الطاقة الذكية الأزلية بين العلم والفلسفة 4/4


ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن - العدد: 7757 - 2023 / 10 / 7 - 14:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

والذي يهمنا في هذا البحث ليس كل من صفتي الخالقية والألوهية، بل صفة الربوبية لما لها من علاقة بالشرور وتفسيرها. والرب ليس هو السيد حصرا، بل هو الراعي لمربوبيه، فالربوبية بمعنى الخضوع لسيادته يمكن تسميتها بالربوبية الصاعدة، وهي نوعان إرادية وجبرية، بينما الربوبية بمعى رعاية الرب لمربوبيه، يمكن تسميتها بالربوبية النازلة، أي ربوبية الرب الذي يرعى ويربي ويداري كالأم والأب لأطفالهما. وبالتالي فإن من لوازم الربوبية النازلة، أن يهتم بنا، وأن يتدخل لمنع الشرور عنا، كدرأ الأم والأب الخطر والضرر عن أطفالهما. لكن الواقع يعلمنا أنه لا يتدخل، وبالتالي يتخلى عن مسؤولية الربوبية. أما "ادعوني أستجب لكم" أو "إِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعي إِذا دَعاني فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي"، فالواقع يقول إن ليس كل من يدعوه يستديب لدعائه، حتى لو استحق ذلك بمعايير الدين نفسه، لا بمعايير العدل الإلهي العقلية. ثم أمعقول أن تكون رعاية الله حصرا للذين يؤمنون به ويدعونه؟ مذا كنا سنقول عن رئيس حكومة عادل لا يرعى من شعبه إلا مؤيديه والهاتفين له؟ ثم لا ندري، أيستجيب للدعاء فعلا؟ ثم لماذا ينتظر أن ندعوه ولا يبادر هو برعايتنا، كلازم من لوازم الربوبية النازلة؟ ثم هل يستجيب إذا ما دعوناه أو لا يستجيب حسب مزاجه، وهو المتعالي عن المزاج، ثم يكتفي المؤمنون بالتسليم لمزاجه، فيسمونه تنزيها له بالحكمة في استجابته أو عدم استجابته، التي لا يعلمها ولا يقدرها إلا هو؟ هنا من حقنا أن نتساءل، إذن أين هي الربوبية النازلة، أي رعايته لرعيته؟ يبدو لي كمحاولة لفهم ذلك أنه هو الذي قرر تجميد دور الربوبية في هذه الحياة، وإنها ستتجسد في الحياة الأخرى، التي هي ليست جسدية بالضرورة، بل على الأرجح روحية فقط. لكن ما هي الروح؟ بقطع النظر عن مدى صحة المصطلح، فأنا أعني بها سر الحياة، سواء سميت الروح أو النفس أو بأي تسمية أخرى. وبقولي سر الحياة لا أعني الحياة الفيزيائية المختصة بالجسد. بل يمكن أن نتصورها كطاقة، هي غير الوجود الفيزيائي، بل طاقة، والطاقة لا تفنى، بل تتحول، وهنا أقصد بالتحول مفارقتها للجسد في لحظة موته، وهنا تقوم قيامة الميت جسدا المنتقلة روحه إلى حياة أخرى، إذ ليس هناك من يوم قيامة جامع لكل البشرية منذ بدايتها حتى نهايتها، بل لكل قيامته لحظة موته، إذ أحتمل ولا أجزم، بأن الموت، أي موت الجسد تحديدا، ما هو إلا جسر العبور، الذي تعبر عبره الروح من الجسد الذي فقد قيمته بموته، إلى هناك، حيث حياة الثواب والتعويض، وربما العقاب بقدره الذي لا يقدره إلا الله لا