أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رمسيس حنا - الفلاح و التلميذ















المزيد.....

الفلاح و التلميذ


رمسيس حنا

الحوار المتمدن-العدد: 4615 - 2014 / 10 / 26 - 09:52
المحور: الادب والفن
    


الفلاح و التلميذ
"رمسيس حنا"

لم يكن هناك ما يجمع بين التلميذ الطفل الذى لم يتعدى سن الحادية عشر و بين الشاب الفلاح اليافع سوى اصول العائلة من الجد الأكبر، و بعض التعاطف الذى نشأ فى نفس الطفل إثر حريق نشب فى القرية أتى على منزل الفلاح الشاب "صابر فهيم" ضمن ما اتى عليه الحريق من الأخضر و اليابس فى جزء كبير من القرية يبلغ ثلثها بالإضافة الى إثنى عشر ضحية من البشر الفقراء.

كشف الحريق عن غطاء الستر الذى كان يسدله اناس كثيرون على حالات الفقر و المرض و ضيق العيش و ضيق ذات اليد فى القرية. و كشف الحريق أيضا عما كانت تعانيه القرية و المركز التابعة له من إهمال من قبل الحكومات المتعاقبة رغم قوانين الأصلاح الزراعى التى سُنت فى الستينات من القرن العشرين و التى لم تطال أحداً من القرية سواء بالسلب أو الإيجاب من قريب أو من بعيد. و رغم ذلك كانت حسنة الثورة الجلية فى القرية هى إنخراط بعض أطفالها فى التعليم العام المجانى. و لكن هذا لا يعنى ان القرية لم يكن لها جهودها الذاتية حتى من قبل الثورة فى تعليم ابنائها. كان هناك نظام الكتاتيب. فقد كان كُتّاب الجامع فى القرية يقوم بتحفيظ الأطفال القراًن و تعليم مبادئ القرأة و الكتابة و الحساب على الواح من الصفيح ... و كذلك كُتّاب الكنيسة الذى يقوم بتعليم الأطفال و حتى الكبار بعض الألحان الكنسية و مبادئ القرأة باللغة العربية و اللغة القبطية و مبادئ الكتلبة و الحساب باللغة العربية. و كان لأولياء أمور الأطفال الحرية التامة لإلحاق أطفالهم فى أى من الكُتّابين.

كان الفلاح "صابر فهيم" هو أحد الذين تلقوا تعليمهم فى كتاتيب القرية... هو شخصيية مختلفة لمن يعرفه جيداً... فيه عزة و كرامة و شمم و إباء دون كبرياء... هو فى الواقع فلاح و فى تعامله كأنه "أفندينا"... مبتسم دائماً رغم كل الظروف الصعبة و القاسية حوله... غير راض تماماً على الأوضاع و الظروف و لكن لا يشكو أبداً... تعلو وجهه إبتسامة دائمة كأنه يعب من الحياة دسمها... فلاح فقير ككل الفلاحين الذين طالهم الحريق و دمر منازلهم و لكنك تراه كالطود الشامخ و منبسط كالسهل الأخضر... أنيق فى ملبسه كأنه أحد أثرياء القرية... بسيط فى تعامله كأنه طفل قادم لتوه الى الدنيا... عندما يقابلك تبتسم عيناه قبل شفتيه... و يتحدث اليك كأنك صديق قديم حميم حتى و لو كانت أول مقابلة... فى تعامله مع من هم أكبر سناً منه تجده فى غاية الأدب... لا يخاطبهم إلا بلقب "يا عم فلان"... و فى خطابه مع من أصغر منه سناً كأنه يتعامل مغ أخيه الأصغر. لم يسمعه أحد يغتاب أو ينم على أى أحد. وفى كل هذا كان اسمه وصف دقيق لشخصه...

