أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الحادية والعشرون: ضرورة التخلي عن النظرة المتخلفة للمرأة















المزيد.....



قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الحادية والعشرون: ضرورة التخلي عن النظرة المتخلفة للمرأة


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8568 - 2025 / 12 / 26 - 23:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في حدود سنة (٣٠٠٠٠–١٠٠٠٠ق.م) كان الإنسان يتصوُّر القوة الإلهية في شكل وماهية أنثوية، هي الأم الكبرى للكون. وبنى حول هذا الشكل الإلهي القديم بنية جديدة من التصورات والاعتقادات والأساطير، ذات فحوى ومضامين تتصل بالزراعة التي غدت جوهر حياته وأساس تنظيمه الاجتماعي والسياسي. فالديانة الأولى والحالة هذه هي ديانة زراعية في اعتقادها وطقسها، والأسطورة الأولى هي أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة في شكلها الوحشي، وشكلها المدجن الجديد الذي تشارك يد الإنسان في صنعه.
نجد في سومر الإلهة «نمو» الإلهة البدئية والمياه الأولى، و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية. وفي بابل نجد «ننخرساج» الأم - الأرض، وعشتار المقابلة لإنانا. وفي كنعان «عناة» و«عشتارت»، وفي مصر «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت»، وعند الإغريق «ديمتر» و«جايا» و«رحيا» و«أرتميس» و«أفروديت». وفي فرجيا بآسيا الصغرى «سيبيل». وفي روما «سيريس» و«ديانا» و«فينوس». وفي جزيرة العرب «اللات» و«العزى» و«مناة»، وفي الهند «كالي»، وفي حضارة السلت الأوروبية «دانو» و«بريجيت». ولكن الإلهة الأم اشتهرت باسمها البابلي «عشتار».
كانت المرأة بالنسبة لإنسان هذا العصر موضع حبٍّ ورغبة، وموضع خوف ورهبة في آنٍ معًا؛ فمن جسدها تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليبُ الحياة، ودورتها الشهرية المنتظمة في ثمانية أو تسعة وعشرين يومًا تتبع دورة القمر، وخصبها وما تفيض به على أطفالها هو خصب الطبيعة التي تهب العشب معاشًا لقطعان الصيد، وثمار الشجر غذاء للبشر. وعندما تعلَّم الإنسان الزراعة وجد في الأرض صنوًا للمرأة؛ فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد. لقد كانت المرأة سرًّا أصغر مرتبطًا بسرٍّ أكبر؛ سر كامن خلف كل التبديات في الطبيعة والأكوان؛ فوراء كل ذلك أنثى كونية عظمى، هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات، وإلى رحمها يئُول كل شيء كما صدر.
كانت إلهة وحيدةً تتربع على عرش الكون، ولكن مع اكتمال الشكل الاقتصادي الجديد، وتزايد الدور الاجتماعي للرجل بعد أن كان المجتمع حتى ذلك الوقت أموميًّا في جوهره، نجد إلى جانب الإلهة الكبرى ابنها الذي دعته عصور الكتابة بتموز أو أدونيس.
وبدأت الأنظمة الدينية تتزعزع مع بزوغ عصر الكتابة، وظهرت المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة. ومع انتقال السلطة في المجتمع إلى الرجل، وتكوين دولة المدينة ذات النظام المركزي، والهرم السلطوي والطبقي التسلسلي الصارم، الذي قام على أنقاض النظام الزراعي البسيط، يظهر الآلهة الذكور ويتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر.
فراس السواح، لغز عشتار
لعل ما يثير دهشة الباحث، تلك السقطة الرهيبة التي سقطتها الأنثى من عليائها – من مرتبة الألوهية – إلى تلك الدركة من الإنحطاط، التي بلغت أن صارت المرأة شيئاً من الأشياء والممتلكات، تباع وتشترى، وتحبس في البيت بين أربعة جدران، ولا ترى النور إلا بإذن زوجها، وإذا خرجت خرجت متسربلة خيمة سوداء، لا يرى من جسدها قدر أنملة، ماعدا العينان، ولا تشارك في الحياة العامة وميدان العمل والكسب، وليس لها مهمة إلا إرضاء الرجل الذي "يمتلكها" امتلاكاً حقيقياً لا مجازياً (لا يزال عقد القران في بعض المجتمعات العربية حتى الآن يسمى «عقد الملكة»!)، حتى صارت تورّث مع المتاع، فتتحول من ملكية زوجها المتوفى إلى ملكية أحد أقاربها أو أكبر أبنائها، وحتى شك الفلاسفة: هل لها نفس مثل الرجل أم لا؟
وفي عصرنا هذا، قد يظن ظان أن المرأة قد تحررت من إصر تلك الأغلال والأفكار العقيمة حول المرأة، إلا أنها لا زالت لها آثار باقية، تعبث بعقل الرجل والمرأة معاً.
كنت أستقل السيارة أنا وصديق لي، فاتصلت به زوجته (وهي أستاذة جامعية في كلية الطب، وحياتها كلها مؤتمرات وندوات وسفر) ففوجئت بأنها تسأله: ممكن أخرج؟ فتملكني العجب، كيف لسيدة مجتمع مثل هذه لا زالت تستأذن زوجها للخروج، وكأنها فتاة مراهقة لم تبلغ سن الرشد بعد! ما سر هذا الإصرار المقيت على التمسك بعادات جاهلية، تنال من كرامة المرأة ورشدها؟! فهي في المصنع، تؤدي عمل الرجل، ولا تنال أجر الرجل. وهي حين ترتكب جريمة الزنا يقتلها أخوها أو أبوها أو زوجها. وإذا بقيت حية ولم يقتلها أحد هؤلاء فإن المحكمة تحكم عليها بالسجن سنتين. أما الزوج فحين ارتكابه لجريمة الزنا يستطيع أن ينجو من العقوبة ما دام ارتكابه لها بعيدًا عن بيته. ثم هو قد لا يجد من الرجال غير الإعجاب برجولته.
سلامة موسى، المرأة ليست لعبة الرجل
إن الخطاب حول المرأة في العالم العربي المعاصر خطاب في مجمله طائفي عنصري، بمعنى أنه خطاب يتحدث عن مطلق المرأة/الأنثى ويضعها في عَلاقة مقارنة مع مطلق الرجل/الذكر. وحين تُحدَّد عَلاقةٌ ما بأنها بين طرفين متقابلين أو متعارضين، ويلزم منها ضرورةً خضوعُ أحدهما للآخر واستسلامُه له ودخولُه طائعًا منطقة نفوذه، فإن من شأن الطرف الذي يتصور نفسه مهيمنًا أن ينتج خطابًا طائفيًّا عنصريًّا بكل معاني الألفاظ الثلاثة ودلالاتها. ليس هذا شأنَ الخطاب الديني وحده، بل شأن الخطاب العربي السائد والمسيطر شعبيًّا وإعلاميًّا. وليس من الصعب كذلك أن نجد في نبرة خطاب «المساواة» و«المشاركة» إحساسًا بالتفوق نابعًا من افتراض ضمني يحمله الخطاب بمركزية الرجل/المذكر. فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل، وحين يُسمح لها بالمشاركة فإنما تشارك الرجل. وفي كل الأحوال يصبح الرجل مركز الحركة وبؤرة الفاعلية.
نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف، قراءة في خطاب المرأة
لقد كانت المرأة المسلمة راوية حديث ومجاهدةً إلى جانب الرجل ورأيها يؤخذ به بالشكل نفسه الذي يؤخذ برأي الرجل، وهي إلى جانب ذلك كانت ذات بلاغة وفصاحة. ويكفي بهذا الصدد الرجوع إلى مُصنَّفاتٍ من قبيل بلاغات النساء لابن طيفور أو أخبار النساء لابن القيم، أو غيرهما من المصادر العربية التي تتضمَّن أخبارًا عن النساء كالأغاني للأصفهاني والإماء الشواعر للسيوطي، وغيرها؛ للوقوف على موقع المرأة في المجتمع والثقافة العربيين الإسلاميين، والدَّور الذي لعبته سواء في مضمار السياسة أو الأدب أو الحياة العامة.
يقول قاسم أمين عن البلاد الغربية: يصحُّ أن يُقال فيها إن حياتها جهاد مستمر بين الحق والباطل والخطأ والصواب: جهاد داخلي بين أفراد الأمَّة في جميع فروع المعارف والفنون والصنائع، وجهاد خارجي بين الأمم بعضها مع بعض، خصوصًا في هذا القرن الذي ألغت فيه الاختراعات الحديثة المسافات والأبعاد، وهدمت الحدود الفاصلة والأسوار المانعة حتى إن الأشخاص الذين ساحوا في جميع أنحاء الأرض يُعدُّون بالألوف، وإذا ألَّف رجل من مشاهيرهم كتابًا تُرجِمَ في أثناء طبعه، وظهر في خمس أو ست لغات في آن واحد.
ولم يركن إلى حب السكينة إلَّا أقوام على شاكلتنا؛ فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال بنا الكسل إلى معاداة كل فكر صالح مما يعدُّه أهل الوقت حديثًا غير مألوف، سواء كان من السنن الصالحة الأولى، أو قضت به المصالح في هذه الأزمنة.
وكثيرًا ما يكتفي الكسول وضعيف القوَّة في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه فيقول: تلك بدعة في الإسلام. وما يرمي بهذه الكلمة إلَّا حبُّ التخلُّص من مشقَّة الفهم، أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء، كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية.
سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول نعم أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمَدُ طلب الكمال فيها.
قاسم أمين، تحرير المرأة
ويقول في تحرير المرأة، التي يصفها بالمرأة الجديدة: المرأة الجديدة هي ثمرة من ثمرات التمدن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب على إثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والظنون والخرافات، وسلمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها. ذلك حيث أخذ العلم يبحث في كل شيء، وينتقد كل رأي، ولا يسلم إلا إذا قام الدليل على ما فيه من المنفعة العامة. وانتهى به السعي إلى أن أبطل سلطة رجال الكنيسة، وألغى امتيازات الأشراف، ووضع دستورًا للملوك والحكام، وأعتق الجنس الأسود من الرق، ثم أكمل عمله بأن نسخ معظم ما كان الرجال يرونه من مزاياهم التي يفضلون بها النساء، ولا يسمحون لهن بأن يساوينهم في كل شيء.
كان الأوربيون يرون رأينا اليوم في النساء، وأن أمرهم مقصور على النقص في الدين والعقل، وأنهن لسن إلا عوامل الفتنة وحبائل الشيطان، وكانوا يقولون: إن ذات الشعر الطويل والفكر القصير لم تخلق إلا لخدمة الرجل، وكان علماؤهم وفلاسفتهم وشعراؤهم وقساوستهم يرون من العبث تعليمها وتربيتها، ويسْخرون من المرأة التي تترك صناعة الطعام وتشتغل بمطالعة كتب العلم، ويرمونها بالتطفل على ما كانوا يسمونه: خصائص الرجال.
فلما انكشفت عنهم غشاوة الجهل، ودخل حال المرأة تحت انتقاد الباحثين، اكتشفوا أنهم - هم أنفسهم - منشأ انحطاطها وسبب فسادها، وعرفوا أن طبيعتها العقلية والأدبية للترقي كطبيعة الرجل، وشعروا أنها إنسان مثلهم، لها الحق في أن تتمتع بحريتها، وتستخدم قواها وملكاتها، وأن من الخطأ حرمانها من الوسائل التي تمكنهم من الانتفاع منها.
نحن لا نكتب طمعا في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس الذين إذا سمعوا كلام الله، وهو الفصيح لفظه، الجلي معناه، لا يفهمه إلا إذا جاء محرفا عن وضعه، منصرفا عن قصده، برأي شيخ هو أجهل الناس بدينه! ولا يحبون الوطن إلا إذا تمثل لأعينهم في صورة قبيحة، وأخلاق رثة، وعادات سخيفة! وإنما نكتب لأجل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التي هي مستودع أمانينا في المستقبل، فهي التي - بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة - يمكنها أن تحتل مسألة المرأة المكان الذي تستحقه من العناية والبحث.
وليس هنا محل البحث عن الأسباب التي وقفت بهذه الجمعيات الشرقية عند حد العجز عن التخلص من الاستبداد المزمن الذي حرمها الترقي في المدنية، وحصر حركاتها في مدار واحد بدون أن تنتقل من مكانها، وإنما يهمنا هنا أن نثبت أمرًا يتعلق بموضوعنا وهو: وجود التلازم بين الحالة السياسية والحالة العائلية في كل بلد؛ ففي كل مكان حط الرجل من منزلة المرأة، وعاملها معاملة الرقيق حط نفسه وأفقدها وجدان الحرية. وبالعكس في البلاد التي تتمتع فيها النساء بحريتهن الشخصية، يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطا كليا.
وآن لسائل أن يسأل: أيُّ الحالتين أثرت في الأخرى؟ نقول: إنهما متفاعلتان، وإن لكل منهما تأثيرًا في مقابلتها. وبعبارة أخرى: إن شكل الحكومة يؤثر في الآداب المنزلية، والآداب المنزلية تؤثر في الهيئة الاجتماعية.
انظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه.
ثم انظر إلى البلاد الأوربية تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من اعتبار وحرية الفكر والعمل،
أما مملكة روسيا، فمركزها الجغرافي قضى بأن تتأثر بالعادات الشرقية؛ ولهذا فقد عاش نساؤها من أهل الطبقة العالية والطبقة الوسطى محجوبات كنساء الشرق، مسجونات في البيوت، محرومات من التربية والتعليم، وليس لهن من الحقوق إلا ما تسمح به رحمة أزواجهن وأوليائهن، ولم تبطل هذه العادة من البلاد الروسية إلا في سنة ١٧٢٦ حيث صدر أمر عال من «بطرس الأكبر» بإلغاء الحجاب مرة واحدة، ثم توالت بعده الإمبراطورة «كاترين» فتممت عمله واشتغلت من سنة ١٧٦٢ إلى ١٧٩٧ بتأسيس المدارس للبنات، ونشرت بينهن التربية العقلية والأدبية. ولم يمض على هذه النهضة العظيمة زمن كبير حتى رأت الحكومة الروسية أن تقدم النساء في المعارف له أثر كبير في حالة الأمة السياسية.
