حول الجدلية الموضوعية والتطور الاجتماعي (2)


خليل اندراوس
الحوار المتمدن - العدد: 7637 - 2023 / 6 / 9 - 14:59
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


بوضع المادية التاريخية برهن ماركس وانجلز ان الجماهير الشعبية الشغيلة - الطبقة العاملة - هم الصناع الحقيقيون للتاريخ. والماركسية هي استمرار وتتويج كبير للفكر الفلسفي طرحت فيها المشكلات الفلسفية، وتشكلت في مجرى سلسلة من الثورات، وصلت ذروتها في الفلسفة الكلاسيكية الالمانية في بداية القرن التاسع عشر. ولكن اذا كانت الماركسية استمرارا وتتويجا لمنجزات الفلسفة في الماضي، فانها استمرار يضع حدا لعصر، ويشكل نقطة انطلاق جديدة، فهي تندفع وفق خطوط جديدة بالمقارنة بفلسفات الماضي، انها ثورة في الفلسفة نهاية "المذهب" الماضي، فلسفة من نوع جديد كلية.

فلم تعد الماركسية فلسفة تعبر عن نظرة طبقة مستغلة الى العالم، عن نظرة اقلية تسعى الى فرض حكمها وافكارها على جماهير الشعب، لكن تبقيهم خاضعين، وانما هي فلسفة تخدم الطبقة العالملة وكل شرائح المجتمع المُستغلة في نضالهم للتطويح بكل استغلال، ولبناء مجتمع لا طبقي مجتمع حرية الانسانية والانسانية مجتمع المستقبل، مملكة الحرية على الارض.

والماركسية لا تسعى الى اقامة افكارنا عن الاشياء على أساس اخر غير الدراسة الواقعية لها، تلك الدراسة المنبعثة من الخبرة والممارسة والتي تمحصها هذه الخبرة والممارسة، انها لا تبتدع "مذهبا"- كما فعلت الفلسفات السابقة - ثم تحاول ان تجعل شيء متلائما معه. لذلك الفلسفة المادية الجدلية الماركسية فلسفة علمية، فلسفة ممارسة، فلسفة ثورية. بأصدق ما تنطوي عليه هذه الصفات.

وتتجسد السمات الثورية للمادية الماركسية الجدلية التاريخية في قسمين للفلسفة الماركسية هما اللذان يُعطينها اسمها وهما - المادية والجدل. قال انجلز انه في المادية الجدلية:" اخذت النظرة المادية الى العالم مأخذا جديا حقا للمرة الاولى، وطبقت بشكل متماسك..".

لانها "عزمت على فهم العالم الحقيقي - الطبيعة والتاريخ - تماما كما يظهر لكل من يقترب منه متحررا من الخيالات المثالية المسبقة. لقد تقرر بلا هوادة التضحية بكل خيال مثالي لا يمكن ان ينسجم مع الوقائع كما تبدو في علاقاتها الحقيقية وليس في علاقاتها المُتخيلة، ولا تعني المادية شيئا أكثر من ذلك." (انجلز لودفيغ فورباخ . الفصل الرابع).

من ميزات الماركسية المادية الجدلية التاريخية أنها:

- التعبير الواعي عن مصالح الطبقة العاملة - البروليتاريا - مرتبط بفهم دورها العالمي التاريخي.

-الفهم المادي للتاريخ.

-فهم الضرورة الموضوعية للثورة الشيوعية كنتيجة لصراع البروليتاريا الطبقي.

-فهم المجتمع الشيوعي كنتيجة منطقية للتطور الموضوعي في التاريخ.

كتب انجلز يقول كتلخيص لأسس الفهم المادي للتاريخ بأن النظرية الماركسية تقود الى استنتاج منهجي هام ينعلق بطرق تحول المجتمع!

"يجب أن لا تخترع هذه الطرق من الرأس، بل يجب اكتشافها، وبمساعدة الرأس في وقائع الانتاج المادية المتوفرة".

ومن اعظم افضال ماركس وانجلز كذلك انهما ذللا الطابع الميتافيزيقي لعلم الاجتماع القديم وكشفا الجدلية الموضوعية للتطور الاجتماعي. وبنتيجة ذلك لم يعد التاريخ تجميعا فوضويا لوقائع غير مترابطة بل اتخذ شكل عملية قويمة متكاملة تجري بموجب القوانين المادية الجدلية.

والمادية التاريخية الماركسية الجدلية هي دراسة المجتمع وقوانين تطوره. وهذه القوانين موضوعية أي مستقلة عن وعي الانسان، تماما كقوانين تطور الطبيعة. ومثلها لا مثل قوانين الطبيعة يمكن معرفتها، ويستخدمها الانسان في نشاطه العملي السياسي الاجتماعي وغيره من مجالات النشاط الاجتماعي. والوعي والادراك هو النمط الذاتي للعالم الموضوعي. والمعرفة امر موضوعي من حيث المحتوى. فهي تعكس الوجود والعالم الموضوعي.

ولكن الادراك كشكل من اشكال الوجود ( الاحاسيس، والتصورات والافكار) هو انعكاس مثالي لما هو مادي.

