتى يجد أحدهم التسلية بالإتفاق مع قابلتين على قتل المواليد الذكور لبنى إسرائيل. فملوك مصر إن لم يكن منشغلين فى حروب لتأمين حدود مصر و الدفاع عن أراضيها ضد أى معتدى فأنهم ينشغلون بالبناء و المعمار و إلا ما كنا نرى حضارتهم متغلغة فى جميع أراضى مصر من البحر المتوسط شمالاً حتى بلاد النوبة و الشلال السابع جنوباً و من حدود مصر الشرقية (شرق سيناء) الى حدود مصر الغربية (ليبيا). و الأنكأ من ذلك أن يأمر فرعون الشعب نفسه بقتل أطفال العبرانيين الذكور و كأن الفرعون يأمر بحرب أهلية فى مصر و هذا ما لم يحدث أبداً فى تاريخ مصر الفرعونية من واقع السجلات فى البرديات أو النقوش التى تركها الفراعنة.

يبدو واضحاً أن الغرض من إختلاق أمر فرعون بقتل المواليد الذكور للعبرانيين هو محاولة نرجسية مبعثها الغيرة و الحقد (jealousy, envy, and malice) لتشويه متعمد للمصريين بصفة عامة و محاولة لتسفيه الشعب المصرى و تحقير انجازاتهم و حضارتهم و الحط من قدر فراعنة مصر و ما حققوه من تقدم فى مناحى الحياة المتنوعة كالطب و الهندسة و الفلك و العلوم. فالنص يصور الفرعون على أنه شخص متوحش و غبى فى نفس الوقت يأمر القابلات بقتل مواليد العبرانيين الذكور و القابلات يتلاعبن به و لا ينفذن أمره فيسخرن منه بالكذب عليه بمقولة أن العبرانيات قويات يلدن قبل وصول القابلة.

إن قصة أمر فرعون للقابلات بأن يقتلن كل مولود ذكر للعبرانيات و خوف أم موسى على وليدها موسى فتضعه فى سلة ثم تضع السلة بجانب النهر تتجلى عدم منطقيتها عندما نعلم أن هارون أخى موسى لم تصنع أمه به كما فعلت مع موسى مع العلم أن هارون أكبر سناً من موسى بثلاث أعوام فقط (خروج 7 : 7) و إن دل هذا على شيئ إنما يدل على وجود علاقة أبوية أمومية غير سوية بين الطفل موسى و والديه كانت هى البذرة الأولى فى نرجسيته. كما أن القصة تبدو محاولة من موسى بأن يقنع الاَخرين أنه أكثر من عانوا فى هذه الحياة منذ ولادته و أنه مطارد و مطلوب كطفل رضيع من قِبل ملك مصر و هو من هو حتى يربط نفسه بشخصية عظيمة مثل فرعون بل تكون العلاقة بينهما علاقة تحدى؛ كما أن القصة تنوه على أهمية الطفل و ما يمثله من فزع و رعب لشخصية ملك مصر الذى يقبض بيديه على زمام كل شيئ من سلطة و ثروة و جاه؛ و بذلك يدلل موسى على أهميته و يثير تعاطف التابعين و يضمن إلتفافهم حوله.

كما أن قصة أمر فرعون للقابلات بأن يقتلن كل مولود ذكر للعبرانيات تبدو غير متناسبة و غير متناسقة مع تاريخ ملوك و فراعنة المصريين الذين فى كل تاريخهم لم يتعاملوا حتى مع أسرى الحرب بطريقة لا إنسانية و لا مع أطفال أعدائهم بمثل هذه البشاعة. فإذا كان ملك مصر يخشى كثرة العبرانيين و إحتمالية إنضماهم الى أعداءه الذين يمكن أن يتوقعهم فى المستقبل كما يصور النص (خروج 1 : 10) فما الذى يمنعه من طردهم خارج حدود البلاد بدون أى متاع فيموتوا فى التيه أو حتى ما الذى يمنعه من إبادتهم إبادة جماعية و لن يجد من يقاومه أو يسأءله على ما يفعله. و لكن لم تكن تلك هى طبيعة الفراعنة و لا طبيعة المصريين بصفة عامة فهم يقدسون الحياة و يؤمنون بتعدد الألهة و يؤمنون بحرية الإنسان فى إختيار معبوده و عقيدة عبادته و هم يؤمنون بالعقاب و الثواب بعد الموت حسب ما إقترفت أيديهم فى حياة ما قبل الموت.