ومع أن الاستبداد السياسي أصبح في حالة النزع، وأشرف على الفوات، بحيث لا ترجى له عودة، لا يزال الرجال عندنا يستبدون على نسائهم.
نعم، إن معاملة الرجل للمرأة بهذه الطريقة الفظة المستهجنة تشاهد في الغالب في بعض الطبقات، خصوصا في بلاد الأرياف، لكن استعباد المرأة في الطبقات الأخرى وفي المدن موجود على أشكال أخرى. فالرجل الذي يحجر على امرأته ألا تخرج من بيتها لغير سبب سوى مجرد رغبته في أن لا تخرج، لا يحترم حريتها، فهي من هذه الجهة رقيقة بل سجينة، السجن أشد سلبا للحرية من الرق. ولا يقال: إن عدد الرجال الذين يسجنون نساءهم صار اليوم قليلا، فإنه وإن قل بالنسبة إلى الماضي، لكن كلنا نعلم أن من النادر جدا أن تكون المرأة متروكة لإرادتها واختيارها في ذهابها وإيابها.
وإن المرأة التي تبتلى برجل لا ترضى نفسها بمعاشرته، فليس لها إلى الخلاص منه سبيل، فتزويج المرأة برجل تجهله، وحرمانها حق التخلص منه، ومع إطلاق الإرادة للرجل في إمساكها وتسريحها كيف يشاء، هو استعباد حقيقي.
قاسم أمين، المرأة الجديدة.
يقول الأستاذ سلامة موسى: قرأت في ذلك كلمة كتبها كاتب شرقي مصري من كتابنا قبل بضع سنوات، هو المرحوم مصطفى صادق الرافعي. فقد وصف أحد مؤلفاته بقوله إنه يقوم موضوعه على «سبب واحد حول فلسفة البغض وطيش الحب ولؤم المرأة». وهو يقول في هذا الكتاب أيضًا: «قيل لحية سامة: أكان يسرُّك لو خُلقتِ امرأةً؟ قالت: فأنا امرأة غير أن سمِّي في الناب وسمِّها في لسانها.» لقد مات هذا المؤلف. وأعتقد أن الشبان الذين يقرءون هذه الكلمات يشمئزون لسبب واحد، وهو أنهم قد ارتقوا وتطوروا وعرفوا أن المرأة إنسان. ولا يمكن الإنسان في عموميته، أن يكون لئيمًا؛ لأن وصم المرأة باللؤم هو وصم للإنسانية كلها باللؤم. بل هو وصم للأمومة، وهي أحسن ما في الإنسانية، باللؤم.
إن الشباب المهذَّب هو الإنسان الإنساني الذي يحترم المرأة؛ ولذلك يستطيع أن يحبها الحب الشريف المقدس، إذ كيف يمكن أن يحب الشاب فتاة وهو يؤمن «بلؤم المرأة»؟ لقد وجدت كاتبًا أوربيًّا يصف حبيبته بقوله: «يا أخت قلبي». ووقفت عند هذا التعبير الجميل معجبًا، أتأمل هذا المعنى الحنون وهاتين الكلمتين الرقيقتين. إنه لفرق عظيم بين كاتب يفكر في المرأة فيذكر الحية والسم، أو يذكر اللؤم. وبين كاتب آخر يذكرها فيقول: يا أخت قلبي. من منهما الإنسان؟ من منهما الرجل البار؟
أيها الشاب المصري كن متمدنًا، وكن عصريًّا، وكن إنسانيًّا. تذكَّر أخت قلبك ولا تصدق من يقولون لك إن المرأة حية لها سم، وأنها لئيمة.
سلامة موسى، المرأة ليست لعبة الرجل

نظرة رجال الدين للمرأة
على الرغم من الأفكار الإنسانية الجديدة التي جاء بها السيد المسيح بالنسبة للمرأة - ومنها مثلًا: أنه لم ينظر إليها على أنها «جسد»، وعلى أن صورتها «عورة»، كما أنه لم يرفض الاختلاط بين الجنسين، وعالج المرأة كما عالج الرجل سواءً بسواء … إلى آخر هذه المواقف الجميلة التي سنتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد - فقد توارت كلها ليحل محلها التراث «اليهودي-الروماني»، الذي كان قائمًا في ذلك الوقت، والذي كان يمثل الأرض التي عملت عليها المسيحية عندما ظهرت. ومن المعروف أن التراث الروماني كان امتدادًا طبيعيًّا للتراث اليوناني بما يحمله للمرأة من كراهيةٍ ونظرة دونية، فضلًا عن أن التراث اليهودي كان يتبنى النظرة نفسها مع إضفاء صبغة دينية عليها، محاولًا أن يجعلها «إلهية» أو «مقدسة»، حتى استسلمت لها المرأة اليهودية في نهاية الأمر، واعتبرتها قضاء الله الذي لا راد لقضائه!
وهكذا نتبين أن الخلفية التي عملت عليها المسيحية منذ ظهورها لم تختلف قط عن تراث التاريخ الماضي، وهو تراث كان يعبِّر عن مصلحة الرجل ومنفعته في مجتمعٍ أبوي «ذكوري» يعمد إلى السيطرة على المرأة واعتبارها في مرتبةٍ أدنى، أما إذا كانت زوجة فقد أراد لها أن تبتعد عن كل إثارة، حتى يضمن سلالة من الأبناء من صُلبه نقية «خالصة» ليس فيها دماء غريبة، حتى ترث ما يملك!
فإذا صحَّ ما قاله عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي «لويس هنري مورجان» L. H. Morgan (١٨١٨–١٨٨١م) من وجود رابطة قوية بين المِلكية الخاصة ووضع المرأة (والزوجة بصفةٍ خاصة) لكان في ذلك تفسير بالغ الوضوح لعزلة المرأة (الزوجة أو من تصلح أن تكون زوجة) و«تعقيمها» ولفها في ثيابٍ كثيفة، حتى لا يظهر من جسدها شيء فيكون مدعاة للإثارة والفتنة وجذب الرجال! فالمرأة هنا هي «وعاء الذرية» الذي لا بد أن يظل نقيًّا خالصًا من الشوائب، ومن هنا كان لا بد من حجبها عن الأنظار، حتى تضمن سلالة من صلب الزوج صاحب هذه الملكية.