والمادية التاريخية الماركسية، خلافا لعلوم المجتمع المحددة، تدرس اعم قوانين التطور الاجتماعي. وبحكم كونها جزء لا يتجزأ من النظرية الماركسية اللينينية الى العالم تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية.

وهي تُعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي وأهمية الانتاج المادي في حياة الناس وأصل ودور الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها.

جزء لا يتجزأ من النظرة الماركسية اللينينية الى العالم تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية. وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي وأهمية الانتاج المادي في حياة الناس وأصل الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها.

وتساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والأفراد في التاريخ، وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة، ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي اهميتها بالنسبة للعملية التاريخية، وعدد آخر من المسائل العامة لتطور المجتمع.

ان ماركس وانجلز قد قاما لأول مرة في تاريخ المادية باستكمال بناء قمتها، أي نشراها وبسطاها على المجتمع. " الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي" - هذا هو المبدأ الذي تنطلق منه المادية الجدلية التاريخية أو الفهم المادي للتاريخ. والمادية التاريخية نشأت، كنتيجة لتعميم الممارسة الاجتماعية التاريخية للناس وانجازات العلوم المحددة عن المجتمع التي ؤبدونها كان من المستحيل نشوؤها.

ولكن بدون المادية التاريخية أيضا بدون معرفة السنن العامة للتطور الاجتماعي، لا يمكن لأي علم اجتماعي مُحدد أن يتطور بصورة مُثمرة. واسس الفهم المادي الجدلي الماركسي للتاريخ تقود الى استنتاج منهجي هام يتعلق بطرق تحول المجتمع! " يجب ان لا نخترع هذه الطرق من الرأس، بل يجب اكتشافها، وبمساعدة الراس، في وقائع الانتاج المادية المتوفرة". (ك. ماركس وف. انجلس المؤلفات).

وحيث ان المادية التاريخية هي اسلوب علمي في تناول المجتمع، فقد أنشأت المقوم الضروري لتكوين وتطوير كافة العلوم المحددة بصدد المجتمع: الاقتصاد السياسي، ونظرية الاشتراكية، والعلوم التاريخية، والعلوم القانونية، والعلوم التي تبحث مختلف فروع النشاط الروحي للناس ( الادب والفن والدين والفلسفة.. الخ). وقد جاءت اكتشافات ماركس العلمية عن قوانين التطور بتطبيق المادية الجدلية، وهذا هو السبب في أن الماركسية وحدها هي التي تستطيع ان تقدم تفسيرا علميا للتطور وأن تُشير الى طريق المستقبل.

ان معرفة قوانين المادية التاريخية، لا تمكننا فقط من فهم الظواهر المعقدة للحياة الاجتماعية، بل ايضا من التاثير في هذه الحياة وتحويلها لصالح الطبقة العاملة وكل شرائح المجتمع المُستغَلة.

ان تحويل الواقع على اساس من القوانين المادية الجدلية المُدركة للتطور الاجتماعي انما هو تحقيق الضرورة التاريخية لتطور البشرية التقدمي. وفي سياق هذا التطور التقدمي يحصل الانسان على الحرية الحقيقية. وهنا أريد ان أذكر ما قاله انجلز في القسم الاول من كتاب " ضد دوهرنغ" وهو صياغة جوهرية جديدة للفهم المادي للتاريخ، وانطلاقا من الديالكتيك المادي، حيث يطور انجلز فكرة الحرية كضرورة مُدركة. ويخرج باستنتاج يقول انه بواسطة القوى المنتجة الحديثة فقط " يصبح من الممكن تحقيق مثل هذه الوضعية في المجتمع ... حيث يكون من الممكن، لأول مرة، التحدث عن الحرية الانسانية الحقيقية، عن الحياة في توافق مع قوانين الطبيعة المُدركة". " وهذه هي قفزة الانسانية من حكم الضرورة الى حكم الحرية". يعني - من حكم الضرورة العمياء الى حكم الضرورة المُدركة. يعني - الانتقال من العفوية الى الوعي، ومن الخضوع الأعمى لقوانين الطبيعة العمياء الى السيطرة عليها، والانتقال النهائي الى المجتمع الانساني الحقيقي.

وفقط عند الانتقال الى مجتمع المستقبل - المجتمع الشيوعي الانساني حقا، تكون العلاقة بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي كالعلاقة بين الحرية والضرورة وذلك لأن الحرية بالذات هي ضرورة مُدركة، مثلما يكون الوعي وجودا مُدركا. لا تلغي الحرية الضرورة الموضوعية، بل تعني ان الانسان قد عرف الضرورة ويستفيد منها لتحقيق أغراضه. لا يكون نشاط الانسان حرا الا عندما يتوافق مع الضرورة الموضوعية. فان حرية الانسان ليست هي استقلاله الوهمي عن قوانين الطبيعة والمجتمع، وانما تتجسد في معرفته لهذه القوانين وقدرته على استغلالها لتلبية الاحتياجات الانسانية.

فان حرية الانسان تتلخص بالذات في معرفة الضرورة الموضوعية واستخدامها لمصلحة الانسان والانسانية. وفقط في مجتمع المستقبل - المجتمع الشيوعي- ستتوفر لأول مرة الامكانية الفعلية للسيطرة على الضرورة التاريخية والوصول الى الحرية الحقيقية للانسان.