كذلك يمكن دحض قصة أمر فرعون للقابلات بأن يقتلن كل مولود ذكر للعبرانيات من كيفية تعامل إبنة فرعون مع الطفل (موسى) حين عثرت عليه. فإبنة فرعون تعرفت على أن الطفل من أولاد العبرانيين فرقت له و أخذنه (خروج 2 : 6 ) فهل كان لإبنة الفرعون أن تكسر أمر أبيها بقتل كل مولود عبرانى ذكر و تتحدى إرادة أبيها فتأخذ الطفل العبرانى و تنقذه و تربيه فى بيت الفرعون ذاته؟ و هل عندما أخذته الى بيتها خبأته و لم يعلم أحد بوجوده و لا حتى أبيها الفرعون؟ أو هل لم تكن تعلم بالأمر الصادر عن أبيها أطلاقاً؟ أو أن الحقيقة أنه لم يكن هناك أساساً مثل هكذا أمر من الفرعون بقتل المواليد الذكور من العبرانيين و هى قصة مختلقة لتبرير كراهية موسى للمصريين و حقده عليهم منذ بدايته؟ أن المقارنة بين سلوك أم موسى و سلوك إبنة فرعون يوضح الفرق بين مدى ما توصل اليه المصريين من صحة نفسية و رقى و تحضرالسلوك فى معاملة الأنسان لشخصه و ذاته و ليس لإنتمائه العنصرى و مدى التخلف و التردى الإنسانى فى بنى إسرائيل الذين يطلقون على أنفسهم شعب الله المختار.

و عندما التقطت إبنة فرعون السلة و وجدت الطفل الرضيع بداخلها أسرعت أخت موسى و عرضت على إبنة الفرعون إحضار مرضعة (أمه) فلما وصلت المرضعة (أمه) قالت لها ابنة فرعون اذهبي بهذا الولد وارضعيه لي وانا اعطي اجرتك. فاخذت المراة الولد وارضعته (خروج 2 : 9). و هنا يريد النص أن يبرز سذاجة أبنة فرعون فالنص يحقر الاَخر ليجعل من عملهم الإنسانى إضحوكة عليهم مقابل ذكاء العبرانيات و كيف إحتالت عليها أخت الطفل و أمه لتبتزا إبنة الفرعون لتعاطفها مع الطفل بأن تُرضع الطفل (إبنها) و تتقاضى أجر عن ذلك. فهل يوجد إستغلال (exploitation) للاَخرين و وقاحة (shamelessness) و عدم إحساس بالخجل أكثر من ذلك.

ومن النص (خروج 2: 1) نستطيع أن نستنتج أن موسى هو الإبن البكر لأبيه و أمه أى أنه أول إخوته فى الزمان و المكان و الحقيقة غير ذلك تماماً لإننا نجد فى نفس (خروج 2: 4) أن موسى له أخت تكبره و التى كانت تقف قريباً من موضع السلة التى وضعته أمه فيه لتراقب ماذا يُفعل بأخيها: (4 و وقفت اخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به). كما نعلم لأول مرة فى (خروج 4 : 14) أن لموسى أخ أسمه هارون (14 فحمي غضب الرب على موسى وقال اليس هرون اللاوي اخاك.انا اعلم انه هو يتكلم.وايضا ها هو خارج لاستقبالك.فحينما يراك يفرح بقلبه.) و لا يمكن القول أن علاقة الأخوية بين موسى و هارون هى علاقة مجازية حسب الثقافة العبرانية بل هى علاقة أخوية بيولوجياً عندما يأتى ذكر نسب موسى و هارون بتفصيل أكثر فى (خروج 6 : 16 – 20) حيث نعلم لأول مرة أن إسم والد موسى هو (عمرام) و أن أسم أمه هو (يوكابد) و أن هارون أخ شقيق لموسى. و يتلخص النسب فى أن لاوى – أحد أسباط يعقوب الإثنى عشر – ولد ثلاثة أبناء من بينهم (قهات) الذى ولد (عمرام) الذى تزوج عمته (يوكابد) و التى ولدث له هارون و موسى. فموسى لم يكن الأبن البكر لأن هارون يكبر موسى بثلاث أعوام كما جاء نصاً فى (خروج 7 : 7): (7 وكان موسى ابن ثمانين سنة وهرون ابن ثلاث وثمانين سنة حين كلما فرعون.) فالنص هنا (خروج 2: 1) أيضاً يعطى موسى أسبقية فى الزمان و المكان و المكانة و ذلك بإهماله و عدم ذكر حدثى ميلاد الأخ و الأخت الأكبر سناً ليكون التركيز على موسى فقط.