تصورات الأديان. طبعا ليس من السهل أن يتقبل كل واحد منا هذه الفكرة، ولو كفرضية محتملة، وأعود إلى مثال الطفلة البريئة التي اختطفت وأرعبت وأوذيت واغتصبت وقتلت، فمن الصعب أن نتقبل مبرر التعويض في حياة مفترضة أخرى. لكن في حوار لي مع صديق لي، وبإيحاء منه للفكرة، تصورنا أن ما ينتظر هذه الطفلة ,كذلك أي ضحية للجرائم والكوارث، يمكن أن نتصوره، كلحظة خدشت هذه الطفلة، فشعرت بالوجع وجهشت بالبكاء، ثم ذهب الوجع وعاشت بقية حياتها بعد حادثة الخدش هذه في منتهى السعادة. هل هذا جواب مقنع؟ وإذا كان مقنعا للبعض، فهل هو مقنع لأكثر الناس؟ بالتأكيد لا. فأنا كمؤمن بالله إيمانا عقليا وكمعتمد للتنزيه كأصل أساسي لللاهوتي، أقول لله: إذن انت يا رب جمدت دور ربوبيتك النازلة إلينا في حياتنا هذه. أما لماذا؟ فأنت تعرف، وهناك سنعرف سنعرف نحن كذلك، مما لم نستطع أن نفهمه هنا، وربما، بل على الأرجح، لا حاجة لنعرفه، بل علينا أن نشغل عقولنا لما ينفعنا في حياتنا الآنية والهنائية، لكن على ألا يكون ما ينفع كلا منا فيه ضرر لغيرنا.
أرجع وأقول إن الله غير مهتم أبدا بأن نؤمن أو لا نؤمن، وإذا آمنا كيف نؤمن به، من مجموع صور الفهم له، ما بين أقصى الصواب وأقصى الخطأ وما بين هاذين الأقصصين، ولو أني أحتنمل ألا وجود لأقصى الصواب، بل أقصى ما موجود هو ما هعو أقرب من غيره عن الصواب، وبالتالي أبعد من غيره عن الخطأ، متجنبا استخدام الهدى والضلال. الله حسب فهمي يحب لنا بدل الاستغراق في محاولة فهمه، أن نستزيد ما استطعنا من العقلانية والعلم والفكر والرشد والأخلاق، وتطوير الحياة، تجميل الحياة، تحقيق قدر أكثر من العدالة والإنسانية والحرية المسؤولة والسلام، والتقدم في العلوم والتكنولوجيا؛ هذا هو المهم عند الله، أن يا أيها الإنسان استقم، أحببك قدر ما استقمت، آمنت أو لم تؤمن بي، أيها الإنسان اكدح واسقم إلي إن آمنت بي، وإلا فآمن بالمثل العليا واكدح واستقم إليها، بذا تكون قد عبدتني ليلك ونهارك، وأحببتك، لأنك أحببت مثلي، حتى لو كنت ملحدا، فإنك بكدحك إلى المثل الأعلى، كنت قد كدحت إلي، حتى لو أنكرتني.
إذا كان الله قد جمد الربوبية النازلة، فهل أبقى على الربوبية الصاعدة؟ أو بتعبير آخر هل عفا نفسه عن مسؤوليته تجاهنا، وألزمنا بسمؤوليتنا تجاهه؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا ليس من الإنصاف. لكن يمكن أن نفهم مسؤوليتنا تجاهه، أنها ليست إلا مسؤوليتنا تجاه أنفسنا، لأن تجيسدنا لمتطلبات الربوبية الصاعدة، هي حتى بالنسبة للذين لا يؤمنون به منا، هو أن نخضع لربوبية وسيادة مثله وقوانينه. الخضوع لقوانينه هو خضوع جبري ليس لنا أن نختار القبول أو عدم القبول له، لأنه خضوع فيزيائي، لكن الخضوع لمثله، آمن منا به من آمن أو لم يؤمن به من لم يؤمن، هو الخضوع الأخلاقي الإرادي لمثله، بعكس الخضوع الفيزيائي الجبري لقوانينه.