أما والدته كانت السيدة التى يجد فيها أطفال القرية أماً رؤوماً وهى تتعامل معهم كما لو كانوا ابنائها. و كنت ترى فى عينيها نظرة استشراقية أن هؤلا الأطفال هم أمل المستقبل و عُدته الذين لا ينبغى أن يعترض طريق نجاحهم حقد أو شنئان ذوى العقول المتحجرة... كان الأطفال يشعرون بالرضا و الأرتياح عندما يطالعهم و جه "ام صابر" و دعاها لهم بالنجاح و الفلاح الذى كان يسمعه الأطفال حتى يغيبوا عن ناظريها و هم يمرون أمام البيت فى طريقهم الى المدرسة فى المدينة أو المركز. لم يُعرف أو يُسمع عنها انها تكره أحداً و لم يُسمع صوتها إلا بالدعاء لأطفال القرية خاصة و أهل القرية بصفة عامة. و عندما كان يختلف أحد من الأطفال مع امه و ياخذه العناد و لا يأخذ بنصيحتها و تغضب الأم على ابنها من "شقاوته" كانت "أم صابر" تذهب الى أم الطفل و تنصحها بالصبر و معاملة اللين و الهدؤ مع طفلها... و الغريب أن ما يرفضه الطفل من أمه كان يقبله من "أم صابر"... هكذا كانوا يعرفونها... لم يعرف أحد اسمها أبداً لأن الجميع ينادونها بـ"أم صابر" كعادة أهل القرية جميعاً مع نسائها.

فى هذه القرية الرجال يحترمون النساء جداً... من النادر جداً ان تسمع عن أحد الرجال يتطاول على زوجته أو يضربها... و لو حدث كانت تعتبر من الحالات الشاذة و التى لا تستمر طويلاً لأنها كانت تُعتبر فضيحة و عار على الرجل... لم يُسمع عن حالات طلاق إلا نادراً... و حالات الطلاق النادرة التى تمت كانت من أجل مشكلة عدم الأنجاب أو العقم التى تكون لدى النساء أو الرجال... كانت المشاكل الأسرية تُحل داخل إطار الأسرة و لا تخرج عن نطاقها و إن حدثت و خرجت المشكلة عن نطاق الأسرة كان يتم إحتواءها بطريقة سريعة من قِبل ذوى الشأن بغض النظر عن الدين... كان المبدأ السائد أن الرجولة لا يمكن أن تُمارس على إذلال إمرأة و لكن الرجولة هى مقدرة الأنسان على إستيعاب ضعف زوجته وقوتها و ضعف الاَخرين و قوتهم و ما يستطيع الرجل أن يقدمه لبيته و للأخرين... الرجولة هى المقدرة على التعامل بين راشدين بما لهما من صبر و إحتمال و قبول للاَخر.

كان التلميذ الطفل يسير على يمين "صابر" عندما إصتدمت يد التلميذ بشيئ فى الجيب الأيمن لجلباب "صابر". فما كان من التلميذ إلا أن سأل الفلاح "صابر":

- ما هذا الذى بجيبك يا "عم صابر"؟

نظر "صابر" الى الطفل الذى يسير بجواره و قد ظهرت على وجهه ملامح الحيرة و الأرتباك... هل يوبخ الطفل لأنه يسأل عما فى جيبه كأنه "حرامى" يتحسس جيوب الناس فى إزدحام سوق الخميس ليتأكد أن غنيمته من النوع لذى يخف حمله و تعلوا قيمته كسُّرة مجوهرات أو نقود... أو هل يفترض حُسن النية فى الطفل و يجيبه على قدر سؤاله فقط عله يعرف نية الطفل و مكنونات قلبه؟؟... أو هل يتعامل معه بقتل غريزة حب الإستطلاع حتى لا يسأل الطفل عما ليس له فيه شأن فيريح ويستريح؟؟... أو هل الطفل يعرف ما فى جيب "صابر" و لكنه يسأل كما سأل السائل "ما هذه التى بيمينك؟"... و فجأة توقف الفلاح "صابر" و أوقف الطفل أمام بوابة كنيسة القرية و أسند ظهره الى بوابة الكنيسة قابضاً بيده اليسرى على إمتداد زراعه بأحد قضبانها الحديدية بحيث كان الطفل قبالته، و قال له:

