عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5023 - 2015 / 12 / 24 - 23:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الليبرالية المعاصرة ونظرتها للدين والمعرفة الروحية ح2
هل يعني أن التفريق بين النقد الموضوعي والأنتقاد هي مسألة معايير تقيميه أم أن هناك أبعاد أخرى في قضية النظر الفكري , الحقيقة أن مسألة توجيه النقد وحتى الأنتقاد السلبي يجب أن تنال ممن أطلق الفكرة أو أنتمى لها أو أمن بها الأهتمام المتناسب مع روحية النقد أو تجنب سهام الأنتقاد أو حتى الرد الذي يزيل أمام الناقد الدوافع النقدية أو يجيب على تساؤلاته , كما يسقط التبريرات الأنتقادية ويوضح ما التبس على الناس من جراء الفكرة وانتقادها , هذه النتيجة المباشرة تحرك الجو الفكري وتدفع بالجدال أن يأخذ مجرى معرفي مبني على الحجج والبراهين وسيكتشف كل من صاحب الفكرة أو معتنقها والناقد والمنتقد أن هناك حورا عقليا لا بد أن يتواصل ويتصل ويزيد من مساحة الفهم ويؤسس لمجال أوسع من تفاهمات تصب بالنتيجة لمصلحة الفكر الإنساني .
نعود إلى الأتجاه الليبرالي المعاصر والذي كما أشرنا في البداية أنه أنطلق خارجا عن المنظومة الدينية وتحديدا من عناصر منافسة الغرض كان أساسا ليس الدعوة إلى ليبرالية الأفكار وتحرير العقل الإنساني من لزوميات وأحكام التدين , لكن ما يميز هذه الطروحات أبعادها الفكرية التي كانت تنصب في تسفيه وجه واحد من أوجه الدين هو الركن الغيبي فيه أي ما يسميه المتدين والنص القرآني مثلا عالم الغيب , وقف الناقد الليبرالي موقف المهاجم والمستنكر والمعارض لكل إيمان غيبي وعلى كل النتائج التي تتمخض عن هذا الإيمان , عادا ما تنتجه المخيلة العقلية المتدينة نوعا من الجنون المطبق أن تؤمن بما لا يمكن التنبؤ به أو قياسه أو تحديده لبساطة العلة أنه خلاف المنطق المادي الحسي المنتسب للعلم , فكلما إزدادت يقينيات الليبرالي العلمية أبتعد أكثر عن مفاهيم الدين وأساسياته ,السبب ليس في رغبة الشخص الذاتية ولكن من خلال ما يشاع من أن الفهم الديني والمعرفة المنتسبة له تتعارض وتتقاطع مع الفهم والمعرفة العلمية وقوانينها الحدية المجردة .
أنتقل النقد الليبرالي إلى داخل المجتمع الإسلامي وخاصة الغير عربي عبر دراسات فلسفية وفكرية بتأثير غربي واضح , وخاصة ممن تخرج من الجامعات والمدارس الفكرية الغربية وبدأت عملية الأستنوار والتحديث في المفاهيم والمعتقدات القديمة , كانت الدراسة النقدية الليبرالية تنطلق من ضرورة نقد التراث الفكري المتراكم ونقد المدرسة السلفية الجاثمة على الفكر الديني بمختلف أنتمائاتها لكي يتحرر الفهم الديني من الصور المشوشة والمشوهة عنه , سرعان ما تحول النقد الليبرالي التنويري إلى داخل العالم العربي بميول من تأثيرات الفكر الغربي تحديد الفرنسي والفلسفة الألمانية , لتجد صدى لها في أواسط الجيل الجديد الذي لم يرى في التراث الفكري العربي والإسلامي إلا جثة واجب دفنها بعد أن يئس الحاضرون من إعادة نبض الحياة لها .
