100 عام على رحيل لينين (4)


خليل اندراوس
الحوار المتمدن - العدد: 7889 - 2024 / 2 / 16 - 14:18
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


حملت كروبسكايا آخر الأخبار معها الى لينين. كانت الاخبار كثيرة بين حزينة وسارة.ففي مارس عام 1898 انعقد مؤتمر ممثلي " اتحاد النضال" وأصدر بيانا بأنشاء حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي لروسيا وانتخب لجنته المركزية. ولكن لم تمض 10 ايام حتى قام البوليس بحملاته في 27 مدينة دفعة واحدة. وتم اعتقال اكثر من 500 فرد بينهم 2 من اعضاء اللجنة المركزية والجانب الاكبر من اعضاء منظمة ضخمة هي منظمة موسكو.

ولكن هذه الممارسات والخطوات التي قامت بها السلطة القيصرية في ذلك الوقت لم يكون باستطاعتها لا بل من المستحيل رد التطور الثوري لبروليتاريا روسيا على اعقابه. وبعد انتهاء فترة ومدة النفي للينين في سيبيريا - تعكرت سعادة العودة الى النضال الثوري النشيط، فقد حظرت السلطات القيصرية في ذلك الوقت على القادة السابقين " لاتحاد النضال" الاقامة بالعاصمة او المدن الجامعية او الصناعية.

وهكذا بعد النفي الى سيبيريا انتقل فلاديمير اوليانوف لينين للاقامة بالقرب من بطرسبورغ. وكانت كل شواغله وخواطره تطمح الى توحيد لجان حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي لروسيا الكثيرة المتناثرة في انحاء البلاد في لجنة واحدة. وخلال تلك الفترة وضع لينين أمامه ضرورة البدء بإصدار صحيفة ماركسية سرية لعموم روسيا، تستطيع ان تنشر برنامج الحزب وتنظيم عملية مناقشته.

ومن شأن ذلك ان يجذب المنظمات المحلية للمشاركة في القضية المشتركة لعموم الحزب. ولم يكن بالإمكان اصدار مثل هذه الجريدة بصورة منتظمة الا في الخارج بسبب تعقب البوليس في زمن القيصرية الروسية. ولذلك وجه لينين كل جهوده نحو انشاء شبكة متينة جيدة التمويه من المراسلين ومزعي الصحيفة المقبلة. وبعد انجازه هذا العمل سافر لينين الى مدينة جينيف بسويسرا وبعد مفاوضات اجراها هناك مع مجموعة " تحرير العمل" التي أنشئت في عام 1883 على ايدي الماركسي الروسي البارز جيورجي بليخانوف واستحسنت فكرة اصدار جريدة لعوم روسيا، تقرر البدء في اصدار هذه الجريدة. وكانت أسرة تحريرها مكونة من 6 أشخاص، ثلاثة منهم من أعضاء مجموعة "تحرير العمل" هم بليخانوف وأكسيلرود وزاسوليتش، وثلاثة من الاشتراكيين الديمقراطيين من روسيا هم لينين ومارتوف وبوتريسوف.

أطلقت على الصحيفة تسمية " ايسكرا" وصدر العدد الاول منها في يناير عام 1901.

(كتب الشاعر بوشكين الى الديسمبريين المنفيين في منطقة مناجم نيرتشينسك في سيبيريا ما يلي:

"احفظوا صبركم الأنوف

في اعماق مناجم سيبيريا

فلن يضيع عملكم الحزين

ولا طموحكم الى الفكر السامي"

ورد الشاعر الديسمبري اودويفسكي على بوشكين:

"لن يضيع عملنا الحزين

فمن الشرارة يندلع اللهيب"

اختار لينين الايسكرا بالروسية الشرارة بالعربية لتكون اسما لصحيفة الحزب.

وفي ابريل عام 1901 وصلت كروبسكايا زوجة لينين الى ميونخ بعد انتهاء مدة نفيها في سيبيريا واصبحت سكرتيرا للتحرير. وجرى ارسال "ايسكرا" سرا الى روسيا بطرق مختلفة!

من خلال لندن واستكهولم وجنيف ومرسيليا (وفي هذه الحال كان البحارة على متن السفن المسافرة من مرسيليا الى موانىء روسيا على البحر الاسود يساعدون في نقل الصحيفة).

