أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية أنت هنا.. ديفيد نيكولز














المزيد.....

رواية أنت هنا.. ديفيد نيكولز


وليد الأسطل

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 18:13
المحور: الادب والفن
    


تبدو رواية "أنت هنا" You Are Here لديفيد نيكولز وكأنها تُكتب من منطقة رمادية في التجربة الإنسانية، تلك المنطقة التي لا تُعرّف نفسها عبر الصدمة، ولا تتأسس على الانهيار الدرامي، لكنها تنبع من لحظة أعمق وأخطر: لحظة إدراك التباطؤ. ما الذي يحدث للإنسان حين تهدأ الضوضاء الكبرى، حين تتراجع الطموحات الصاخبة، وحين لا تعود الحياة مسرحا للأحلام العريضة، ولا ساحة واضحة للفشل أيضا؟ أليس هذا الفراغ الهادئ، هذا التوازن المختل بين ما كان متوقّعا وما تحقق فعليًا، من أكثر الحالات الوجودية التباسا وإرباكا؟

يختار نيكولز أن يقيم نصه في هذا الهامش الزمني والنفسي، حيث لا يعود السؤال: ماذا خسرنا؟ ولا: ماذا ربحنا؟ يتحوّل السؤال إلى: كيف نستمر؟ وكيف يمكن للإنسان أن يسكن حياته من جديد بعد أن تآكلت السرديات التي كانت تمنحها المعنى؟ هنا تلتقي الرواية مع تقاليد الرواية التأملية الحديثة التي بدأت منذ فلوبير، وتعمّقت مع فرجينيا وولف، حين لم يعد الحدث هو مركز الثقل، وصار الوعي ذاته هو مسرح الكتابة.

مارني ومايكل -بطلا الرواية- لا يُقدَّمان كشخصيتين مأزومتين بالمعنى الكلاسيكي للأزمة. لا نواجه انفجارات نفسية، ولا اعترافات فجائية، ولا تحوّلات حاسمة. ما نراه هو حياة تتحرك ببطء، شعور دائم بأن شيئا ما انزلق دون أن يترك صوتا واضحا. مارني، المترجمة التي تعمل من عزلتها، تعيش داخل اللغة أكثر مما تعيش داخل العالم. ليست الترجمة عندها مهنة فحسب، لكنها صيغة وجودية: إعادة قول ما قيل في سياق آخر، ومحاولة إنقاذ المعنى من التآكل. أليست هذه حال الإنسان المعاصر نفسه، وهو يحاول ترجمة أحلامه القديمة إلى واقع لم يعد يشبهها؟ أليس كل فرد، بدرجة ما، مترجما لحياة لم تُكتب بلغته الأصلية؟

يستدعي اختيار نيكولز لمهنة مارني إرثا فكريا غنيا، بدءًا من تأملات فالتر بنيامين حول الترجمة بوصفها بحثا لا ينتهي عن المعنى، وصولا إلى تصورات بول ريكور عن التأويل باعتباره فعلا أخلاقيا قبل أن يكون لغويا. لا تنسحب مارني من العالم، لكنها تضع مسافة بينها وبين التجربة المباشرة، وكأن اللغة تمنحها أمانا لا يوفره الاحتكاك المباشر بالحياة. هل العزلة هنا ضعف؟ أم شكل آخر من أشكال المقاومة الصامتة؟

على الضفة الأخرى، يختار مايكل الجسد بوصفه أداة للفهم. لا يُقدَّم المشي الطويل في الطبيعة كعلاج نفسي ساذج، ولا كهروب رومانسي إلى المناظر الخضراء، لكنه إيقاع بديل لتنظيم الفوضى الداخلية. الخطوة تلي الخطوة، ويتشكّل الزمن وفق حركة القدمين. يعيد هذا التصور إلى الأذهان نيتشه حين كتب أن الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي، كما يستحضر روسو في تأملاته حول المشي بوصفه فعل تفكير، حيث يدخل الجسد والعقل في حوار لا وساطة فيه.

لا يقوم اللقاء بين مارني ومايكل على وعد الخلاص، ولا على فكرة الاكتمال العاطفي. لا أحد منهما يأتي لينقذ الآخر، ولا أحد يحمل إجابة جاهزة. ما يجمعهما هو إدراك مشترك بثقل الزمن، وبأن الحياة لا تُقاس فقط بما تحقق، لكنها تُقاس أيضا بما ظل مؤجلا، بما لم يحدث، وبما لم يعد ممكنا حدوثه. تقترب هذه العلاقة من تصورات إيمانويل ليفيناس عن اللقاء الإنساني، حيث لا يُختزل الآخر في دور وظيفي داخل حياتنا، لكنه يظل حضورا أخلاقيا يذكّرنا بمسؤوليتنا تجاه الوجود.

