حول التطور التاريخي للفكر الجدلي وملامح المستقبل


خليل اندراوس
الحوار المتمدن - العدد: 7771 - 2023 / 10 / 21 - 18:43
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     



الرغبة في التطلع الى الغد الى المستقبل هي صفة مميزة للانسان العامل بحكمة وضرورة موضوعية للمجتمع الانسائي عامة. والتطلع الى المستقبل أصبح الآن في عصرنا، في مرحلة الثورة العلمية المعاصرة، ليس فضولا بل تعبير عن حاجة علمية - علمية، علمية عملية، لكي يعمل الانسان اليوم بنجاح، ويعرف ماذا سيكون غدا.

لقد أدرك العباقرة السابقين لماركس وانجلز، وعلى طريقته الخاصة، مدى الحاجة الى معرفة علمية حقة للمستقبل، فصرح بفكرة حكيمة وعميقة جدا! "حتى الآن تحرك الناس في طريق الحضارة وظهرهم الى المستقبل، موجهين انظارهم عادة الى الماضي، أما المستقبل فقد رمقوه بنظرات نادرة جدا، وسطحية فقط، والآن وقد قُضي على العبودية، فان على الانسان أن يركز أنتباهه نحو المستقبل." (سان سيمون مؤلفات مختارة. م 1-2 موسكو - ليننغراد 1948).

قيل هذا قبل عقدين من نشوء الفلسفة المادية الجدلية الماركسية، وفي أحد من آخر مؤلفات سان سيمون الاشتراكي - الطوباوي الفرنسي العظيم. ان تصوراته عن المستقبل، كآراء السابقين الآخرين للشيوعية العلمية، بقيت بكاملها في حدود الطوباوية، أيضا ولكن ما كان طوباويا آنذاك أصبح نظرية مادية ناريخية جدلية في مؤلفات ماركس وانجلز.

فأن ماركس وانجلز قد اكتشفا قوانين التطور الاجتماعي الموضوعية وقدما البرهان العلمي على حتمية هلاك المجتمع الرأسمالي، وفي عصرنا الحالي كلما تتطور التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية وخاصة في عصرنا الحالي العصر الامبريالي، يتطور أيضا البناء الفوقي للمجتمع، ويصبح دور الوعي في حياة المجتمع واعادة تنظيمه وبناءه أكثر أهمية. واستنادا على الفلسفة المادية التاريخية الجدلية الماركسية يتنامى دور التنبؤ العلمي بالمستقبل.

ويجري تغيير حاسم لدور الوعي الاجتماعي، وانتقال المجتمع من التطور العفوي غالبا، الى التطور الواعي الموضوعي المادي الجدلي. فالماركسية في الحقيقة هي أول شكل علمي للتنبؤ الاجتماعي من الناحية التاريخية. وتعاظم الاهتمام الشديد بقضايا المستقبل أدى الى نشوء اتجاه علمي جديد هو التنبؤ الاجتماعي (الذي اشتهر في الغرب بتسمية فوتورولوجيا).

وهنا اريد ان اذكر بأنه في العقد الرابع من القرن ال 18 كانت افكار الهيغلية اليسارية تتقدم تقدما سريعا في ألمانيا. وكان لودفيغ فورباخ قد اخذ منذ سنة 1836 على الخصوص يوجه النقد الى اللاهوت ويتجه نحو المادية التي أحرزت الغلبة نهائيا عنده في سنة 1841 (كتاب "جوهر المسيحية") وفي سنة 1843 ظهر كتابه "أسس فلسفة المستقبل".

لقد كتب انجلز فيما بعد حول هذين المؤلفين لفورباخ فقال:" كان يجب أن يكون الانسان قد تحسس بنفسه الأثر التحريري لهذين الكتابين .. فلقد اصبحنا نحن جميعا". (اي الهيغليين اليساريين بمن فيهم ماركس) " دفعة واحدة من اتباع فورباخ" (انجلس -لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الالمانية).

وهنا اريد ان اذكر ملاحظة مهمة وهي انه كما قال انجلز خلال بدايات القرن ال 18 نشأت الى جانب الفلسفة الفرنسية وعلى أثرها، الفلسفة الالمانية الحديثة التي تتوجت بفلسفة هيغل المثالية الجدلية.ومأثره فلسفة هيغل الكبرى أنها أعادت الى الديالكتيك بوصفه الشكل الأعلى للفكر.

"لقد كان الفلاسفة اليونانيون القدماء جميعهم ديالكتيكيين عفويين وبالفطرة، وقد سبق لأرسطو، وهو أوسعهم معرفة واطلاعا، أن حلل الأشكال الأساسية للفكر الجدلي الديالكتيكي."