ومن الغريب حقًّا ألَّا تستطيع الأديان - رغم سماحتها وتقديرها للمرأة كموجودٍ بشري - أن تتغلب على هذه الظاهرة: طغيان الرجل وسيطرته، بل وملكيته للمرأة. وهكذا يضيع إنصافها للمرأة وسط خضَمِّ العادات والتقاليد الذي تتوارى معه الأفكار الإنسانية الجديدة، لتعاود أفكار التراث القديم الظهور مرة أخرى.
فالتراث القديم الذي كان سائدًا فيما قبل ظهور المسيحية - وهو التراث «اليوناني-الروماني» من ناحية، واليهودي من ناحيةٍ أخرى - يحجب أفكار السيد المسيح الجديدة عن المرأة، حتى إن بولس الرسول اليهودي الذي عاش في بيئةٍ يونانية-رومانية يأتي ليدعم التراث القديم، ويثبِّت أفكاره، ويضع حجر الأساس في بناء النظرية المسيحية عن المرأة التي سادت عصر الآباء الفلاسفة، كما رددها فلاسفة العصر الوسيط أيضًا!
في بحثه (الفيلسوف المسيحي والمرأة) لاحظ د. إمام عبد الفتاح إمام أن نظرة اللاهوتيين والفلاسفة المسيحيين - كعادة رجال الدين دائمًا- تركز على «الجنس»؛ فالمرأة لا هي إنسانة، ولا صديقة، ولا زميلة … إلخ، ولكنها مجرد «وعاء للتناسل». كما سيقول القديس «أوغسطين» الذي مارس الزنى مع كثيرٍ من الغواني في شبابه، حتى اختص نفسه في النهاية «بغانية» أنجب منها ابنًا سماه «ابن خطيئتي»! ثم ندم على حياته الماضية ندمًا شديدًا حتى وَدَّ لو كان «خَصيًّا»! يقول: «… آه! لو أني ارتضيت أن أكون خَصيًّا — حبًّا في مملكة السماء — لكنت الآن أوفر سعادة»! أما أورجين السكندري Orgien (١٨٥–٢٥٤م)، فقد نفَّذ هذه الأمنية بالفعل عندما نذر نفسه للعفة الدائمة؛ فقام ببتر أعضائه الجنسية فخصى نفسه! لأنه لم يكن جامدًا بليدَ الإحساس بحيث يصمد أمام مغريات الجسد على حد تعبيره …!
كما لاحظ د. إمام في كتابه أيضاً أمرين: كراهية الجسد، وهي التي كانت فلسفية عند أفلاطون، وقد أصبحت دينية عند الفيلسوف المسيحي، كما لو كان الجسد شيئًا منفصلًا عن الإنسان! وهو موضوع فصَّلت فيه الفلسفة الوجودية المعاصرة، وأجادت لفت الأنظار إلى أهميته. والأمر الثاني هو: الماضي «الملوَّث» لكثيرٍ من القديسين الذين تركوا الحبل «على الغارب» في فترة الشباب، ثم عادوا في شيخوختهم إلى الندم والبحث عن «كبش فداء» يُلقُون عليه باللائمة، فتكون «المرأة»: تلك الشيطانة الجميلة التي دعتني فلبَّيت!
د. إمام عبد الفتاح إمام، الفيلسوف المسيحي والمرأة
ومن رحم تلك النظرة الجنسية للمرأة وُلدت فكرة الإخفاء والصون من أعين الرجال الأغراب، لأنها في نظر الرجل ملك من الممتلكات، لا يصح أن يناله أحد ولو بالنظر.
وفي الحالات التي يوجَّه فيها انتقاد شديد، بلُغة عصرية، إلى هذا الربط بين كيان المرأة وفكرة الصَّون، ويُكشَف المضمون المتخلِّف لهذه الدعوة، فإنَّ الدعاة الإسلاميين المدافعين عن هذا الموقف يتخذون لأنفسهم موقعًا غير مُتوقَّع، يتصوَّرون أنَّه كافٍ لإقناع العقول بأنَّ آراءهم تُمثِّل ذروة التحرُّر بالنسبة إلى المرأة؛ إذ يتَّجهون على الفور إلى المقارنة بين وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الجاهلية، لكي يثبتوا أنَّها قد أحرزَت مكاسب هائلة. ولا أجد نفسي في حاجة إلى أن أقتبس إشاراتٍ في كتابات هؤلاء الإسلاميين، إلى تلك المقارنة المتكررة بين الجاهلية والإسلام، كلَّما نُوقِشَت مشكلة المرأة، لأنَّ أيَّ قارئ لديه أبسط إلمام بما يقوله الإسلاميون المعاصرون عن المرأة في كُتُبهم وأحاديثهم وندواتهم وخُطَبهم، لا بدَّ أنَّه صادف مثل هذه المقارنة مئات المرات. ومع ذلك فإنَّ أحدًا من هؤلاء الدُّعاة لا يُكلِّف نفسه عناء التساؤل: ما لنا نحن والجاهلية؟ وهل يمكن أن نحصر مشكلة المرأة العصرية، التي تعيش حياةً معقَّدةً تكتنفها الصعوبات والمشاكل من كل جانب، في إطار المقارنة مع وضعها في عصر شِبه بدائي مضَت عليه عشرات القرون؟ وهل وجود المرأة في وضع أفضل ممَّا كانت عليه في عصر الجاهلية، يكفي لكي نقتنع — في عصرنا الحالي — بأنَّها قد تحرَّرَت بالفعل؟
د. فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل
حين تُناقَش المشكلات الاجتماعية عامة — ومشكلة المرأة خاصة — من منظور الدين والأخلاق تتبدد جوانب المشكلة، وتتوه في ضباب التأويلات الأيديولوجية النفعية للنصوص الدينية. الأهم من ذلك أن المناقشة من منظور الدين والأخلاق تُعَد إخفاءً متعمدًا للبعد الاجتماعي والاقتصادي من جهة، وتجاهلًا قصديًّا لعَلاقة المرأة بالرجل في سياقها الحقيقي وإطارها الفعلي. ولن تؤدي التأويلات النفعية الأيديولوجية للنصوص الدينية إطلاقًا إلى تغيير وضع المرأة — والوضع الإنساني عمومًا — سلبًا أو إيجابًا، إذ ليس بتأويل النصوص الدينية يحيا الإنسان.
كما أن الخطاب الديني الذي يجعل من النصوص الدينية مرجعية أساسية في مناقشة كل قضاياه، ينافس خطاب النهضة في ادعاء «المساواة» بين الرجل والمرأة. وهو في هذا الادعاء يستند — كما سبقت الإشارة — إلى نصوص المساواة في الثواب الأخروي على الطاعة الدينية، وخاصة في مجال تأدية الشعائر. وحين تجابهه نصوص أخرى لا تدعم هذه المساواة، كالمواريث والشهادات أمام المحاكم والطلاق وتعدد الزوجات … إلخ، يبدو موقف الخطاب تبريريًّا إلى حدٍّ كبير.
د. نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف

وعلينا في هذا السياق أن نبدد بعض الأوهام الأيديولوجية عن تدني وضع المرأة في الخطاب القرآني بصفة خاصة استنادًا إلى مسألة جعل ميراث المرأة نصف ميراث الرجل، ذلك أن معيار التقييم يجب أن يكون «حالة» المرأة ووضعها في المجتمع قبل نزول الوحي، لا مجرد المقارنة بين الخطاب القرآني وبين «تمنياتنا» المشروعة لوضع المرأة. استنادًا إلى هذا المعيار يُعتبر توجيه الخطاب لمرأة مستقلة عن الرجل في الخطاب القرآني بمثابة وعي جديد غير مسبوق إلا بإرهاصات نجدها في شعر الشعراء «الصعاليك» إذا قورن بشعر شعراء القبائل من هذه الزاوية.
إن ما أعطاه الإسلام للمرأة من حقوق قد تجاوز في بعض الجوانب ما تحقق للمرأة الأوروبية بعد عصر النهضة: «ولكن وا أسفاه! قد تغلبت على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها عن الأمم التي انتشر فيها الإسلام، ودخلت فيه حاملةً ما كانت عليه من عوائدَ وأوهام (الإشارة إلى الأتراك)، ولم يكن العرفان قد بلغ بتلك الأمم حدًّا يصل بالمرأة إلى المقام الذي أحلتها الشريعة فيه. وكان أكبر عامل من استمرار هذه الأخلاق توالي الحكومات الاستبدادية علينا».
د. نصر أبو زيد، دوائر الخوف، والمقطع الأخير نقلاً عن قاسم أمين.
إن خطاب الطاهر الحداد عن المرأة بعد قاسم أمين بحوالي ثلاثين سنة (١٩٢٩م)، استطاع أن يتجاوز إلى حدٍّ ما مسألة «التأويل المضاد» أو «القراءة الأخرى» للإسلام ولنصوصه. ويطرح مفهوم «النسبية» أو «التاريخية» تفسيرًا لأحكام الإسلام عن المرأة. إنها فيما يرى الطاهر الحداد ليست أحكامًا نهائية، بل هي أحكام نابعة من وضعية المجتمع الذي أُنزلت فيه، وهو مجتمع كانت أحوال المرأة فيه أقرب إلى وضع العبودية منه إلى أي وضع آخر: «في الحقيقة إن الإسلام لم يعطنا حكمًا جازمًا عن جوهر المرأة في ذاتها. ذلك الحكم الذي لا يمكن أن يتناوله الزمن وأطواره بالتغيير. وليس في نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى. إنما الذي يوجد أنه أبان عن ضعف المرأة وتأخرها في الحياة تقريرًا للحال الواقعة، ففرض كفالتها على الرجال مع أحكام أخرى بُنيت على هذا الاعتبار. وقد علل الفقهاء نقص ميراثها عن الرجل بكفالته لها. ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير. على أننا نجد الإسلام نفسه قد تجاوز هذه الحالة التي وجدها أمامه في كثير من أحكامه اعتبارًا بضرورة تبدلها مع الزمن، فقرر للمرأة حريتها المدنية في وجوه الاكتساب وتنمية المال بالتجارة وغيرها من التصرفات. وحقق لها وصف الذمة فتُعامِل وتُعامَل مما يدفعها إلى أعمال لم تعهدها. وليس فيها في ذلك العصر من أمارات الاستعداد لها ما يطمئن على نجاحها».
إن القراءة الحرفية وحدها هي التي تقف عند العارض، لأنها قراءة تستبعد السياق الاجتماعي للتنزيل ومن ثَم للأحكام التي يتضمنها. من هنا ينطلق الطاهر الحداد من حديث الفقهاء عن «محدودية» النصوص و«لامحدودية» الوقائع، ولكنه لا يقف مثلهم عند حدود «القياس» بمعناه الفقهي: إخضاع الوقائع الجديدة للأحكام بعلة التناظر أو التشابه أو استنباط علة الحكم … إلخ، بما هو معروف في علم «أصول الفقه». إنه يتأمل ظاهرة «النسخ» في النصوص الدينية — تغيير الأحكام — ويفهمها في سياقها الحقيقي مستنبطًا دلالتها الخطيرة: «إن الحياة طويلة العمر جدًّا، وبقدر ما فيها من الطول بقدر ما فيها من الأطر المعبرة عن جوهر معناها وأخصِّ ميزاتها. ونحو عشرين سنة من حياة النبي ﷺ في تأسيس الإسلام (في المدينة)، كفت بل أوجبت نسخ نصوص بنصوص، وأحكام بأحكام اعتبارًا لهذه السُّنَّة الأزلية. فكيف بنا إذا وقفنا بالإسلام الخالد أمام الأجيال والقرون المتعاقبة بعدُ بلا انقطاع ونحن لا نتبدل ولا نتغير؟».
هذه الحياة لا تستوعبها النصوص لفرط طولها وتعدد أطوارها واختلافها، فما بالنا وهذه النصوص ذاتها تحمل في دلالتها بصمات زمنها وتحيل بدلالتها المباشرة إلى واقع الحياة — الواقع الاجتماعي — الذي تنزلت فيه. من هنا لا بد من التفرقة بين الجوهري و«العرَضي»، بين «الثابت» و«المتغير» في دلالة تلك النصوص. هنا مرة أخرى لا يقف عند «المقاصد» بالمعنى الذي تحدد عند الفقهاء والأصوليين — والشاطبي بصفة خاصة — في الحفاظ على النفس والمال والدين والعرض … إلخ. يتجاوز الحداد هذا المفهوم الفقهي للمقاصد الكلية ليجعل «العدل» مقصدًا كليًّا أساسيًّا، يستوعب الجزئيات والتفاصيل بما فيها العقيدة والأخلاق: «يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيِّن بين ما أتى به الإسلام وجاء من أجله — وهو جوهره ومعناه، فيبقى خالدًا بخلوده كعقيدة التوحيد، ومكارم الأخلاق، وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس، وما هو في معنى هذه الأصول — وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشرية، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله دون أن تكون غرضًا من أغراضه. فما يصح لها من الأحكام إقرارًا لها أو تعديلًا فيها باقٍ ما بقيت هي، فإذا ذهبت ذهبت أحكامها معها. وليس في ذهابها جميعًا ما يضير الإسلام. وذلك كمسائل العبيد والإماء وتعدد الزوجات ونحوهما مما لا يمكن اعتباره حتى كجزء من الإسلام.»