وأصبح من الافضال الرئيسية "لايسكرا" نضالها الحاسم ضد مذهب "الاقتصادية" (مذهب توفيقي مع الرأسماليين في صفوف الاشتراكية الديمقراطية الدولية سمي هذا التيار "بالانتهازية". وكتب لينين كتابه الشهير "ما العمل؟" مجملا نتائج هذا النضال. وانعكست فيه عمليا كافة المسائل التي كانت تعن للاشتراكية الديمقراطية لروسيا في تلك السنوات. وانعكس فيها قبل كل شيء الموضوع الرئيسي البالغ الأهمية بصدد الحزب كقوة ثورية قيادية منظمة للحركة العمالية.

والى جانب تأليف كتابه "ما العمل؟" كان لينين يكتب المقالات باستمرار لايسكرا وعكف على وضع نص برنامج الحزب.

وكتب يقول:" ان البرنامج معناه اعلان قصير واضح دقيق لكل ما ينبغي الحزب تحقيقه، زكل ما يناضل من أجله.".

ولينين أعد النظام الداخلي للحزب وبرنامجه الكفاحي. واوضح لينين:"نريد تحقيق بناء المجتمع على نحو جديد أفضل: فيجب أن لا يكون في المجتمع الجديد الأفضل الأغنياء ولا فقراء. ويجب ان يساهم الجميع في العمل".

تسلم لينين رسائل كثيرة من العمال ومن معتمدي "الايسكرا" في روسيا. وتواردت عليه من روسيا مئات الرسائل المكتوبة بالشفره. ووصلته المقالات والملاحظات من مصانع روسيا ومعاملها، وهو خارج البلاد -خارج روسيا. وكان فلاديمير ايليتش لينين ينشرها في صحيفة "الايسكرا". واعتبارا من ديسمبر عام 1901 اخذ فلاديمير ايليتش اوليانوف يوقع مقالاته وكتبه باسمه المستعار لينين.

المؤتمر الثاني للحزب عقد عام 1903 وفي هذا المؤتمر عقد سبعا وثلاثين جلسة تحدث فيها لينين مائة وعشرين مرة حيث القى خطبا وأدلى بملاحظات. ووقفت اغلبية المندوبين الى جانب لينين. فأطلق عليها اسم "البلاشفة" (الاغلبية). فكل من أيد الثورة العمالية وسعادة الشعب والبرنامج اللينيني ولينين صار " بلشفيا".

أما الذين انشقوا عن لينين في المؤتمر الثاني للحزب فاطلق عليهم اسم "المناشفة" (الأقلية) لانهم كانوا أقلية في المؤتمر. لقد ارتد المناشفة عن النضال الثوري. اما البلاشفة فقد التفوا حول لينين بصفوف متراصة.

وفي عام 1905 جرت في روسيا جريمة بشعة حيث قام الجيش الروسي بتاريخ 9 يناير بقتل اكثر من الف عامل، وجرح اكثر من خمسة الاف، من العمال الذين أعلنوا الاضراب وقاموا بمظاهرات مسالمة، حيث حمل العمال المناديل البيضاء واللافتات الكنائسية والايقونات حينها صرخ شاب بلشفي : هذا هو الذي امنتم به (القصد القيصر) لقد أمنتم بوحش فظيع!.

وهذا الحادث لا بل الجريمة البشعة التي ارتكبها قيصر روسيا في ذلك الوقت أعدمت ثقة الشعب بالقيصر والقيصرية الى الأبد.

في مساء نفس اليوم حرر لينين نداء الى صحيفة "الى الأمام" وكانت الى الامام هي الصحيفة الجديدة للبلاشفه بعد ان استولى المناشفة على " الايسكرا". كتب لينين يقول: " بدأت الانتفاضة. القوة ضد القوة. تدور معركة الشوارع وتبنى المتاريس وتقرقع الصليات وتدوي المدافع. تراق الدماء انهارا ويشتعل لهيب الحرب الأهلية في سبيل الحرية ....... فلتحيا الثورة!.

فلتحيا البروليتاريا الثائرة".

استمرت انتفاضات العمال والفلاحين في اندلاعها في روسيا بأسرها طوال عامين. وطوال عامين مارست السلطات القيصرية خنق الثورة، وبدأ التنكيل والاعتقالات والنفي والاعدام، الاعدام في كل مكان...

كان لينين يعيش في تلك الفترة في فنلنده ليس بعيدا عن بطرسبورغ. وكان يحرر هناك صحيفة البلاشفة السرية"البروليتاري".

وكان لينين على اتصال دائم مع المركز البلشفي في بطرسبورغ. وكانت كروبسكايا تسافر الى بطرسبورغ على الدوام حاملة توصيات لينين الجزبية.

