عزيزي المسلم 2: تبادل الخرافة


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 6552 - 2020 / 5 / 2 - 01:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

هذا هو الفصل الثاني من ملحق كتاب
عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك
لكاتب سعودي نشرت كتابًا له تحت اسم: مواطن مجهول

ويمكن الحصول على النص الكامل للكتاب ورقيا: https://bit.ly/2y5Z5Jm
كما يمكن تحميله ضمن كتبي العربية
https://www.sami-aldeeb.com/livres-books/

------------------
عزيزي المسلم،
شاهدت قبل مدة في قناة الناشونال جيوغرافيك فيلما وثائقيا غريبا عن إحدى القبائل النائية والتي تعيش في وسط أدغال افريقيا. لا أذكرُ بالضبط أين يقيمون فقد مرّ على مشاهدتي لهذا الفلم سنوات، ولكنّ الذي أذكره جيدا أنهم كانوا منعزلين في منطقة بعيدة عن الحضارة تقع جنوب الصحراء الكبرى من جهة الغرب، ربما في ناميبيا. قصتهم عجيبة وطريقة حياتهم غريبة، دعني أحكي لك شطراً منها مازلت أذكره جيدا ولا أستطيع محوه عن مخيلتي. يعيش أفراد تلك القبيلة في جماعاتٍ صغيرة وفقا لطقوسهم البدائية ولغتهم الخاصة بهم معتمدين في معيشتهم على الصيد وتربية المواشي، أما لباسهم فلا يكاد يستر شيئا من أجسامهم ولكنّ شيئا عنهم ما زال عالقا في ذاكرتي. أذكر أنه في وسط القرية غرفة متوسطة الارتفاع تحيط بها السلالم من جهتين وعلى كل من أقبل نحوها أن يصعد أحد السلالم من جهة ويفترش سطح ذلك المبنى مدة يسيرة يتمتم فيها ببعض الكلام ويقبّل أثنائها حجرا موضوعا بعناية في زاوية من سطح تلك الغرفة ثم ينزل منها الى الجهة الأخرى ويكمل مسيره الى جدار منتصب حاملا معه بعض قشور الموز التي تشتهر في تلك المنطقة ثم يرمي بها الجدار حتى تتجمع قشور الموز أسفل ذلك الجدار مكونة جبلا صغيرا من قشور الموز التي تُرمى. الأغرب من ذلك، أنه في وقت محدد من اليوم، يعلنه ساحر القبيلة، يمتنع أفراد تلك القبيلة عن تناول أي مأكول أو مشروب، حتى الماء غير مسموح لهم بتذوقه بالرغم من شدة حرارة الجو عندهم والويل ثم الويل لمن يتجرأ فيكسر تلك الطقوس ويأكل شيئا أو يشرب قطرة من الماء. شاهدت ذلك وتعجبت من تلك الطقوس الغريبة.
أتدهشك عزيزي المسلم طقوس تلك القبيلة البدائية في أفريقيا حين تسمع بها أو تقرأ عنها وهل ترى فيها شيئا غريبا خارجا عن المألوف مما تعوّده الناس وألفوه؟ غرفة يصعدون فوقها ليقبّلون سطحها وجدارا يرمونه بقشور الموز ووقت من اليوم يتوقفون فيه عن الأكل والشرب!! ألا يذكّرك ذلك بشيء تفعله أنت أحيانا من دون تفكير وتراه عاديا دون أن تتعجب منه أو تتساءل؟ ألا تتوقف مثلهم عن الأكل والشرب في وقت معلوم وتسمي ذلك صوما؟ ألا تدور حول غرفة وتقبّل جانبا منها بدلا من سطحها ثم ترمي جدارا بحصى بدلا من قشور الموز التي يرميها أولئك وتسمي ذلك حجّاً مبرورا! قد تتوقف الآن فجأة لتبحث على عجل عن تفسيرات تعلّل لنفسك وتبرّر لها ما تفعل وكيف أن ما تمارسه أنت يختلف في الجوهر والمضمون عما تفعله تلك القبائل البدائية وإن تشابه في الشكل والهيئة، إذ لا يمكن أن تكون طقوسك أنت المسلم النقي التقي ابن هذه الأرض الطيبة مثل تلك الأفعال التي يمارسها أولئك القوم البدائيون في تلك الأدغال. أتظنُّ ذلك فعلا؟! أتظن أن هناك اختلافا في المضمون والجوهر ولو تشابه الشكل والمظهر؟ أنت لوحدك الآن مع نفسك ولستَ محتاجا لتبرّر ذلك الاختلاف لأحد. ما الذي حدث للتوّ؟ قد سمحت لعقلك أن يعيش حياة طبيعية لوهلة قصيرة، ربما بضع ثوان حين تعجبت من صنيع أولئك واندهشت من عملهم ثم ما لبث تفكيرك المتسائل وعقلك الناقد الفاحص أن خفتَ وبهتْ ثم عاد لوضعه السابق الذي ألف وتعوّد عليه ليظنّ أن العجيب والغريب إنما هو عند أولئك والطبيعي والمعتاد هو عندك بينما الطبيعي حقا هو تساؤلك المنطقي عن الفعل الذي أثار دهشتك بغض النظر عمن يمارسه.
