الدفاع عن الأقليات المقموعة واجب إنساني أخلاقي


ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن - العدد: 7690 - 2023 / 8 / 1 - 12:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

نعم، نحن مقموعون، ولا يجب أن نعد مقموعين، عندما نلاحق ونقتل ويزج بنا في السجون ونُهجَّر أَو نُضطَرّ للهجرة، يكفي أننا ممنوع علينا الإفصاح عما نؤمن وما لا نؤمن به، فحريتنا مخنوقة بل ومغتالة، حتى لو تعوّد للأسف الكثير منا على التخلي عن حريته في هذا المجال، كما يتعود السجين حتى لو كان بريئا مع مر السنين على كونه سجينا، بحيث تكون جدران زنزانته قد تحولت إلى عالمه الذي تكيّف له.
عندما أكون لادينيا وأتخفى أمام أصدقائي، عندما أرتدّ عن الإسلام، وأبقى أصلي نفاقا، عفوا تقية، حتى أمام أسرتي، وحتى عندما أملك شجاعة مزاولة نقد الدين، لكني أضع بنفسي حدودا للإفصاح عما يختلج في داخلي، عندما أستخدم في خطابي عبارات دينية، رغم عدم إيماني بالدين، عندما أكون ملحدا أو لاأدريا، وعندما يتطلب مني أداء اليمين فأقسم بالله الذي لا أؤمن به، عندما أضع كامرأة على رأسي الحجاب من غير قناعة، حتى لو كنت مؤمنة بالإسلام، فأنا في كل ذلك وغيره الكثير والكثير جدا مما لا أستطيع أن أحصيه عددا، مقموع، ومضطهد، ومذبوحة حريتي، وأكون بالتالي فاقدا لأهم ملمح من ملامح إنسانيتي، فالإنسان لا يكون إنسانا، إلا أن يكون - من ضمن ما يكون - حرا، وعندما أضحي بحريتي، فكأني ضحيت بأهم عناصر هويتي كإنسان.
وهنا أخاطب المسلمين المتطرفين، وحاشا للعقلاء منهم الذين أستثنيهم، فأقول أبشركم، نحن نموت فعلا في غيضنا، كما تتمنون لأعدائكم، حيث تعتبرون كل مخالف لدينكم عدوا لكم، بالرغم من أننا لا نعادي المسلمين، بل كل ما في الموضوع لا نؤمن بدينهم، ونحترم مع هذا قناعتهم به، فتشعرون بالنشوة وأنتم ترددون «موتوا في غيظكم». أهنئكم لأنكم انتصرتم علينا، ليس الآن، بل منذ قرون، فإني بصراحة متعاطف مع كل عقلاء الجزيرة الذين أجبروا قبل 1400 سنة، حفاظا على حياتهم، أن يشهدوا بالشهادتين غير مقتنعين بهما، أو مقتنعين بالأولى دون الثانية، واضطررتم الكثيرين جدا منا أن يكونوا منافقين. نحن أكثرنا مضطر للنفاق، وإن كان منهم من يزاول في الواقع التقية أو (التقاة) حسب المصطلح القرآني في قول «إلا أن تتقوا منهم تقاة»، أي يتقي تعسفكم. لكني بصراحة أشعر إن الخيط الفاصل بين التقية المقبولة والمبررة والضرورية وبين النفاق دقيق جدا، ولا أشك إن بعضنا يشك إن ما يمارسه من تقية، قد يكون فيه قدر غير قليل من النفاق، رغم أنه يتمتع بأخلاق راقية، تأبى له حتى لو قليلا من أن يتخلق بالنفاق المرفوض والمدان عنده.