- أنه كتاب... هل تريد أن... ؟؟

و قبل أن ينهى صابر سؤاله قفز فى عينى الطفل طلب يريده من "صابر" و لكنه أحس أن فارق السن بينهما لا يسمح له بأن يتجرأ و يطلب منه... كما أن الشك داخل عقل الطفل فى أن "صابر" يمكن أن يلبى طلبه قد الجم لسانه الى حين... كان الطفل يفكر هل لمثل هذا الرجل الشاب أن يهتم بطلب ما لطفل صغير أو لتلميذ "إبن مدارس"...؟؟ و ما هو مفهوم "ابن المدارس" عند "صابر"؟؟... هل "إبن المدارس" هو ذلك الطفل "المُدَلَّل" أو "المُدَلَّعٌ"؟؟... و كاد أن يتولد فى الطفل شعور سلبى تجاه المدرسة التى تكبحه تعاليمها عن أن يسأل من هم أكبر منه سناً... نظر "صابر" بعينين فاحصتين فى وجه الطفل و أمتنع عن تكملة سؤاله الذى كان – لو أكمله – يمثل نقلة للطفل من عالم الطفولة الى الشباب و الرجولة... و إنتظر "صابر" متوقعاً أن الطفل سوف ينفجر بسؤال أو بإجابة على سؤاله أو عرضه الذى لم يكتمل... فقال الطفل:

- نعم يا "عم صابر" أريد أن... أن... أقصد هل يمكن أن تسمح و ترينى الكتاب؟

تهللت عينا "صابر" و ظهرت فيهما لمعة الإنتصار لتحقيق نبؤة أو توقع يشعر بهما بالفارق بين الذين يقرأون و الذين لا إهتمام لهم بالقرأة... أنه الاَن يستطيع ان يستكشف سرائر الناس و من ثم يستطيع أن يتنبأ بسلوكياتهم... هذه المهارة أو المقدرة جعلت "صابر" يعرف حدود و إمكانيات من يتعامل معهم فلا يحط من قدرهم و من ثم لا يثير الكراهية فى قلب أحد منهم... و أخرج "صابر" الكتاب من جيبه كأنه يخرج قطعة من الماس الثمين التى يخشى عليها صاحبها من العابثين أو التجار الذين يبخسون النفائس قيمتها لعدم معرفتهم بطبيعة المعادن... أو كأنه يخرج قطعة سلاح غير مُرَخَص له حمله.

تلقف الطفل الكتاب من يد "صابر" و وقعت عيناه على عنوان الكتاب فأخذته النشوى دون أن يدرى و هو يتعامل مع الكتاب بين كفتيه كأنه يتعامل مع طفل صغير أو كأن الجمال هبط من وراء الطبيعة ليحط على راحتيه... قرأ الطفل اسم الكتاب بصوت الهمس المسموع... "الشريد"... ثم قرأ على الجانب الأيمن أعلى غلاف الكتاب "روايات الجيب" ثم قرأ السطر الذى يليه "ترجمات الأداب العالمية". رفع الطفل عينيه الى "عم صابر"... ثم نظر الى عنوان الكتاب... و تناوبت عيناه النظرات الى عينى "عم صابر" و عنوان الكتاب... لم ينبث الطفل بعد ذلك ببنت شفة... و لكن قناة التواصل العقلى التى فتحها الفلاح "صابر" بينه و بين التلميذ هدمت كل حواجز الأدب و الأحترام المصطنعة... و قفزت فى عقل الطفل فكرة التواصل و التفاعل و المحاججة مع الاَخرين هى مفهوم الأدب و الأحترام... و علم "العم صابر" ما يدو بخلد التلميذ الصغير... و لكنه كان يريد التلميذ ان يعبر بنفسه عما يريد. فسأله "العم صابر":

- هل تريد أن تسأل عن اى شيئ؟؟...

بهذا السؤال هدم "عم صابر" ما تبقى من حواجز... و فتح أبواب مغلقة للسؤال... "ما؟؟"... و "ماذا؟؟"... و "لماذا؟؟"... و "كيف؟؟"... و التخاطب المجرد بـ"انت"... فانفكت عقدة لسان الطفل:

- لماذا انت تقرأ مثل هذه الكتب يا "عم صابر"؟؟... ما هى حاجتك للقرأة و أنت... و انت... فلاح؟؟...