لا يظهر الطريق في يوركشاير كفضاء خلاص طبيعي، ولا كرمز رومانسي جاهز. الطبيعة هنا صامتة، محايدة، قاسية أحيانا، رحيمة أحيانا أخرى. المطر، التعب، الفنادق المتواضعة، تغيّر الطقس، كلها عناصر لا تشرح شيئا، لكنها تفرض على الشخصيات أن تعيد ترتيب علاقتها بذاتها. المكان، بهذا المعنى، ليس خلفية للأحداث، لكنه شرط للتفكير، كما عند هايدغر حين رأى أن الوجود لا ينفصل عن المكان الذي يتحقق فيه.

يحمل الحوار في الرواية سخرية دقيقة، غير استعراضية، سخرية تعرف حدودها. لا يُستخدم الضحك هنا لتخفيف الجدية، لكنه يعمل كآلية لتوزيع ثقل المعنى، وكطريقة للقول دون الوقوع في المباشرة. يذكّر هذا الأسلوب بصموئيل بيكيت، حيث تعترف اللغة بعجزها، فتدور حول المعنى، تلمسه دون ادعاء امتلاكه. هل الضحك في مثل هذه النصوص هروب؟ أم شكل من أشكال الحكمة المتأخرة؟

مع تقدّم السرد، تتكثّف الأسئلة الوجودية دون أن تُطرح بصيغة تقريرية: ماذا يتبقّى من الإنسان حين تتآكل وعود الشباب؟ كيف يمكن بناء علاقة دون أوهام كبرى؟ وهل اللقاء العابر قادر على إعادة تشكيل الرؤية، حتى لو لم يغيّر الوقائع؟ لا تبحث الرواية عن إجابات نهائية، وهي في ذلك تقترب من تقاليد الرواية الفلسفية التي ترى في السؤال قيمة بذاته، كما عند ميلان كونديرا حين اعتبر الرواية فضاء للتفكير في الاحتمالات، لا محكمة لإصدار الأحكام.

يفتح العنوان "أنت هنا" أفقا دلاليا واسعا. يبدو العنوان بسيطا، شبه إرشادي، ومع ذلك يحمل ثقلا وجوديا عميقا. ماذا يعني أن يكون الإنسان “هنا” فعلًا؟ هل الحضور حالة ذهنية؟ أم شجاعة أخلاقية؟ أم قبول مؤلم بالزمن كما هو؟ يحيل العنوان إلى سؤال الحضور الذي شغل الفلسفة منذ ديكارت، ومرّ عبر هوسرل، ووصل إلى تأملات معاصرة حول الوعي والذات.

في المحصلة، يقدّم ديفيد نيكولز نصا يثق في البطء، في التفاصيل الصغيرة، وفي التراكم الصامت للمعنى. "أنت هنا" رواية لا تعد بالقفزات الكبرى، ولا تقترح حلولا جاهزة، لكنها تذكّر القارئ بأن المشي ذاته قد يكون فعلا كافيا، وأن الاستمرار، رغم الغموض، قد يحمل قيمة أخلاقية وجمالية في آن واحد. أليست الحياة، في جوهرها، مسارا يُعاد فهمه أثناء المشي، لا عند الوصول؟



#وليد_الأسطل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية الهروب.. أوريلي فالوني
- رواية أولد فورست.. بيير-إيف توزو
- رواية السيدة دالاوي.. فرجينيا وولف
- أوروبا بين وهم الطمأنينة وتحوّلات الصراع العالمي
- رواية العالَم متعَب.. جوزيف إنكاردونا
- رواية ضوء السعادة.. إريك إيمانويل شميت
- رواية الراية الدامية مرفوعة.. بنيامين ديرشتاين
- رواية إل كامينو دي لا مويرتي.. قويدر ميموني
- كيمياء القراءة.. لماذا نعشق نصوصا وننفر من أخرى؟
- الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والحاجة إلى الانتقال من اللاهوت ...
- رواية رسائل إلى تافيت.. قويدر ميموني
- رواية ما لا يخفيه الظلام.. قويدر ميموني
- رواية البيت الفارغ.. لوران موفينييه
- مسلسل أحياء
- رواية مُحبَطات.. ماري فاراي
- رواية آخر جريمة قتل في نهاية العالم.. ستيوارت تورتون
- رواية شفق الأرملة البيضاء.. سيريل كارير
- رواية الصديق لويس.. سيلفي لو بيهان
- الذكاء الاصطناعي وهلاك الإنسان
- رواية لدغات الصمت.. جوهانا غوستاوسون


المزيد.....




- أحدثت بجمالها ثورة جنسية في عالم السينما.. وفاة بريجيت باردو ...
- عودة هيفاء وهبي للغناء في مصر بحكم قضائي.. والفنانة اللبناني ...
- الأمثال الشعبية بميزان العصر: لماذا تَخلُد -حكمة الأجداد- وت ...
- بريجيت باردو .. فرنسا تفقد أيقونة سينمائية متفردة رغم الجدل ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو، فماذا نعرف عنها؟ ...
- الجزيرة 360 تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير بمهرجان في الس ...
- التعليم فوق الجميع.. خط الدفاع في مواجهة النزاعات وأزمة التم ...
- -ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الأسطل - رواية أنت هنا.. ديفيد نيكولز