مع إطلالة النصف الثاني من القرن الماضي شهدت بداياته تحولات فكرية وانتقالات معرفية ناتجة عن جو الأستقرار العالمي خاصة بعد أنتهاء الحرب العالمية الثانية وما شهدته المنطقة من نكسة فلسطين وتوالي أستقلال بعض الدول العربية والإسلامية من الأستعمار الغربي ونجاح السوفيت في تنظيم معسكر شرقي مضاد ومناوئ للغرب الأمريكي وأنتشار وسائل أعلام حديثة كالتلفزيون وزيادة في طبع الكتب والمؤلفات والمترجمات الأجنبية والتوسع في التعليم الأكاديمي , والأهم من كل ذلك تحسس حاجة الشعوب العربية المستقلة والتي هي في طور التحرر من الأستعمار إلى منظومة فكرية تتناسب مع الوضع العالمي الراهن , بوجود مؤسستين أجتماعية متخلفة من بقايا فترة ما قبل الأستعمار الغربي , ومؤسسة دينية سلفية متحجرة تقاتل من أجل السيطرة على التحولات الفكرية والثقافية التي تجري في المجتمعات العربية والإسلامية .
أمام هذا التناقض الرهيب وما سطرته الحضارة الغربية خاصة الأوربية القريبة والأمريكية التي بشرت بمبادئ جديدة تتعلق بحرية الشعوب والمناداة بحقوق الإنسان والديمقراطية والسوق الحرة وفتح الحدود أمام الأستثمار العابر للقارات , وجد الليبرالي المسلم والليبرالي العربي نفسه أمام هذا الصراع بين التراث وما يمثله من عبء تأريخي على حركة النهضة والتنوير وعدم قدرة هذا المكون الثقافي أن يقدم حلول إلا تلك التي مضى عليها الدهر ولم تعد تناسب حتى القرون الوسطى , بالمقابل هناك نهضة فكرية قادت إلى نتائج تطويرية متسارعة أساسها العلمانية السياسية وفلسفة الحداثة التي أنقذت العالم الجديد من تكاليف وتضحيات تقديس التراث والفكر الديني المتزمت .
تحول الأتجاه النقدي مع بدايات الستينات من القرن الماضي إلى أساسيات العقيدة الدينية وعلى مقومات الدين الأساسية , بعدما لم تثمر محاولات التنويريين العرب والإسلاميين من بلورة إسلام ليبرالي قادر أن يتوافق مع المجتمع الحديث أو تطويع بعض الأحكام وتجميل بعض الأصول ,للمقاومة التي أبدتها السلطة السياسية المتحالفة أو المشاركة للمؤسسة الدينية في أهمية المحافظة على الأصالة وخاصة من الأتجاه الوطني أو القومي الذي غلب على الطابع السياسي لأنظمة الحكم , بالرغم من العداء الظاهر أحيانا بين مؤسسة الحكم أو مؤسسة الدين .
لقد شهد المشهد النقدي الليبرالي تحولا مهما مع ظهور طبقة من المفكرين من العرب والمسلمين تناول جذور المسألة الدينية وتحول من النقد الموضوعي المتعلق بالأحكام والعقائد ومجمل البناء التراثي إلى ما هو أبعد في العمق وأكثر حساسية وبجرأة وعلنية مستفيدا من تطور وسائل الإعلام والأتصال والنفس ومحتميا بالسقف الدولي الذي منح المفكر وخاصة من الذين يتمردون على القواعد الدينية الإسلامية حصانة وحماية ودفاع وأنتشار , ظهر شريعتي وجماعته ثم ظهر طبقة أبعد في تناولها للموضوع الإيماني كعبد الكريم سروش , فيما ظهر محمد عابد الجابري ومحمد أركون والسيد القمني في أخر الموجة الليبرالية العربية والإسلامية والتي كتبنا قبل أيام مقالا عن أبعاد الدعوات التي يطلقها مثلا السيد القمني في اليقينيات وما يسمى باليقين النقدي واليقين الغريزي ليصل إلى هدم فكرة الدين من جذورها وتغييب القاعدة الفكرية الفطرية عند الإنسان بوجود خالق بعيد وغائب لكنه أكثر أثرا وحضورا من كل المعادلات الوجودية الحسية في الكون .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