إن البحث عن «المقصد» من خلال العرَضي والمتغير هو الكفيل بتقديم قراءة مشروعة للنصوص الدينية، قراءة موضوعية بالمعنى النسبي التاريخي. ذلك أنه مع تغير الظروف والملابسات والأحوال — طرائق الحياة وأطوارها على حد تعبير الطاهر الحداد — نحتاج إلى قراءة جديدة، تنطلق من أساس ثابت هو «المقصد» الجوهري للشريعة. من هنا تكتسب الأسئلة ذات الطابع التقريري، والتي يطرحها الطاهر الحداد على نفسه وعلينا مشروعيَّتَها، من حيث هي أسئلة جوهرية لكشف الثابت في دلالة النصوص. ويمكن أن يكون للسؤال صيغة عامة: «هل جاء الإسلام لأجل كذا … فنقول مثلًا: هل جاء الإسلام لتزكية نفوس المجرمين وتطهيرها من روح الشر والإجرام بما يضع لها من طرائق التزكية، أو جاء ليقتص منهم بإقامة الحد تنكيلًا بهم وبما صنعوا؟ وهل جاء الإسلام بالمساواة بين عباد الله إلا بما يقدمون من عمل، أو أنه جاء ليجعل المرأة بأنوثتها أدنى حقًّا في الحياة من الرجل بذكورته؟ وهل جاء الإسلام بتمكين الزواج حتى يثمر هناء العائلة ونمو الأمة، أو أنه جاء ليطلق يد الرجل فيه بالطلاق حتى يصبح اليوم كريشة في مهب الريح؟ لا شك أن الفرق واضح في الجواب عن هذه الأسئلة لمن أنعم النظر في الإسلام قليلًا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نبحث عن الإسلام الخالص فنميزَه عن الأغراض المحيطة به ونحميَ الخلط فيه».
ومن البديهي أن هذه الأسئلة التي تستهدف الوصول إلى «جوهر» الإسلام لا تتعلق فقط بالنصوص الخاصة بالمرأة، بل تتعلق بكل ما جاء في النصوص من أحكام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأسئلة مرهونة بطبيعة الإطار الاجتماعي الثقافي والفكري الذي يحددها، ولذلك يمكن أن تتغير الأسئلة، ويمكن أن تُطرح أسئلة جديدة. ومعنى ذلك أن «جوهر» الإسلام ليس معطًى ثابتًا، بل هو جوهر قابل دائمًا للاستنباط وإعادة الاكتشاف بحسب تطور الوعي الإنساني.
هذا يشرح لنا تقسيم كتاب الطاهر الحداد بين «الشريعة» و«المجتمع». وإذا كان قد بدأ بقسم «الشريعة» فلكي يبين أن أحكام الشريعة تجد تجذرها في الاجتماعي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن البدء بالشريعة من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام ممثلي الخطاب النقيض الذين لا يجدون في الشريعة سوى أحكامها الحرفية فيطالبون بتطبيقها، ويجعلون ذلك سبيل الخلاص والخروج من الأزمة.
وخطأ علماء المسلمين في مسألة الأحكام الخاصة بالمرأة ليس هو الخطأ الوحيد. إنه خطأ في مسألة واحدة، لكنه يمثل نموذجًا للخطأ العام: فصل الديني عن الدنيوي معرفيًّا (أساس الديني هو الإيمان، بينما أساس الدنيوي هو العقل)، في حين تتم المطالبة بالتسوية بينهما سياسيًّا. والمفارقة التي تصل إلى حد التناقض هنا أن الشعار السياسي — الإسلام دين ودنيا — يهدف إلى إخضاع الدنيوي للديني، أي للثيوقراطية. والثيوقراطية تعني ديكتاتورية من أبشع الأنماط، لأنها ديكتاتورية يعني الخلاف معها الإلحاد والزندقة وإقامة حد الردة … إلخ.
د. نصر أبو زيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة
لقد كرم الإسلام المرأة بالفعل، ولكنه لم يحررها من فكرة الدونية بالكامل، لأنه ظهر في بيئة تحتقر المرأة، ولم يكن من السهل اليسير أن يقضي على أنانية الرجل بشكل نهائي. وليس من الصحيح أن الدين يلغي كل أشكال وألوان الباطل بطريقة سحرية في فترة قصيرة، ولكنه يصحح ما يقدر على تصحيحه، وأما الأفكار والمعتقدات والأعراف الراسخة الصعبة العصية على الزوال، فإنه يتركها لسنة التطور كي تزيلها.
ولأن القرآن كتاب تاريخي، نزل في بيئة لها أعرافها وتقاليدها، فإنه تكلم بنفس لغة هؤلاء القوم وأعرافهم وتقاليدهم. وليس غريباً أن نجده يقنن دونية المرأة، فنجده يقول (وليس الذكر كالأنثى) وفي المواريث (للذكر مثل حظ الأنثيين).ونجد الله يستنكر على العرب وصف آلهتهم بالتأنيث (عبادة الإلهة الأم) فيقول: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى) ويؤذيه وصف الملائكة بالتأنيث (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً)! ماهو العظيم في هذا؟ هل المرأة أقل من الرجل؟ نحن اليوم حينما نريد أن نبالغ في وصف رحمة الأطباء والممرضات، نقول عنهم (ملائكة الرحمة). ومن المعلوم أن الملائكة ليس لهم جنس، فلا هم ذكور ولا إناث، والله نفسه كذلك.
وقد لفت نظري أثناء قرائتي في كتاب (محادثات مع الله) أن الله يستنكر عبارة (أبانا الذي في السموات) لأنها توحي بالسلطة، ويقول لنيل دونالد والش: الأحرى أن أكون أمك في الجنة. هذا حق، لأن ليس لله جنس، بل الأم أقرب لمفهوم الربوبية والعناية والحنان من الأب.
وقد لاحظت ام سلمة غياب الخطاب الايجابي الموجه للمرأة في القرآن وطالبت النبي محمد بالتكلم مع ربه من اجل معالجة الموضوع. يذكر جلال الدين السيوطي في كتابه (لباب النقول في اسباب النزول) : عن أم سلمة أنّها قالت: يارسول ألله لا أسمع ألله ذكر ألنساء في ألهجرة بشيء فأنزل الله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
ونلاحظ أن أسماء الملائكة في القرآن كلها أسماء ذكورية، جبريل وميكال (ميكائيل)، مع أن الملائكة لا جنس لها. ولعل ذلك ربما يرجع إلى نظرة العرب الدونية للمرأة، لكن على أي حال، نحن لسنا ملزمبن اليوم بنظرة العرب الجاهليين، التي اضطر القرآن أن يتعامل معها.
ومع أن القرآن لم يذكر أن حواء أغوت آدم ليأكل من الشجرة، ومن ثم أخرجتهما من الجنة، إلا أن هذه الفرية تسللت من اليهودية – عبر التوراة – إلى الإسلام من خلال الإسرائيليات، وبالتحديد: رواية رواها "وهب بن منبه" أحد مسلمة اليهود في صدر الإسلام، رواها عنه الطبري في تفسيره 1/335 فبصرف النظر عن أن القرآن لا يحمِّل حواء — في منطوقه — مسئولية خروج البشر من الجنة، يظل الضمير الإسلامي ينسب للمرأة وحدها — تأثرًا بهذه القصة — مسئولية تلك الجناية، هذا بالإضافة إلى الإيمان بأن العقاب الدائم الذي أوقعه الله بحواء عقاب لا سبيل للفِكاك منه، خصوصًا ما يتعلق منه بالحكم عليها بنقص العقل والدين. سأل الله آدم: يا آدم أنَّى أُتيتَ؟ (أي ما سبب وقوعك في عصيان أمري). قال: من قِبل حواء أيْ ربِّ، فقال الله: فإن لها عليَّ أن أُدْميها (أجعلها تنزف دمًا) في كل شهر مرة، كما أدميت الشجرة، وأن أجعلها سفيهة، فقد كنت خلقتها حليمة (عاقلة)، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتضع يُسرًا. ويعلق أحد الرواة على القصة قائلًا: «ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء الدنيا لا يحضْنَ، ولَكُنَّ حليمات، وكُنَّ يحملْنَ يُسرًا» ( تفسير الطبري ص٢٣٧) ومن الواضح أن وهب بن منبه نقل هذه التفاصيل عن التوراة، فقد جاء في سفر التكوين ما يلي: (فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر. فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل) فقال له الرب (هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟» وقال الرب للمرأة «تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك» سفر التكوين 1/6-16.

