آية حيرت المفسرين - فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 7765 - 2023 / 10 / 15 - 22:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

نقرأ في سورة مريم
22 - فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
23 - فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
24 - فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا
25 - وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
26 - فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا

سوف نتوقف في هذا المقال حصريا عند الآية 24 ونحاول تدبرها
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

تفسير الطبري
-----------
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن { فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها } ابنها.
حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال الـحسن: هو ابنها.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه { فَنادَاها } عيسى { مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي }.
حدثنـي أبو حميد أحمد بن الـمغيرة الـحمصي، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا مـحمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبـير، قوله { فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها } قال عيسى: أما تسمع الله يقول: { { فأشارَتْ إلَـيْهِ } .
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد { فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها } قال: عيسى ناداها: { أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعل رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا }.
حُدثت عن عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس، عن أبـي العالـية الرياحيّ، عن أبـيّ بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته فـي جوفها ودخـل من فـيها.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيـل، فردّه علـى الذي هو أقرب إلـيه أولـى من ردّه علـى الذي هو أبعد منه، ألا ترى فـي سياق قوله { { فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا } يعنـي به: فحملت عيسى فـانتبذت به، ثم قـيـل: فناداها نسقاً علـى ذلك من ذكر عيسى والـخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله: { { فأشارَتْ إلَـيْهِ } ولـم تشر إلـيه إن شاء الله إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: { أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إلـيه، ولو كان ذلك قولاً من جبرائيـل، لكان خـلـيقاً أن يكون فـي ظاهر الـخبر، مبـيناً أن عيسى سينطق، ويحتـجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إلـيه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.
فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويـل الذي بـيَّنا، فبـين أن كلتا القراءتـين، أعنـي { مِنْ تَـحْتِها } بـالكسر، و«مَنْ تَـحْتَها» بـالفتـح صواب. وذلك أنه إذا قرىء بـالكسر كان فـي قوله { فَنادَاها } ذكر من عيسى: وإذا قرىء { مِنْ تَـحْتِها } بـالفتـح كان الفعل لـمن وهو عيسى. فتأويـل الكلام إذاً: فناداها الـمولد من تـحتها أن لا تـحزنـي يا أمه { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } كما:
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { فَنادَاها مِنْ تَـحْتِها أنْ لا تَـحْزَنِـي } قالت: وكيف لا أحزن وأنت معي، لا ذات زوج فأقول ومن زوج، ولا مـملوكة فأقول من سيدي، أيّ شيء عذري عند الناس { { يا لَـيْتَنِـي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا } فقال لها عيسى: أنا أكفـيك الكلام.
واختلف أهل التأويـل فـي الـمعنـيّ بـالسريّ فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: عنـي به: النهر الصغير. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفـيان، عن أبـي إسحاق، عن البراء بن عازب { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: الـجدول.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول فـي هذه الآية { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: الـجدول.
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } وهو نهر عيسى.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: السريّ: النهر الذي كان تـحت مريـم حين ولدته كان يجري يسمى سَريا.
حدثنـي أبو حصين، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن عمرو بن ميـمون الأَوْدِيّ، قال فـي هذه الآية: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: السريّ: نهر يُشرب منه.
حدثنا يعقوب وأبو كريب، قالا: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن عمرو بن ميـمون، فـي قوله: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: هو الـجدول.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { سَرِيًّا } قال: نهر بـالسريانـية.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله، قال ابن جريج: نهر إلـى جنبها.
حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن الـحسن، فـي قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: كان سريا فقال حميد بن عبد الرحمن: إن السريّ: الـجدول، فقال: غلبتنا علـيك الأمراء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبـي حصين، عن سعيد بن جبـير { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } قال: هو الـجدول، النهر الصغير، وهو بـالنبطية: السريّ.
حدثنـي أبو حميد الـحمصي، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا مـحمد بن مهاجر، عن ثابت بن عجلان قال: سألت سعيد بن جبـير، عن السريّ، قال: نهر.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيـم، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: النهر الصغير.
حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، أنه قال: هو النهر الصغير: يعنـي الـجدول، يعنـي قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا }.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبـي، عن سلـمة بن نبـيط، عن الضحاك، قال: جدول صغير بـالسريانـية.
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله { تَـحْتَكِ سَرِيًّا }: الـجدول الصغير من الأنهار.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } والسريّ: هو الـجدول، تسميه أهل الـحجاز.
حدثنا الـحسن، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، فـي قوله { سَرِيًّا } قال: هو جدول.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم وعن وهب بن منبه { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } يعنـي ربـيع الـماء.
حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } والسريّ: هو النهر.
وقال آخرون: عنى به عيسى. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الـحسن { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } والسريّ: عيسى نفسه.
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } يعنـي نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها، ولا يكون النهر تـحتها.
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قـيـل من قال: عنى به الـجدول، وذلك أنه أعلـمها ما قد أعطاها الله من الـماء الذي جعله عندها، وقال لها { وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النَّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـاً جَنِـيًّا فَكُلِـي } من هذا الرطب { { وَاشْرَبِـي } من هذا الـماء { وَقَرّي عَيْناً } بولدك، والسريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير

تفسير الرازي
-----------
المسألة الأولى: فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه: الأول: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير. والثاني: أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد. والثالث: أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه: الأول: أن قوله: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحداً والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه، وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام، فقد صح قولنا. الثاني: أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة. الثالث: أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى: { { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ } [مريم: 22] والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى. والرابع: وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيراً لها بما تقدم من أصناف البشارات، وأما قوله: { مِن تَحْتِهَا } فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان: الأول: أن يكونا معاً في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى: { { إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [الأحزاب: 10] بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم: إنه ناداها من أقصى الوادي. والثاني: أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث: يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك.
المسألة الثانية: اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } فقال: إن كان لسرياً وإن كان لكريماً، فقال له حميد: يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك، واحتج من حمله على النهر بوجهين: أحدهما: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن السري فقال: هو الجدول. والثاني: أن قوله: { فَكُلِي وَٱشْرَبِي } يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله (على) عيسى بوجهين: الأول: أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله: { { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِي } [الزخرف: 51] لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز. الثاني: أنه موافق لقوله تعالى: { { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وَءاوَيْنَـٰهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } [المؤمنون: 50] والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان: الأول: إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان: أحدهما: أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب. والثاني: أنه كان هناك ماء جار. والأول: أقرب لأن قوله: { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه. الثاني: اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقاً وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش.

تفسير القرطبي
-----------
قوله تعالى: { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قرىء بفتح الميم وكسرها. قال ابن عباس: المراد بـ«ـمن» جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها؛ وقاله علقمة والضحاك وقتادة؛ ففي هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة التي لله تعالى فيها مراد عظيم. وقوله: { أَلاَّ تَحْزَنِي } تفسير النداء، «وأَنْ» مفسرّة بمعنى أي؛ المعنى: فلا تحزني بولادتك. { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يعني عيسى. والسريّ من الرجال العظيم الخصال السيّد. قال الحسن: كان والله سريّا من الرجال. ويقال: سَرِي فلان على فلان أي تكرم. وفلان سريٌّ من قوم سَرَاة. وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريب جذع النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهراً قد انقطع ماؤه فأجراه الله تعالى لمريم. والنهر يسمى سَرِيًّا كأنَّ الماء يسري فيه؛ قال الشاعر:
سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَّ منه أَزْوَرَاإذا يَعُبُّ في السَّرِيِّ هَرْهَرَا
وقال لبيد:
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَامَسْجُورَةً مُتَجَاوِراً قُلاَّمُهَا
وقيل: ناداها عيسى، وكان ذلك معجزة وآية وتسكيناً لقلبها؛ والأول أظهر. وقرأ ابن عباس «فَنَاداها ملك مِن تحتِها» قالوا: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها.