ويتابع انجلز ويقول: "أما الفلسفة الجديدة، رغم أن الديالكتيك وجد له فيها ممثلين لامعين (مثلا ديكارت وسبينوزا) فقد كانت تغرق اكثر فأكثر، ولا سيما تحت تأثير الفلسفة الانجليزية، في طريقة التفكير المسماه بالطريقة الميتا فيزيائية، التي سادت بوجه الحصر تقريبا بين الفرنسيين في القرن الثامن عشر على الاقل في مؤلفاتهم الفلسفية الصرف" وكانت طريقة الفلسفة الجدلية اليونانية القديمة، قد صاغها هيراكليت بوضوح حيق قال : " كل شيء موجود وغير موجود، لأن كل شيء يتحول، لأن كل شيء في تغير ابدي في صيرورة أبدية، في زوال ابدي".

ويكتب انجلز: "ولهذا فأن بواكير دراسة الطبيعة دراسة دقيقة لم يطورها، لأول مرة، الا اليونانيين في العهد الاسكندري (العهد الاسكندري لتطور العلم يمتد من القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن السابع بعد الميلاد. ويعود أسمه الى مدينة الاسكندرية المصرية التي كانت آنذاك من أهم المراكز الاقتصادية والتجارية العالمية.

وفي ذلك العهد ازدهرت الرياضيات والميكانيك (أوقليدوس وارخميدوس) والجغرافية وعلم الفلك وعلم التشريح الجسماني والفيزيولوجيا وغيرها من العلوم. وفيما بعد العرب في القرون الوسطى".(انجلز - كتاب الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية ص 48 - 49 ). ويكتب انجلز ويقول:" وهكذا فان تصور الكون وتطوره وتطور الانسانية وكذلك انعكاس هذا التطور في عقول الناس تصورا دقيقا لا يمكن القيام به لا عن طريق الديالكتيك" (انجلز - الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية ص 52).

ويضيف انجلز ويقول: "بأننا مدينون لماركس الذي اكتشف "المفهوم المادي عن التاريخ" و "الكشف عن سر الانتاج الراسمالي بواسطة القيمة الزائدة" وتعرف النظرية العامة عن القوى المحركة للتغيير الاجتماعي وقوانينه - التي وضعت على أساس اكتشافات ماركس - بأسم المفهوم المادي عن التاريخ. والمادية الجدلية التاريخية ليست مجرد نظرية تستهدف تفسير العالم وانما مرشد لممارسة تغيير العالم، وبناء مجتمع ليس فيه استغلال انسا لأنسان. مجتمع المستقبل. وكما قال انجلز في خطابه أمام قبر ماركس فانه: "تماما كما اكتشف داروين قانون تطور الطبيعة العضوية. فقد اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ الانساني".

وهنا أذكر ما قاله ماركس في كتابه " الثامن عشر من برومير لويس بونابرت- الفصل الرابع" حيث يقول: "يصنع الناس تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم. انهم لا يصنعونه في ظل ظروف اختاروها بأنفسهم، وانما في ظل ظروف يواجهونها مباشرة وأعطيت لهم ونقلت اليهم من الماضي".

وعندما يتطرق انجلس الى ملامح مستقبل الانسانية من منطلق مادي تاريخي جدلي يؤكد على التطور المتعدد الجوانب لكل فرد واشباع كل حاجات الانسان في مجتمع المستقبل المجتمع الشيوعي حيث يقول:" يجب ان نذكر بأن الحديث يدور حول خلق تلك الظروف الحياتية لكل الناس، والتي تتاح فيها لكل فرد امكانية التطور الحر لطبيعته الانسانية.. اننا لا نريد تماما تحطيم الحياة الانسانية الحقه، بالعكس، اننا وبكل صورة نحاول خلقها".

ولقد أنجز انجلز خطوه جوهرية الى الأمام في طريق صياغة الفهم المادي للتأريخ حيث أوضح الصلة بين الثورة الصناعية والثورة في المجتمع المدني، أي في التكوين الطبقي للمجتمع. وبذلك اقترب تماما من حل مسألة رئيسية في الفهم المادي للتاريخ أي من اكتشاف ديالكتيكية القوى المنتجة والعلاقات الانتاجية. حيث يذكر في كتابه " حالة الطبقة العاملة في انجلترا (كان العمل في المخطوطة قد أنجز في 15 آذار (مارس) سنة 1845. حيث يثبت انجلز تناسبا معينا بين تطور الصناعة الكبيرة وتطور الحركة العمالية، ويشير الى حتمية الثورة البروليتاريا وانتقال ادارة المجتمع الى أيدي الطبقة العاملة. ان أحد الفصول الاخيرة من الكتاب - " الحركة العمالية" يحظى بأهمية خاصة، حيث يعلل انجلز ضرورة توحيد الاشتراكية بالحركة العمالية. ان ادراك ان النظام الشيوعي للمجتمع يبرز كنتيجة حتمية للحركة العمالية والنصال الطبقي. وبعد ظهور كتاب انجلز "حالة الطبقة العاملة في انكلترا". كان انجاز على طريق تطوره المستقل نحو الفلسفة المادية التاريخية الجدلية، وحظي تعاونه مع كارل ماركس الى طابع نوعي وعضوي جديد لرؤية ملامح المستقبل.