سؤال توقعه "صابر" من كل الذين تكتنفهم غطرسة معرفة المطلق... و لذلك كان يتجنب النقاش معهم... و لكن لم يتوقعه أبداً من تلميذ المفروض فيه أن يكون طالب معرفة دائم لا يتوقف طلبه عند تحصيل كم معين من المعرفة و لا عند بلوغه سن معين ... و طلب المعارف العامة و السعى ورائها لا يحده نوع العمل أو الوظيفة التى يمارسها الشخص... و القراءة ليست رفاهية تفكير كما يظن البعض... و لكنها ضرورة حياة... و القرأة هى وسيلة الفقراء الوحيدة حتى يروا العالم و يتعرفوا على دروبه و مسالكه... كيف يستطيع "صابر" ان ينقل هذا المفهوم الى هذا الطفل المغرور... صمت "صابر" قليلاً و هو ينظر فى عينى الطفل و أخذته لحظة شفقة على الطفل... هل ينهى الحديث و ينصرف... أم ينقل الطفل من مستنقع الغطرسة الواهم؟؟... و بهدوء دخل "صابر" الى منطقة مشتركة للبشر جميعهم بغض النظر عن السن او النوع او الجنس او العمل. فسأل الطفل:

- لماذا تتناول ثلاث أو أربع وجبات من الطعام يومياً؟؟...

لم يرد الطفل على السؤال و لكنه أظهر فهماً عميقاً للموقف و ماذا يريد "العم صابر" أن ينقله اليه... فقال التلميذ:

- هل تريد أن تقول أن الطعام هو غذاء الجسد... أما المعرفة فهى غذاء العقل و الروح؟؟

لقد و صلت الرسالة الاَن... و لكن لا زال ما يهدف اليه "صابر" لم يتحقق بعد... هناك جدلية العرض و الطلب... و "صابر" لا يريد أن يكثر من العرض حتى لا تقل قيمة البضاعة... أنها لعبة الأطفال... اسحب المطلوب من السوق... ثم إعرض البديل... اما هنا لا سوق و لا بديل

- إعطنى الكتاب من فضلك فأنا ذاهب الى البيت.

قالها "صابر" لكى يستفز عقل الطفل فينطق بما يحتويه... و هو يعلم أنها الفرصة الأخيرة لطفل تعز عليه نفسه أن يطلب شيئاً من أحد... حتى و لو كان قد تعلم من جده انه لا تثريب على الشخص إن كان جائعاً أن يطلب طعاماً من جاره فى الحقل... تردد الطفل و الكلمات لا تجد طريقها عبر حنجرته و لم تقدر أنفاسه أن تهز حباله الصوتية لتشكل و تنطق صوت الكلمات... ثم بدأ الطفل متلعثماً كأنه ينطق أصوات حروفه الأولى... و فجأة إندفعت الكلمات متدفقة و ليحدث ما يكون:

- هل يمكنك أن تعيرنى هذا الكتاب؟؟... أو بالأحرى هل يمكننى أن أستعير منك الكتاب؟؟

فرد صابر على الفور كأنه كان ينتظر هذا الطلب من الطفل...

- و هل هناك فرق بين ما اذا كنت أسلفك أو أعيرك و أنت تستلف أو تستعير؟؟

فرد الطفل بسرعة كأنه نداً لـ"صابر" فى غير قلة أدب :

- أعتقد أن الأولى تعبر عن إستعدادك و تفهمك لموقفى... و الثانية تعنى أستعدادى لتحمل المسئولية و رغبتى فيما أطلبه منك...

رغم أن الطفل لم يدخل فى المسائل النحوية كأن يكون الفعل الأول متعدى لمفعولين و الثانى متعدى لمفعول واحد، و لكنه استطاع أن ينقل العواطف التى تكمن وراء كل استخدام لكل فعل... و هنا تأكد "صابر" أنه وجد الطفل اهل للثفة وانه الشخص الذى يستطيع أن يتعامل مع الكلمة و يمكنه تفعيلها... و لكن "صابر" أراد أن يتعامل مع الطفل من منطلق الفعل الثانى حتى يتحمل الطفل المسئولية كاملة ففال له:

- ثمن هذا الكتاب عشرون مليماً... يعنى "قرشين صاغ"... و لابد أن تدفع نصف هذا المبلغ أى عشرة مليمات أو "قرش صاغ" لتأمين الكتاب حتى تعيد الكتاب بالحالة التى استلمته عليها... و إلا سوف يضيع عليك التأمين... أو أن تشترى نفس الكتاب و ترجعه لى.

