محمود محمد طه (3)


سامي الذيب
الحوار المتمدن - العدد: 5468 - 2017 / 3 / 22 - 11:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

اشرككم هنا كما فعلت في مقالي السابقين وكما سأفعل في مقالاتي اللاحقة ببعض فقرات (غير نهائية) من كتابي الذي اعده عن المرحوم محمود محمد طه.
.
اختلاف محمود محمد طه عن غيره من المفكرين العرب والمسلمين
--------------------------------------------
يختلف فكر محمود محمد طه عن غيره من المفكرين التنويريين في أنه لا يلجأ إلى تقديس القرآن ككل. فهو يعتبر القرآن المدني، أو قل النظم القانونية التي يتضمنها القرآن المدني، يلائم مجتمع القرن السابع الميلادي ولكنه لم يعد صالحًا في عصرنا، وهو يعتبر أن القرآن المكي هو أساس الإسلام وإليه يجب العودة. وهنا يعكس تماما المبدأ الذي يقول به الفقهاء المسلمين قديما وحديثًا، لا بل القانون الوضعي، والذي يعتبر أن القانون اللاحق ينسخ القانون السابق إذا ما تعارضا. ويتجنب المفكرون والسياسيون والمشرعون العرب والمسلمون أي نقد للقرآن ويلجأون للتقية والتزويق.
وتجدر الإشارة هنا أن القرآن المكي لا يتضمن نصوصًا قانونية ولكن مبادئ عامة مثل مبدأ المسؤولية والحرية الفردية وحرية الإعتقاد ومبدأ العدل ومبدأ المساواة. أما القرآن المدني فهو الذي يتضمن النظم التشريعية المختلفة والتي تصطدم مع مباديء حقوق الإنسان المتعارف عليها في عصرنا.
.
ويلاحظ هنا أن الدستور المصري يقول في مادته الثانية "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". فقد تم التفريق بين الشريعة الإسلامية ككل ومبادئ الشريعة الإسلامية، بينما في دساتير أخرى مثل اليمن والكويت والبحرين وقطر والإمارت فقد ذكرت "الشريعة الإسلامية" دون تمييز. ولا تتعجب إن انضم مواطنو هذه الدول لداعش لكي يقتلوا مخالفيهم ويسبوا ويسترقوا ويفرضوا الجزية ويهدموا الآثار وغيرها من التصرفات الإجرامية والتي جاءت مفصلة في كتب الشريعة الإسلامية ومن ضمنها كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد للفيلسوف ابن رشد الذي يعتبره البعض فيلسوفًا تنويريًا. والفرق بين محمود محمد طه ورجال الدين أنه يريد فقط تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية وليس الشريعة الإسلامية ككل. وهو ما لا يرضي رجال الدين الذين يعتبرون الشريعة، كل الشريعة، صالحة لكل زمان ومكان. ولذا خرج علينا الحويني ليقول بأن حل المشلكة الإقتصادية يكمن في تفعيل الجهاد وسلب أموال الكفرة واتسرقاقهم وبيعهم في أسواق النخاسة https://goo.gl/0ifgVg... كما كان قد فعل محمد... وكما جاء في كتب الفقه المعتبرة... وكما تفعل داعش. ومن هنا رفض الأزهر تكفير داعش.