أصل استعباد المرأة
كان الاعتقاد السائد حتى القرن التاسع عشر، أن الأسرة في العصور البدائية تتخذ نفس الشكل الأبوي الحالي. ولكن مع أبحاث الأنثروبولوجيين اكتشف العلماء أن عائلة الإنسان البدائي كانت تشبه عائلة الحيوان في وقتنا؛ دون أب. أي تتألف من الأم وأبنائها في سن الرضاع أو ما يتجاوزه بقليل حين يستطيع هؤلاء الأبناء أن يستقلوا ويتركوا الأم، ولم يكن هناك مكان للأب في هذه العائلة الأولى؛ لأن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة لم تكن تزيد على إشباع الشهوة.
وكان الاعتقاد السائد أن الأم وحدها هي التي تنجب الأطفال. ولا يزال هذا الاعتقاد عامًّا عند بعض القبائل البدائية. كما أثبت ذلك مالينوفسكي في كتابه «الحياة الجنسية بين المتوحشين». فإن هؤلاء المتوحشين يقولون بأن المرأة تحمل لأن روحًا أو طائفًا يزورها وهي نائمة، فيلقي في رأسها بذرة الطفل الذي ينحدر إلى رحمها ويستقر وينمو حتى يولد.
كانت العائلة البشرية هي الأم مع أطفالها بلا أب. وكان قوت هذه العائلة هو الجذور والديدان والثمار فقط. ولم يكن لهذه العائلة من آلات سوى القليل جدًّا من الأحجار التي تستدق في طرف للحفر عن الجذور أو الديدان. ولكن هذه العائلة تغيَّرت بعد ذلك من عائلة الأم إلى عائلة الأب حين عرف الإنسان البدائي الصيد.
ولم يكن يخرج للصيد سوى الرجال؛ لأن المرأة كانت على الدوام حاملًا أو مرضعًا أو أمًّا يتبعها الصغار. فكان الخطر عليها كبيرًا من الصيد؛ ولذلك اقتصر الصيد على الرجال فنشأ مجتمع الرجال. الثانية: أصبحت المرأة، لعجزها عن الصيد، ترضى بالاستجابة الجنسية للرجل إذا كان يمنحها شيئًا من صيده؛ أي من نصيبه من اللحم مما حصل عليه هو وزملاؤه من الرجال بالصيد. ومن هنا نشأت سلطة الرجل على المرأة. هو يصيد ويأتي باللحم، وهي تستجيب إليه لما تجد من مكافأة لها بطعام اللحم الذي يعلو على الثمار والجذور التي كانت تحصل عليها بالمضض والعرق.
لم يكن الصيد ممكنًا للفرد وحده، فنشأ التعاون بين الرجال؛ أي المجتمع البشري. ولم تكن المرأة قادرة على الصيد لأنها حامل، أو لأنها تحمي صغارها، وإذن احتاجت المرأة إلى أن يعولها الرجل بما يصيد. ونشأ البيت، ونشأت العائلة الأبوية. وأصبحت للزوج سلطة على زوجته؛ إذ هو الذي يقيتها، فأصبح سيدًا عليها.
وفي عصور الغزو والسبي، كان الرق شر ما أصاب المرأة. لانه أدى إلى أن تستحيل المرأة من الإنسانية إلى الأنوثة، تتبرج لزوجها كما لو كانت أنثى فقط؛ لأن الأَمَة أو الجارية المسبية ثم بعد ذلك المشتراة، كانت تَذِلُّ لسيدها وتتهتَّك له وتلبي جميع شهواته البهيمية وفوق ما يريد. واضطرت الزوجة الحرة إلى أن تباريها في كل ذلك، فتبرجت هي أيضًا وتهتكت حتى لا تتفوق عليها الجارية. ومن هنا كان السقوط. هذا السقوط الذي أحال المرأة إلى لعبة للرجل.
سلامة موسى، المرأة ليست لعبة الرجل
كانت النساء في العديد من المجتمعات ببساطة ملكاً للرجال، الذين كانوا في الغالب آباءهن أو أزواجهن أو إخوانهن ويقع الاغتصاب في العديد من النظم القانونية تحت بند الاعتداء على الممتلكات بكلمات أخرى، فإن الضحية ليست المرأة التي تعرضت للاغتصاب بل الرجل الذي يمتلكها. وبناءً على هذا، تعين من أجل الانصاف القانوني نقل الملكية؛ فكان يطلب من المغتصب دفع ثمن العروس لأب المرأة أو أخيها، وحينها تصبح من ممتلكات المغتصب. وسن الكتاب المقدس بأنه "إذا التقى رجل بعذراء غير مخطوبة، واستولى عليها وناما معاً، وانكشف فعلهما، فإن على الرجل أن يعطي أبا الفتاة خمسين شيكلاً من الفضة، وتصبح عندها زوجته (سفر التثنية:22 29-28 اعتبر اليهود القدماء هذا إجراء معقولاً. لم يكن اغتصاب امرأة لا تنتمي لأي رجل جريمةً على الإطلاق، مثل إن التقاط قطعة نقدية في شارع مزدحم لا يعتبر سرقة.
وإذا اغتصب زوج زوجته، فلا يكون قد ارتكب أي جريمة. في الواقع فإن فكرة أن الزوج يمكن أن يغتصب زوجته تشكل تناقضاً في الألفاظ، فأن تكون زوجاً كان يعني أن لديك السيطرة الكاملة على النشاط الجنسي لزوجتك، والقول إن زوجاً "اغتصب" زوجته غير منطقي كالقول إن رجلاً سرق محفظته الخاصة. لم يكن مثل هذا التفكير مقتصراً على الشرق الأوسط القديم، فحتى سنة 2006م كان ما يزال هناك ثلاث وخمسون دولة لا يمكن فيها مقاضاة الزوج على اغتصاب زوجته. حتى في ألمانيا، عدلت قوانين الاغتصاب سنة 1997م فقط لخلق بند قانوني للاغتصاب الزوجي ".