حسنا، سأعترف لك أني لم أشاهد ذاك الفيلم عن تلك القبيلة بالذات وإن كان ذلك وارداً، إلا أني أشاهد يوميا فيلماً لا يختلف عنه كثيرا سوى في التفاصيل يحدث بين المسلمين. أردت عزيزي المسلم أن تخوض معي هذه التجربة الفكرية لترى بنفسك أنّ كثيرا مما تفعل وتمارس باسم الدين والمعتقد وتحت بند التراث والعادات إنما هي أشياء ورثتها عمن سبقك، لا دخل لك بها. ولولا المكان الذي نشئت به وترعرعت لما تلبّستها ولبستك. وجدتَ مَنْ حواليك يعتنقها منذ صغرك فآمنتَ بها وأيقنتَ دون فحص ونقد. فكّر معي قليلا. هل تذكر كتابا واحدا في صفوف المدرسة التي تعلمت بها أو حتى صفحة من كتاب أو سطورا من صفحة أو ربما مقالة، غير ما تقرأه الآن؟ وهل حضرت خطبة أو درسا أو شاهدت برنامجا أو فيلما مصوّرا أو تسجيلا مسموعا مرّ عليك قبل ظهور الإنترنت رأيت فيه أو سمعت منه أو قرأت فيه كلاما يثير تساؤلا، مجرّد تساؤل، حول مصادر دينك أو محتواه أو نبيّه أو أصحابه فضلا عن أن يشكّك به أو يوجه انتقادا لآياته وما جاء فيها أو طريقة تسجيلها ونقلها أو يضع فحواها وما جاء من معجزاتها تحت المجهر ليفكّكها بعين الفاحص الساعي للحقيقة؟ كل أولئك الذين تدعوهم بالعلماء وطلبة العلم والباحثين والمشايخ ورجال الدين إنما هم مروّجين لفكرة مسبقة وُلدوا فوجدوا أنفسهم مسوّقين لها، لم ولن يفحصوها بعين الباحث المتجرد إذ لا يمكن أن يخلعوا عن أنفسهم عباءة التقديس التي خاطها لهم مجتمعهم، حتى لو أرادوا ذلك.
قد تكتفي الآن بالجواب المعلّب السهل أن افعل ولا تسلْ لأن أحدا قبلك قد فعلها. ألم يفعلها نبيك وأصحابه ورجالات دينه ومن جاء بعدهم حتى زمنك هذا وأمروك بها؟ ألا تجدُ هذا سببا كافيا لتفعل ما يُقال لك ويسعك ما وسعهم؟ إن كان جوابك نعم. افعل ولا تسلْ، قل ولا تفكر. فكن مستعدا لأن تقضي بقية عمرك وأنت تعتقد بأنك تدافع عن أفكارك بينما في الواقع أنت تدافع عن أفكار غيرك التي زرعوها فيك. إن لم ترَ بأساً في ذلك ولا مانعا من أن تردّد أفكار غيرك دون أن تعرضها على عقلك، فاعلم أن من يستطيع حملك على أن تعتقد بالمعجزات والكرامات دون دليل قادر على أن يحملك على ارتكاب الفظائع والمآسي دون دليل أيضا وهنا مكمن الخطر، ولا تنسَ أن الخرافة عندك هي دين عند غيرك، مثلما أن الدين عندك هو خرافة عند غيرك. إذعانك للسائد من القول والفكر وتصورك أنّ تلك المرجعية المتدثرة بغطاء القداسة هي أعرف منك وأفهم، وتكيّفك مع كل ما يأتي منها من خطأ وصواب، روايات وخزعبلات هو مما يعرف اليوم بالتوسل بالمرجعية التي يرى البعض أنها إحدى صور المغالطات المنطقية كما أنها على طرفٍ نقيض من المعرفة العلمية التي تناقش بحرية وتتساءل بعقلانية وتعترض على ما لا يقبله المنطق السليم.


مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية للقرآن بالتسلسل التاريخي وكتابي الأخطاء اللغوية في القرآن وكتبي الأخرى: https://sami-aldeeb.com/livres-books