لم يتردد الطفل فى قبول شروط "صابر" و همَّ بالإسراع الى البيت لكى يحضر لـ"صابر" "القرش صاغ"... و لكن "صابر" سأله من أين يُحضر المبلغ فكان رد الطفل انه سوف يأخذه من أمه، و لكن "صابر" رفض ذلك و طلب منه الا يُدخل أحداً فى الأمر... بل يجب أن يكون الدفع من مصروف الطفل الخاص... و سمح له "صابر" بالاحتفاظ بالكتاب من عصر يوم الخميس حتى عصر يوم السبت.

توجه الطفل الى منزله و هو يخبئ الكتاب تحت إبطئه داخل الجلباب... و صعد الى حجرته مباشرة... و أخرج رواية "الشريد" و جلس يقرأها... لأول مرة يحس الطفل بالاحتياج الشديد للأضطلاع على خبايا النفس البشرية من خير و شر غير تلك التى قرأها فى الأناجيل الأربعة... لأول مرة يشعر بظمأه الشديد لمعرفة مكنونات الطفولة عندما تتعرض للسلب من خلال معرفته للطفل "مارسل" او "مارتن" الذى أراد الكبار أن يحولوه لمجرد أداة سرقة... عرف أن كل ثورة على الظلم لابد أن يكون وراءها عقول فلاسفة قادرة على تغيير طريقة تفكير الاَخرين... عرف أن لكل ثورة وقود عادة ما يكون هذا الوقود هو الناس الفقراء الذين لا سند لهم من سلطة سواء المال، أو السياسة، أو الدين... ولم يمض ظهر يوم الجمعة حتى أنهى الطفل قرأة القصة للمرة الثانية. و فى عصر نفس اليوم توجه الى بيت "صابر" لكى يعيد له الكتاب.

تهللت أسارير "أم صابر" و هى تستقبل الطفل بكل الحفاوة و التكريم و الحنان الذى كان يملأ كل أرجاء البيت رغم بساطته و رغم و ضوح قصر ذات اليد فى إعادة بناء البيت بعد أن أتى عليه الحريق بكامله... صحبت "أم صابر" الطفل من يده الى الطابق العلوى و دخلا الى الحجرة التى يوجد بها "صابر" الذى إستقبله بلمعة عينيه و إبتسامتهما. شعر الطفل أنه يدخل قدس الأقداس... أو يدخل صومعة أحد النساك العابدين... و تحول "صابر" الى شيخ جليل مهاب ذى شعر أبيض طويل مسدل على كتفيه و لحية بيضاء توحى بالحكمة والوقار و الهيبة... جريد النخيل هو المكون الأساسى لأثاث الحجرة... سرير من الجريد... وثلاث كراسى من الجريد... ومنضدة صغيرة من أقفاص الجريد... و مكتبة من أقفاص الجريد مبطنة ببعض الورق المقوى مرصوصة عليها الكتب فى بهاء و جلال هى أول ما لفت نظر الطفل... و قف مشدوهاً كأنه هبط من علياء سماءه الى جنة الخلد... و رغم صغر حجم الحجرة فقد رأى أن خلف كل كتاب باب يؤدى الى مكان فى الكون و الوجود يستطيع أن يتنقس فيه الصعداء و هو يحس انه يلهس وراء شيئ يريد أن يحدده و لا يعرف كنهه و كأنه سجين الغموض و الجهل و هو يتوقف عند كل شيئ يصادفه بسؤال يتردد كثيراً على ألسنة الأطفال "لكن لماذا؟؟"...

و قطع "صابر" الصمت و طلب من الطفل أن يجلس و كان الطفل ما زال واقفاً كأنه فى محراب تجلى العقل و الروح... ثم جاء صوت "أم صابر" من أعماق اللامكان و اللازمان كأنه صوت سرمدى يحمل من أوتاره العذوبة و الملاحة و الرصانة و الحصافة التى تملأ الحضرة كلها بالسلام و الهدؤ و السكينة.