وقد نصت المادة 7 من الدستور المصري على ما يلي: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة". وحقيقة الأمر جاءت القوانين المصرية مخالفة لهذه المادة بسبب ما جاء في الشريعة الإسلامية، وتحديدًا في القرآن المدني، من نظم. فهناك تمييز صارخ بين المواطنين لا يمكن ان ينكره عاقل. ولا حاجة هنا للدخول في التفاصيل. ويكفي هنا ذكر ان القانون لا يساوي بين الرجل والمرأة في الزواج والميراث والشهادة، كما انه لا يساوي بين المسلمين وغير المسلمين ولا يضمن حرية الإعتقاد. فالقوانين المصرية لا تعامل المواطين على أساس مبدأ المواطنة ولكن على أساس الإنتماء الديني. ولا عجب ان طالب عدد من علماء الأزهر، الرئيس عبد الفتاح السيسي بدعوة القائمين علي قناة "العقل الحر" للتوبة، وإذا لم يرجعوا عن مواقفهم فعليه ضرب رقابهم في ميدان عام، وإسقاط الجنسية عنهم https://goo.gl/MNu3vf. كما لا عجب إن تم زج المفكرين في السجون بتهمة ازدراء الأديان بينما الإسلام هو أكبر دين يزدري الآخرين.
.
وهذا التناقض الذي يفرغ الدستور من معناه هو أساس المشكلة في كل الدول العربية والإسلامية. وعلى سبيل المثال، تصرفات داعش من سبي واسترقاق وتدفيع الجزية وقتل المرتد وغيرها من التصرفات مطابقة تمامًا لتعاليم الإسلام المبنية على القرآن المدني. ولا حاجة للبحث في تصرفات داعش. فكل الدول العربية والإسلامية تطبق قوانين تتفق مع تعاليم الإسلام المدني منتهكة بذلك مبادئ القرآن المكي ومبادئ دساتيرها. ولو رجعنا إلى نظرية محمود محمد طه، فإنه يجب جعل الدستور أعلى من القوانين وليس العكس. فالمبادئ الدستورية تتفق مع القرآن المكي، ويعتبر القرآن المدني خرقًا للدستور.
.
من المؤكد أن فكر محمود محمد طه بالفصل بين ما يعتبره أصلًا في الإسلام (أي المبادىء العامة التي تصلح لكل زمان ومكان) وما يعتبره فرعًا (أي التشريعات التي تخالف تلك المبادئ)، والصراحة في التعامل مع القرآن هو السبيل الوحيد لحل التناقض بين مبادئ الدساتير والقوانين الأخرى.
ومنطق محمود محمد طه يمكن ان يُقبل حتى من المؤمن ذاته. فمحمود محمد طه رجل مؤمن بكل معنى الكلمة وأتباعه من الجمهوريين والجمهوريات لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبارهم خارجين عن الإسلام... إلا من قِبَل تجار الدين ومن لهم مصلحة في تطبيق القرآن المدني المخالف لحقوق الإنسان، وعلى رأسهم الأزهر الذي حرض على شنق المرحوم محمود محمد طه عام 1985.
.
والفصل بين القرآن المكي والمدني كفيل بتقريب وجهات نظر اتباع الديانات المختلفة وحتى الملحدين والربوبيين الذين لا يعترفوا بالكتب المقدسة بإعتبار ان كل تلك المجموعات لديها مبادئ متشابهة، ولكنها تختلف في النظم التي تطبقها والتي تتصدم مع تلك المبادئ. كما ان نظريته تتفق مع مبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها في عصرنا. وأما الإبقاء على القرآن المدني المخالف للقرآن المدكي فهو كفيل بأن يجر العالم إلى نزاعات لا نهاية لها.
.
وعلى المستوى المنطقي، فإن أسلوب محمود محمد بالتعامل مع القرآن بصورة صريحة يوفر على المفكرين المسلمين البهلوانيات التي يلجؤون إليها لتخريج حلول يمكن قبولها دون المس بالقرآن غثه وسمينه. كما ينهي التناقض بين من يقول بأن الإسلام هو دين سلام، ومن يرى أنه العكس من ذلك تمامًا. فالقرآن المكي يمكن قبوله كنص مسالم نوعًا ما، بينما لا يمكن بأي حال اعتبار القرآن المدني مسالمًا. وهذا التناقض نجده حتى بين الساسة والمفكرين الغربيين وهو نابع عن جهل بخفايا تعاليم الإسلام. وبفصل القرآنين عن بعضهما البعض نحل انفصام الشخصية لدى المسلمين الذين يناقضون انفسهم بإستمرار على عينك يا تاجر فيصبحون محل سخرية وشك من قِبَل أي عاقل عنده ذرة عقل. أنظر في هذا المجال التعليق على ما قاله شيخ الأزهر في اوروبا https://goo.gl/E8tCkk. وهذا ما قاد الكثيرين من المسلمين من ترك الإسلام والإلحاد، مع ما تمثل هذه الظاهرة من تحد للمجتمع العربي والإسلامي ما دام اننا نربط القرآنين ببعضهما البعض. فالملحد لا مكان له في هذا المجتمع، حتى ولا في المقابر.
.
النبي د. سامي الذيب
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية للقرآن بالتسلسل التاريخي: https://goo.gl/72ya61
كتبي الاخرى بعدة لغات في http://goo.gl/cE1LSC
يمكنكم التبرع لدعم ابحاثي https://www.paypal.me/aldeeb