و لما كبر الطفل (موسى) أحضرته و سلمته أمه الى إبنة الفرعون ليكون لها إبناً و أعطته اسم (موسى) الذى يعنى (انتشلته من الماء) (خروج 2 : 10) و رغم أن موسى تربى فى بيت الفرعون و أتخذته أبنة فرعون كأبن لها و إضطلع موسى على حكمة المصريين بما فى ذلك كتابة و قراءة الرموز الهيروغليفية إلا أن ذلك لم يخفف من عنصريته و كراهيته للمصريين. فعندما شب عن الطوق حدث أنه كان يمر فى المنطقة التى كان يعيش فيها العبرانيون – أرض جاسان و رعمسيس (تكوين 46 : 33) و (تكوين 47 : 11) – فرأى رجلاً مصرياً و رجلاً عبرانياً يتشاجران – و بدلاً من أن يصلح ذات البين بينهم بالحسنى – فما كان من موسى (المختار من الله ليكون نبياً) ألا أن قتل المصرى و طمره فى الرمال (خروج 2 : 11) لتكون جثة الرجل المصرى هى أول الطريق ليبدأ زعامته للعبرانيين و سلطته عليهم. و فى اليوم التالى رأى نفس الرجل العبرانى الذى من أجله قتل المصرى يتشاجر مع رجل عبرانى اَخر فأراد موسى أن يتدخل بينهما فما كان من الرجل العبرانى الأول و هو المعتدى أو المذنب أن قال لموسى (من جعلك رئيسا وقاضيا علينا؟؟ امفتكر انت بقتلي كما قتلت المصري؟؟) فهل هناك شك فى أن ما فعله موسى هو دليل على تعطشة للسلطة و الهيمنة على الاَخرين فأنتقى أشخاص تخيل له أنهم ضعفاء ليضمن سيطرته عليهم بسهولة فلما وجد من أحدهما أبسط مقاومة فر هارباً، و لأن النرجسى ضعيف فى قرارة نفسه هرب موسى الى أرض مديان لأنه علم أنه مطلوب للعدالة من قبل الفرعون (خروج 2 : 13).

و عند بئر فى مديان التقى ببنات كاهن مديان اللائى كن يستقين الماء فأظهر شهامة و رجولة ليجذب الأنظار إليه بصفة عامة بأن قدمهن على بقية الرعاة و هكذا نصب نفسه حكماً ليحدد ترتيب من يستقى من البئر و يجذب إنتباه الفتيات (كأى شاب). فما كان من الفتيات أن يخبرن والدهن رعوئيل كاهن مديان الذى طلب منهن أن يدعين الرجل ليتناول طعاماً فمكث موسى عند رعوئيل (يثرون) حميه بعد أن زوجه صفورة إحدى بناته (خروج 2 : 16-21) و كان موسى يعمل راع لغنم حميه يترون (خروج 3 : 1). و بالطبع وجد موسى ملاذاً اَمناً و إقامة مجانية و عائلة و حماية تامة عند حميه (رعوئيل أو يثرون) الكاهن و بالطبع فإن الكاهن المصرى القديم كان من ذوى السلطة و ذوى الشأن ليتخذه النرجسى عضداً له و أستغلاله ليتعلم أصول و مبادئ الكهانة التى سوف يمارسها على تابعيه فيما بعد.

عندما بدأت أعراض النرجسية فى الظهور عند موسى كانت أول خطوة فى خطته لسيطرته على أهله و عشيرته هى دعوة شيوخ و كبار بنى أسرائيل لتأييده (خروج 3 : 16) و إغرائهم بالأرض التى تفيض لبناً و عسلاً؛ و لكن الخوف من عصيان الناس أو عدم طاعتهم له هو الذى جعله يتردد أمام نفسه (الهه) (خروج 4 : 1) و من ثم يلجاء الى إستخدام السحر (يحول عصاه الى ثعبان و يده الى (برصاء) بيضاء و الماء الذى يصبه على اليابسة الى دم) خروج (3 : 3 الى 9). و رغم هذا فموسى لا يثق فى نفسه كأى نرجسى فيريد أن يكف عن المحاولة فيخاطب إلهه (نفسه) مظهراً حدود إمكانياته الضعيفة فهو ليس صاحب كلام بل ثقيل الفم و اللسان (خروج 4 : 10) بل تصل به صراحته مع (الهه) نفسه الى حد الفجاجة فيقول "... ارسل بيد من ترسل" (خروج 4 : 13) بالعامية "إبعت اللى تبعته بس سيبنى فى حالى يا عم" و هو خطاب ينم عن عدم ثقة فى النفس أكثر مما يعبر عن حيطة و حرص و ينم عن وقاحة أكثر من الخوف من تحمل المسئولية. فتفتق ذهن موسى عن إستخدام (إستغلال) أخيه هارون الأكبر منه سناً لكى ينشر الدعاية له و يكون له فماً (بوق) و يكون موسى إلهه (خروج 4 : 16).