- سوف أنزل لأصنع لكما كوبين من الشاى

لم ينتظر "صابر" خروج و الدته من الحجرة بل توجه مباشرة بكلامه الى الطفل...

- أعلم أنك أنهيت قرأة الكتاب... و أعلم أنك فُوجئت أو صُدمت بمنظر الحجرة... و أعلم أنك تريد المزيد من الكتب... و لكن قبل أن أعيرك أى كتب دعنا نتفق أن لا تضيع مصروفك المدرسى و تدخره لشراء الكتب... كل منا يشترى كتاباً مختلفاُ عن الاًخر... ثم نتبادل قرأتهما و نتناقش فى هدف كل كتاب على حدا... هل توافق؟؟

فرد الطفل بالإيجاب و كأنه وجد ضالته و لكنه لم يستجرئ أن يمد يده و يتناول أى كتاب من المكتبة و انتظر ما يجود به "عم صابر" عليه... فما كان من الأخير إلا أن تناول بيد رشيقة كتاب من المكتبة و سلمه للطفل... نظر الطفل الى الكتاب و قرأ عنوانه "حكم الرعاع". و قبل أن يفتح الطفل الكتاب كانت "أم صابر" قد وصلت و هى تحمل صينية الشاى التى و ضعتها على المنضدة المصنوعة من جريد النخيل...

فى الزيارة التالية التى قام بها الطفل لبيت "صابر" ليعيد له رواية "حكم الرعاع" و بعد أن تسلم منه "صابر" الكتاب سأله:

- هل تذكر من هو كاتب رواية "الشريد" و من هو كاتب رواية "حكم الرعاع"؟

لم يرد الطفل و وقف مبهوتاً مزهولاً... لم يتوقع الطفل مثل هذا السؤال من "صابر" و طلب منه أن يرىه الكتابين مرة أخرى، و لكن رفض "صابر" طلبه ناصحاً إياه بأن عنوان الكتاب و أسم مؤلفه لا ينفصلان أبداً. و منذ ذلك الحين و فيما بعد ظلت النصيحة حاضرة فى ذهن الصبى مع كل كتاب يفتحه.

و مع صابر و منه كان الصبى ينمو مع الكاتب الانجليزى ليسلى تشارتريس و سلسلة "القديس"،... و الكاتب الفرنسى إيان فليمنج وسلسلة "جيمس بوند"،... و أجاثا كريستى و سلسلة "الجريمة"،... و فيكتور هوجو "البؤساء" و "أحدب نوتردام"،... و تشارلز ديكنز "قصة مدينتين" و "ديفيد كوبرفيلد" و "أوليفر تويست"،... و الكاتب الروسى مكسيم جوركى "الأم"،... و ليو توليستوى "الحرب و السلام".

ولكن تظل روايتى "الشريد" و "حكم الرعاع" هى ما يخطر على بال الطفل العجوز عندما يُذكر اسم "صابر فهيم" و يشده الحنين الى "وطن" لا يوجد فيه شريد و لا يحكمه الرعاع.
"رمسيس حنا"



#رمسيس_حنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرافض للحقيقة (قصة قصيرة)
- -موسرب- أو الفلاح المصرى الذى مات واقفاً -قصة قصيرة-
- الى إمرأة غانية (شِعر)
- إعتذار لسيدتى العراقية (شِعر)
- تباريح وطن (شِعر)
- الطاعون فى العراق - شِعر - الى المضطهدين و المهمشين بالعراق
- إغتراب (شِعر)
- دماء فى القلب المقدس (قصة قصيرة جزء 3 و الأخير)
- دماء فى القلب المقدس (قصة قصيرة جزء 2)
- دماء فى القلب المقدس (قصة قصيرة جزء 1)
- سياسة (1)
- الهروب منه إليه
- الصوفية المصرية
- شخصية يسوع فى الألحان الفرعونية
- أسبوع الألاَم خصوصية مصرية
- همس الدولار -شِعر-
- الطفل المشاغب يترافع عن عخان إبن كرمى (قصة قصيرة)
- الطفل المشاغب عندما تم إعدام عخان إبن كرمى (قصة قصيرة)
- عندما نصلى للدولار (شِعر)
- ميلاد خطيئة


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رمسيس حنا - الفلاح و التلميذ