فأنتم تجبروننا في كل البلدان ذات الأكثرية المسلمة، بل مؤخرا حتى في بعض بلدان الكفار، أن نسمع خمس مرات (عند الشيعة ثلاث مرات) إشهاركم بعقيدتكم في الأذان، بقول «أشهد ألا إله إلا الله ... أشهد أن محمدا رسول الله»، وذلك عشر أو ست مرات في اليوم، لتكرار ذلك في كل أذان مرتين، وذلك عبر مكبرات الصوت، وليس حصرا في مساجدكم، بل يجب أن نسمعها رغما عنا في شوارعنا وبيوتنا. وسبق وكتبت مرة بهذا الصدد، مما أحب أن أعيده هنا، بأن قرآنكم الذي تعتقدون أنه كلام الله، والذي يجب أن يكون ملزما لكم، يوصيكم في آية جميلة «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى»، وتعرفون جيدا إن العدالة تعني حقوقا متساوية وفرصا متكافئة، مما يعني أن من حق المسيحي أن يؤذن خمس مرات في اليوم بقول «أشهد أن اليسوع ابن الله»، ويؤذن الملحد «أشهد ألا وجود لله»، والمؤمن اللاديني «أشهد ألا إله إلا الله وأشهد ألا أحد رسول الله»، لكن المساوة السلبية هي الأكثر حكمة، فلا تؤذنون إلا في مساجدكم، بحيث لا يخرج صوت الأذان إلى خارج المسجد، وهكذا لا يحتاج الآخرون أن يصرخوا بما يعتقدون كما تصرخون. وهكذا بالنسبة لتلاوة القرآن، فلماذا علينا سماع الإهانات الموجهة إلينا من خلال تلاوة القرآن العلنية، وأقول الإهانات على الأقل فيما يفهم من تلك الآيات، حتى لو كان بالإمكان تأويلها إلى معنى آخر. فلماذا يجب على المسيحي أن يتحمل سماع تكفيره وإهانته في قول « كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم»، و«كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة»، و«قاتلوا الذين كفروا من أهل الكتاب الذين لا يدينون دين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله حتى يُؤتوا الجزية وهم صاغرون»، و«إن الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب في نار جهنم خالدين فيها أ[دا، أولئك هم شر البرية». ثم هذه آية تنطبق علي شخصيا كمثال بقول: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا»، لأنني كنت مؤمنا لأني فتحت عينيّ في بيت مسلم، ثم (كفرت)، عندما تحولت في أول شبابي إلى الإلحاد، ثم آمنت بعد أقل من خمس عشرة سنة، وأصبحت مؤمنا وملتزما بالإسلام، ثم (كفرت) هذه المرة بالإسلام، عندما أصبحت في خريف 2007 إلى إلهي عقلي لاديني.
لسن مدافعا عن الأقليات المقموعة، لأني واحد منهم، لأني كنت سأدافع عنهم، حتى لو لم أكن منهم. فإني دافعت عن الملحدين يوم لم أكن فقط كما الآن مؤمنا بالله، بل يوم كنت مسلما ملتزما، بل وإسلاميا، ولو كنت أعتبر آنذاك وللعشر سنوات الأخيرة، إسلاميا ديمقراطيا، أو ديمقراطيا إسلاميا، ثم إني دافعت دائما وأدافع عن المسيحيين والمندائيين والإيزيديين والزرادشتيين، ودافعت وأدافع أكثر عن البهائيين المضطرين حتى لإخفاء انتمائهم لدينهم.
كل هذه الأقليات التي تنتمي إلى أديان غير دين الأكثرية، أو التي تحمل عقيدة فيما يتعلق بالقضايا الميتافيزيقية (الله والدين) سلبا، أي باعتماد الإلحاد أو اللاأدرية، أو إيجابا، أي إيمانا بالله دون الإيمان بأي دين، هي مقموعة حريتها بقدر يزيد أو يقل، مما يمس كرامتها الإنسانية، ومواطنيتها التي يقول الدستور بمساواتها في مع سائر المواطنين، لكن ينقض ذلك الواقع، بل العديد من القوانين، التي كان يفترض أن تلغى أو تعدل، لعدم شرعيتها الدستورية، أي لتعارضها مع الدستور، المفترض أن يكون القانون الأسمى الذي له العلوية فوق كا القوانين.
والمشكلة إن القمع يرافق الإنسان المهاجر إلى مهاجره الغربية التي تكفل له الحرية، بسبب علاقاته الاجتماعية بأبناء وطنه الأصلي، حيث له الحق بالتمتع بكامل حريته، مما يجبره أن يرضى باغتيالها أو خنقها، فيمارس حتى هناك (التقية) أو قدرا من (النفاق)، مما يجعل الكثيرين يعيشون أزمة أخلاقية داخلية.
وأختم بتكرار قول لي قلته في 2008 أو 2009 على إحدى الفضائيات في حوار شارك فيه أحد شيوخ الأزهر، وهو «إن خنق الحريات جريمة، والله يتعالى عن أن يشرع للجريمة».