فنحن عندما نقرأ فى سفر الخروج مثلاً نجد إله العبرانيين ولهاناً بموسى و شعب بنى إسرائيل و هم أصلاً لا يعرفونه و لا يبحثون عنه؛ و فى المقابل نجد قدماء المصريين هم الذين يبحثون عن إله أو الهة و نجد لهم تصور راق عن ذلك الإله و تلك الألهة و عن الحياة ما بعد الموت و الحساب و العقاب؛ و لكن "الله فى الأديان الإبراهيمية" لا يكشف عن ذاته لهم، بل يكشف عن ذاته لموسى فقط (خروح 3 : 6) ليقود شعب إسرائيل و يخرجهم من أرض مصر بعد أن مَثَّل بشعبها فيما يُعرف بالضربات العشر (خروج 3 : 20) لكى يستولوا على أرض ليست لهم (خروج 3 : 17) و الأغرب من ذلك أن الله يحرض نساء بنى إسرائيل على سلب ملابس و أمتعة و حُلى و مجوهرات الذهب و الفضة من المصريات (خروج 3 : 22) و (خروج 11 : 2) و (خروج 12 : 36). و عندما رفض فرعون أن يُطلق بنى إسرائيل لم تكن هكذا طبيعته بل ان الله وعد موسى بأنه سوف يُقسَّى قلب فرعون (خروج 7 : 3) فيرفض أن يُطْلق بنى إسرائيل و بالتالى يجد أله موسى مبرراً (justification) ليزيد الله تمثيلاً و تنكيلاً و إنتقاماً ليس من الفرعون فقط بل من الشعب المصرى الغلبان الذى ليس له فى الطور و لا الطحين فى كل ما يحدث من هذه التمثيلية الهزلية.

إن حقد و كراهية النرجسى لا تقف عند حدود معينة. فموسى يريد دعم و تأييد الاَخرين من أهله و عشيرته و فى نفس الوقت يحتقرهم فى مكنون نفسه و لأنه لا يستطيع إظهار ذلك لهم حول حقده و إحتقاره على المصريين الذين بكل المقاييس هم أرقى و أفضل فوجد ملاذه فى الضربات العشر لكى يعلن بذلك ليس عن حقد دفين بل عن جحود عظيم و نكران بشع للجميل. ففى الضربة الأولى يحول إله العبرانيين ماء النهر و كل المياه الى دم و تموت الأسماك و يجوع و يئن و يتألم الشعب المصرى (خروج 7 : 17) و إله موسى يبتسم و يشعر بالرضا و السعادة. و توالت ضربات إله موسى على المصريين بعد ذلك بالضفادع (خروج 8 : 6) و ضربة البعوض (خروج 8 : 16) و ضربة الذبان (خروج 8 : 21) و ضربة المواشى (خروج 9 : 3) و ضربة الغبار و الدمامل (خروج 9 : 9) و ضربة البرد (خروج 9 : 18) و ضربة الجراد (خروج 10 : 12) و ضربة الظلام (خروج 10 : 21) و ضربة قتل أبكار المصريين (خروج 11 : 4) و (خروج 12 : 29). و فى كل ضربة يتزلل الفرعون لموسى فيتصل الأخير بإلهه الذى يرفع الضربة و فى الوقت نفسه يُقَسِّى قلب فرعون فلا يطلق شعب إسرائيل حتى تكون مبرراً له ليمارس ضربته التالية.