رأي الأستاذ مجدي حسين في كتابه التفسير التداولي
------------------
ما معنى من تحتها؟ مِن تحت مَنْ؟ ومَن الذي ناداها؟
أشعر عند قراءتي لهذه الآية بشيء من الإزعاج والإحراج لما يشعر قوله تعالى (مِنْ تَحْتِهَا) بظلال تأباها النفس على السيدة مريم البتول، فكأن الجملة القرآنية تكشف عورتها للقارئ وكأنها داخل غرفة العمليات لإنجاب طفلها وتم نقل هذه العملية على الهواء مباشرةً:
قيل: الذي ناداها عيسى عليه السلام، وهذا يعني أن قوله (من تحتها) كان على حقيقته فقد تم ذلك بعد ولادته مباشرةً وقد ناداها وهو بين رجليها.
وقيل: ناداها جبريل، واختلفوا في الكيفية والهيئة التي كان عليها في هذا الوقت فافترضوا أنه ناداها من مكان منخفض وهي في أعلى ربوة، وهذا محض خيال إذ ما الداعي أن يتم نداؤها على هذه الكيفية، قال القرطبي: وكان جبريل عليه السلام في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت هي عليها، وقال الطبري: فناداها جبرائيل من بين يديها على اختلاف منهم في تأويله.
وقيل المراد بقوله (من تحتها): من بطنها، ذكره الماوردي عن بعض المتكلمين بالقبطية، وقيل الضمير يعود على النخلة أي من تحت النخلة، وإذا كان الأمر كذلك فأين كانت مريم وطفلها هل كانت فوق النخلة؟!
وقرأ بعضهم (فناداها مَن تحتها)، وقُرئ (فخاطبها مَن تحتها)، وقرأ عيسى بن عمر (فناداها ملك من تحتها)، وكأن كل قارئ يقرأ وفق فهمه للعبارة، قال الزجاج: من قرأ (مَن تحتها) عني به عيسى، ومن قرأ (مِن تحتها) عني به الملك.

القراءة السريانية
-------------
قراءة وفهم لوكسنبرغ: فَنَادَاهَا مِنْ نُحَّاتِهَا (حال ولادتها، من الكلمة السريانية ܢܚܬ نْحِثْ) أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ نُحَّاتِكِ (ولادتك) شَرِيًّا (شرعية، من الكلمة السريانية ܫܪܝܐ شارْيا).
قراءة حنا إسكندر: فَنَادَاهَا مَن يُحِبُّهَا (أي ابنها) أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جُعِلَ (بمعنى صار) رَيُّكِ (بمعنى ارتواءك) تَحْتَكِ سارِيًّا (بمعنى جاريا).

وهناك نص من "انجيل شبيه متى" يتكلم عن رحلة يوسف ومريم ويسوع لمصر ويذكر أن نخلة انحنت لمريم بناء على طلب يسوع لتقطف ثمارها، ثم أمرها ان ترتفع وأن تفتح من جذورها مجرى من الماء "وفي الحال ارتفعت وعند جذورها بدأ تدفق نبع من الماء رائقا جدا وباردًا ولامعا. فحينما رأوا نبع الماء ابتهجوا بفرح عظيم" (ابوكريفا العهد الجديد، الكتاب الأول، الإنجيل شبيه متى، الإصحاح العشرون، ص 101).

هل القرآن كتاب مبين
-----------------
يكرر القُرْآن بأنه كتاب مبين وأن على الرسول البلاغ المبين في عدة آيات نذكر منها:
هـ112-5: 15 قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ
م48-27: 1 تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآن وَكِتَابٍ مُبِينٍ
م47-26: 195 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ
هـ112-5: 92 وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
هـ92-4: 63 أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا
اعتمادًا على مدح الذات هذا، يرى المُسْلِمُون أن القُرْآن هو قِمَّة البلاغة. يقول أحدهم: "القُرْآن الكَرِيْم هو المعجزة الخالدة، وهو أحسن الحديث، وهو في أعلى درجة من الفصاحة، وأرفع رتبة في البلاغة" . ويقول ثانٍ: "يَتَمَيَّز القُرْآن الكَرِيْم بالدِّقَّة في اختيار الكلمة، والدِّقَّة في اختيار مَوْضِعها، فإن قدَّم كلمة على أُخْرَى فلحكمة لُغَوِيَّة وبلاغِيَّة تليق بالسِّياق العام ". ولكن ما معنى البلاغة؟ وما مدى دِقَّة هذا الكلام؟
فما رأيكم زاد فضلكم؟
----------

مقتطف من كتابي
القرآن الكريم
بالتسلسل التاريخي وفقًا للأزهر
ويتضمن الرسم السرياني والكوفي والإملائي والعثماني مع علامات الترقيم الحديثة ومصادر القرآن وأسباب النزول والقراءات المختلفة والناسخ والمنسوخ والمعاني والأخطاء اللغوية والقراءة السريانية والعبرية
يمكن تحميل هذا الكتاب من هذا الرابط
https://www.academia.edu/66901372