لقد اخفقت ثورة 1905 ولكن من خلال كتاباته كان يؤكد لينين على ان المعنويات يجب ان لا تنهار بل يجب السير الى الامام ببسالة وليس لدينا غير طريق واحد طريق النضال الثوري.وانتهل لينين الثقة في حتمية المد الثوري الجديد من أن عام 1905 قد جعل البروليتاريا تشعر بقوتها وقوة التضامن الطبقي. وفي الوقت نفسه كان لينين يشرح للحزب البلشفي أنه في الظروف التي استنزفت فيها دماء الحركة الثورية فمن الخطل الدعوة لإضراب سياسي عام.

ناهيك بالكلام عن الدعوه للانتفاض (وكانت هناك رؤوس متهورة في الحزب تطالب بذلك). وكان من الضروري استبدال تكتيك الهجوم بتكتيك الدفاع واستجماع وحشد القوى، ونقل الكوادر للعمل سرا وتركيز العمل الاساسي بالمنظمات السرية، مع الاحتفاظ بالاتصال مع الجماهير في الوقت نفسه، والعمل من اجل ذلك على الاستفادة بكافة الامكانيات الشرعية.

وكان لينين يرى في تلك الفترة (أي بعد فشل ثورة 1905 - 1907) أن من أهم مهام الحزب دراسة تجربة الثورة وانتصاراتها وهزائمها. ومن الدروس التي اقترح استخلاصها تحقيق تحسينات جادة في حياة الشعب وادارة شئون الدولة في الكفاح الثوري وبأنه لا يكفي تقويض وتقييد سلطة القيصر، بل ينبغي القضاء عليها، لان حكم القيصر وأعوانه قد أصبح منذ وقت بعيد هو العقبة الرئيسية لتحقيق التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لروسيا.

وكان يؤكد دائما بأن البروليتاريا وحدها هي القوة الرائدة المحركة للثورة وحليفتها هي طبقة الفلاحين وهما وحدهما القادرتان على تحقيق انتصار الثورة.

وكان لينين مُحقا، في هذا الطرح فبعد عدة سنوات من أعنف أنواع الرجعية قسوة، في الامبراطورية القيصرية الروسية بدأ المد الثوري الجديد في روسيا وفي عام 1910 اندلعت الاضطرابات في كثير من مصانع وفابركات بطرسبورغ وموسكو. وتجددت المظاهرات والاجتماعات الخطابية وغير ذلك من أوجه النشاط السياسي للطبقة العاملة. ولم تتمكن اعمال الملاحقة والتعقب (وهذا ما تقوم به طبقة راس المال العالمي والصهيوني ضد قوى اليسار عالميا وفي منطقة الشرق الاوسط وهنا ايضا في اسرائيل).من ايقاف الحركة الثورية في روسيا في ذلك الوقت (والآن حركة تضامن الشعوب حول العالم مع القضية الفلسطينية العادلة الكونية الانسانية لن يوقفها لا التعقب ولا الملاحقة ولا الارهاب السياسي ولا الاحتلال ولا الاستيطان الكولونيالي ولا حرب الابادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في غزة).

في تلك السنوات في روسيا بدأ سيل جبار من التحاق ممثلي الطبقة العاملة بالحزب. وكان لينين وأقرب رفاقه يدركون ان كثيرين من هؤلاء بحاجة الى المعارف ومهارات العمل الحزبي فأنشأ المدرسة الحزبية في عام 1911. وهذه المدرسة كانت على مقربة من باريس. وكان البلاشفة المحاضرون في هذه المدرسة يشرحون للمنتسبين المفاهيم الأساسية للاقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية.

وكانت الدروس على هيئة مناقشات حية يشارك فيها جميع الحاضرين. وبعد أن انهى المنتسبون دراستهم بالمدرسة في فرنسا عادوا الى روسيا لمواصلة العمل الحزبي العملي. على ان انتعاش الحركة العمالية قد وضع امام الحزب البلشفي مهمة عاجلة هي وضع برنامج دقيق للأعمال اللاحقة للمنظمات الحزبية في روسيا. لذا كان من بين الامور التي كلف بها خريجو المدرسة مهمة المشاركة في تنظيم انتخابات مؤتمر الحزب الجاري الاعداد لعقده.

وانعقد هذا المؤتمر في اوائل 1912 في مدينة براغ. وكان للبلاشفة الطبع الغالب على المندوبين الذين قدموا لحضور المؤتمر، اذ كانوا يمثلون 20 منظمة حزبية كبرى. تحدث لينين في المؤتمر وترأس الجلسات والقى التقارير وسجل اعمال المؤتمر كلها. وفي الخامس من ايار عام 1912 صدر في بطرسبورغ العدد الاول من صحيفة العمال اليومية " برافدا" والتي ما تزال تصدر حتى اليوم.