إن النرجسى يعانى من نقاط ضعف فى شخصيته و فى نفس الوقت يخبئ نقاط ضعفه و راء تظاهره بثقة مفرطة فى ذاته. فها هو موسى يكشف لإلهه الذى دعاه لقيادة شعب بأكمله عن نقاط ضعفه .. فهو خجول لا يستطيع الكلام أمام شعبه أو أمام فرعون فما كان من إلهه إلا أن يكشف له عن بعض الألعاب السحرية التى قد يكون موسى قد تعلمها من المصريين و تفوق عليهم فيها لكى يثبت لمن يريدهم إتباعه أنه مرسل من الله (خروج 4 : 1 الى 17) حتى يؤمنوا به بل أن موسى أراد أن يكون له سنداً و عضداً فأختار له الهه أخيه هارون و الغريب أن اله موسى يُنشئ علاقة غير سوية بين الأخوين فيقول (وهو "هارون" يكلم الشعب عنك.وهو يكون لك فما وانت تكون له الها.) (خروج 4 : 16) و هكذا يتحول هارون الى مجرد صدى لنارسيسس. بل ان موسى يكرر نفس المقولة على لسان الهه فى (خروج 7 : 1) فيقول: (فقال الرب لموسى انظر.انا جعلتك الها لفرعون.وهرون اخوك يكون نبيك). و هكذا يصبح النرجسى و إلهه شخصية واحدة لتندمج شخصية الإله فى شخصية النرجسى فيفقد الإله – وليس النرجسى – خصوصيته.

و الذى يقرأ النصوص الدينية بعين فاحصة و ناقدة يعلم جيداً أن بنى إسرائيل لم يكونوا عبيداً أو مسخرين فى مصر و هو المبرر الذى أعطاه موسى لنفسه بالنص حتى يمارس عليهم سلطته. و الدليل على ذلك أن بنى إسرائيل لم يرغبوا فى الخروج من مصر. بل تمردوا على موسى لإخراجهم من مصر و إعتقدوا أنما أخرجهم ليموتوا فى البرية (خروج 14 : 11) و (خروج 15 : 24) بل و ندموا على خروجهم من مصر حيث كانوا يعيشون معيشة رغدة و يأكلون اللحوم فى القدور (خروج 16 : 2)؛ بل أن بنى أسرائيل خرجوا من مصر و معهم معداتهم الحربية و الدليل على ذلك خوضهم أول حرب فى البرية مع عماليق و إنتصارهم على عماليق بعد خروجهم من مصر (خروج 17 : 8).

فمصر كانت تؤمن بتعدد الألهة بل كان لكل منطقة جغرافية الهها الخاص بها و المعترف به من الفرعون نفسه و نادراً – إن لم يكن مطلقاً – ما كان يحدث فى مصر الفرعونية أى إضطهاد بسبب الدين. و حتى فراعنة مصر لم يدّغ أحد منهم الإلوهية المطلقة و كل ما كان يدعيه الفرعون أنه إبن من ابناء الألهة أو صفة من صفاته أو فعل من أفعال الإله كما نعرف من أسمائهم. فالإسم فرعون يعنى "البيت الكبير او العظيم" و رمسيس يعنى "إبن رع" أو "حقيقة رع العظيمة" و اخناتون يعنى "الروح الحية لآتون" و أمنحوتب يعنى "أمون راضى" و خوفو يعنى "خنوم يحمينى" و خفرع يعنى "فليشرق رع" و منكاورع يعنى "فلتبق دلائل أو قرائن رع" و أمنمحات تعنى "أمون فى المقدمة" و مرنبتاح يعنى "محبوب بتاح" و هكذا. إن قرأة فى إحدى نصوص كتاب الموتى تبين الى أى مدى كان المصرى القديم حريصاً على إقامة العدل و الطهر و العفاف فهذا النص من كتاب الموتى هو دعاء أو ما يُسمى بـ"الإعتراف بالنفى" يدافع به الميت عن نفسه عند محاكمته أمام محكمة تتكون من أربعين إلها. يقول الميت لهيئة المحكمة:

السلام لكم أيها الإلهة العظام .. سيدتى إلهة الحق "ماعت" .. لقد جئتكم ياإلهتي خاضعا لأشهد جلالكم .. جئتكم ياإلهتي متحليا بالحق .. متخليا عن الباطل .. فلم أظلم أحدا .. ولم أسلك سبيل الضالين .. لم أحنث في يمين .. ولم تضلني الشهوة .. فلم تمتد عيني لزوجة أحد .. ولم تمتد يدي لمال غيري .. لم أقل كذبا .. ولم أكن لكم عصيا .. ولم أسع في الإيقاع بخادم عند مخدومه.. إني (يا إلهتي) لم أتسبب فى جوع أحد .. ولم أكن سبباً فى بكاء أحد .. وماقتلت .. وماغدرت .. بل وما كنت محرضا على قتل .. إني لم أسرق من المعابد خبزها .. ولم أرتكب الفحشاء .. ولم أدنس شيئا مقدسا .. ولم أغتصب مالا حراما .. ولم أنتهك حرمة الأموات .. إني لم أبع قمحا بثمن فاحش .. ولم أغش الكيل .. أنا طاهر .. أنا طاهر .. أنا طاهر .. وما دمت بريئا من الأثم، فاجعلوني ياإلهتي من الفائزين.

إن أول من كان يُوضع لهم كتاب الموتى فى توابيتهم هم فراعنة و ملوك مصر ... و نحن نتسأل هل هنا فى مجتمعاتنا المتدينة بأى من الأديان الإبراهيمية مثل هكذا أخلاق ... أن إشارة واحدة لما فعله بنو العباس فى جثث قبور بنى أمية تجعلنا ندرك مدى الإنحطاط الخلقى و الأخلاقى التى وصلت له البشرية و هى تتسربل بلباس الدين السماوى. عندما نقارن نص "الإعتراف بالنفى" من كتاب الموتى و نقارن نص الضربات العشر المذكورة بشواهدها فى سفر الخروج يتضح لنا كم الحقد و الكراهية التى تعتمل فى صدر مصدر النص التوراتى. فإله موسى يحرض على سرقة وسلب ممتلكات المصريين بل يعلمهم كيف يسلبون و يسرقون بأمره لهم أن يسلبوا ما علت قيمته و خف وزنه (الذهب و الفضة)؛ بينما المصرى القديم يقف أمام الهته و يتحدى بأن يده لم تمتد الى مال غيره و لم يتسبب فى جوع أحد و لا بكاء أحد و ما غدر بأحد .. و لم يقتل بل لم يكن أبداً محرضاً على قتل أحد .. و لم ينتهك حرمة الموتى .. و لم يبع قمحاً بثمن فاحش ... و موسى يجعل من شعبه ناكراً لجميل المصريين عندما أووهم و أطعموهم و أنقذوهم من الموت جوعاً.

دمتم بخير و سلام.
رمسيس حنا



#رمسيس_حنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة فى النرجسية الدينية
- تأصيل النرجسية (Narcissism) فى تطور السلوك الإنسانى
- النرجسية (Narcissism) أو أضطرابات الشخصية النرجسية (NPD)
- إسطورة صَّدَى و نارسيسس (Echo and Narcissus)
- السامى اللبيب يكشف عن عقدة كراهية المرأة (Misogyny)
- من الذى يدفع الثمن؟ فورة الغضب
- السامى اللبيب و التأصيل العلمى و النفسى لثقافة الأديان السال ...
- من الذى يدفع الثمن؟ 2 -الإكذوبة الكبرى-
- من الذى يدفع الثمن؟ 1
- من هو الله الذى يدحض وجوده السامى اللبيب؟
- أنياب الذاكرة -شعر-
- تأملات فى السقوط 3
- تأملات فى السقوط 2
- تأملات فى السقوط 1
- الفلاح و التلميذ
- الرافض للحقيقة (قصة قصيرة)
- -موسرب- أو الفلاح المصرى الذى مات واقفاً -قصة قصيرة-
- الى إمرأة غانية (شِعر)
- إعتذار لسيدتى العراقية (شِعر)
- تباريح وطن (شِعر)


المزيد.....




- أحد قاطنيه خرج زحفًا بين الحطام.. شاهد ما حدث لمنزل انفجر بع ...
- فيديو يظهر لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريب ...
- بسبب محتوى منصة -إكس-.. رئيس وزراء أستراليا لإيلون ماسك: ملي ...
- شاهد: مواطنون ينجحون بمساعدة رجل حاصرته النيران داخل سيارته ...
- علماء: الحرارة تتفاقم في أوروبا لدرجة أن جسم الإنسان لا يستط ...
- -تيك توك- تلوح باللجوء إلى القانون ضد الحكومة الأمريكية
- -ملياردير متعجرف-.. حرب كلامية بين رئيس وزراء أستراليا وماسك ...
- روسيا تخطط لإطلاق مجموعة أقمار جديدة للأرصاد الجوية
- -نتائج مثيرة للقلق-.. دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت
- الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف أهداف لحزب الله في جنوب لبنان ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - رمسيس حنا - النرجسية الموسوية