كانت معظم المجتمعات البشرية، على الأقل منذ الثورة الزراعية، مجتمعات أبوية؛ منحت الرجال قيمة أعلى من النساء، فبغض النظر عن كيفية تعريف المجتمع لـ"الرجل" و"المرأة"، فأن تكون رجلاً كان دائماً أفضل. تُعلّم المجتمعات الأبوية الرجال أن يفكروا ويتصرفوا بطريقة ذكورية وتُعلّم النساء أن يفكرن ويتصرفن بطريقة أنثوية، وتعاقب كل من يجرؤ على تجاوز تلك الحدود.
مع هذا، لا يكافأ الذين يخضعون لهذه الحدود بالتساوي، فالصفات التي تعتبر ذكورية لها قيمة أعلى من تلك التي تعتبر صفات أنثوية، وأفراد المجتمع الذين يجسدون مثال الأنوثة يحصلون على أقل من أولئك الذين يجسدون مثال الذكورة. فالقليل من الموارد تستثمر في صحة النساء وتعليمهن، ولديهن فرص اقتصادية أقل وقوة سياسية أقل وحرية حركة أقل.
صحيح أن حفنة من النساء استطاعت الوصول إلى المكانة الأولى مثل كليوباترا المصرية، والإمبراطورة ووه تستيان الصينية (سنة 700 ق م)، وإليزابيث الأولى الإنجليزية، ومع ذلك فهاته هي الاستثناءات التي تثبت القاعدة، فطوال حكم إليزابيث الذي امتد لخمسة وأربعين عاماً كان جميع أعضاء البرلمان رجالاً، وكان جميع ضباط البحرية الملكية والجيش رجالاً، وكان. جميع والمحامين رجالاً، وجميع الأساقفة والمطارنة وكل اللاهوتيين والكهنة، وجميع الأطباء والجراحين وجميع الطلاب والأساتذة في جميع الجامعات والكليات وكل رؤساء البلديات وعمد المدن وكان أغلب الكتاب والمهندسين المعماريين والشعراء والفلاسفة والرسامين والموسيقيين والعلماء رجالاً. كانت الأبوية هي القاعدة في أغلب المجتمعات الصناعية والزراعية؛ تحكمت باصرار بالاضطرابات السياسية، والثورات الاجتماعية، والتحولات الاقتصادية. احتلت مصر على سبيل المثال مرات عديدة على مر القرون؛ غزاها الآشوريون والفرس والمقدونيون والرومان والعرب والمماليك والأتراك والبريطانيون، وظل مجتمعها أبوياً دائماً حكمت مصر بالقوانين الفرعونية واليونانية والرومانية والإسلامية والعثمانية والبريطانية، ومارست جميعها تمييزاً ضد الناس الذين لم يكونوا رجالاً حقيقيين".
ما السبب في ذلك.
تشير الفرضية الأكثر شيوعاً إلى حقيقة أن الرجال أقوى من النساء، وأنهم استخدموا قوتهم البدنية الأكبر لإخضاع النساء. وتجادل نسخة أحذق أن قوة الرجال سمحت لهم باحتكار المهام التي تتطلب عملاً يدوياً شاقاً، مثل الحرث والحصاد، ومنحهم هذا السيطرة على إنتاج الغذاء، والذي ظهر بدوره على شكل نفوذ سياسي.
تفسر فرضية أخرى أن الهيمنة الذكورية لا تنتج عن القوة بل من العدوان؛ جعلت ملايين السنين من التطور الرجال أعنف بكثير من النساء. يمكن للمرأة أن تجاري الرجل في الكراهية والجشع وسوء المعاملة، لكن حين يأتي وقت اللكم فإن الرجال هم أكثرا استعداداً، حسبما تقول الفرضية، للانخراط في العنف الجسدي الظاهر. هذا هو السبب في أنه طوال التاريخ كانت الحرب امتيازاً ذكورياً. في أوقات الحرب، جعلت سيطرة الرجال على القوات المسلحة. منهم أسياد المجتمع المدني أيضاً، ثم استخدموا سيطرتهم على المجتمع المدني لخوض المزيد والمزيد من الحروب وكلما زاد عدد الحروب كلما زادت سيطرة الرجال على المجتمع. تفسر حلقة التغذية الراجعة هذه كلاً من تفشي الحروب وانتشار الأبوية في كل مكان.
يوفال نوح هراري، العاقل، ص 177، 186-189.
هاتان الفرضيتان – لا سيما الفرضية الأخيرة - تكشفان الستار عن أن التمييز ضد المرأة هو من رواسب همجية الإنسان الأول، حيث كان رزقه يعتمد حصرياً على قوة العضلات، وحيث كان يستخدمها عند التنازع والخلاف. وبحلول العصر الحديث تغيرت قوانين الحياة والمجتمعات، ولم تعد هناك حاجة للعضلات في العمل، وبالتالي اقتحمت المرأة ميدان العمل، ولم يعد هناك حاجة لتبرير العنف ضدها بأن (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) فلم يعد الرجل قائماً عليها وعلى إطعامها كما كان الأمر سابقاً، على العكس، هناك الآن من النساء رؤساء دول (حليمة يعقوب رئيسة سنغافورة كمثال) ووزيرات لا حصر لهن في جميع دول العالم، وأساتذة جامعات وباحثات وعالمات في شتى العلوم، بينما كثير من الرجال يعملون في أعمال متدنية ولا يرقون لهذا المستوى. إذن لا قيمة الآن لما تقرره الأعراف المقدسة والكتب المقدسة بحق المرأة.

الشيخ الشعراوي والمرأة
عرض الشيخ الشعراوي في أحد أحاديثه التليفزيونية رأيه في أخلاق المرأة والعلاقة بينها وبين الزي الذي ترتديه، فيقول إن المرأة يجب أن تكون مستورة حتى لا يشك الرجل في بنوة أبنائه منها!
وهكذا يقرر الشيخ، ببساطة شديدة، أن المرأة المستورة أو المحجبة هي وحدها التي تنجب لزوجها أبناء يكون واثقًا من أنهم أبناؤه، أما إذا لم تكن كذلك، فإن الأمر يظل موضع شك!
وحين يعرض الشيخ الشعراوي نظرية أخلاقية كهذه، لا يملك المرء إلا أن يشعر بالألم والحزن على نوع التفكير الذي يوصل إلى مثل هذه النتائج، فمن وراء هذا الكلام تكمن نظرة إلى المرأة تراها مصدرًا دائمًا للشر والغواية، لن يستقيم أمره ولن ينصلح حاله إلا إذا حُجِب عن أعين الناس. أما لو ظلت المرأة سافرة فإن الشر الكامن فيها، والغواية التي تثيرها في الآخرين، قد توصلها إلى حد إنجاب أطفال من غير زوجها. وهكذا تُختَزل المرأة كلها إلى عنصر واحد، هو الجسد والجنس، وننسى المرأة العاملة والمرأة المشتغلة بالعلم، التي تُزامل الرجلَ في نِدِّيَّة وإخاء دون أن يطل شبح الجنس في علاقتهما. مثل هذه النظرة إلى المرأة تبدو في الظاهر كما لو كانت دعوة إلى الستر والفضيلة، ولكنها في أعماقها وباطنها لا ترى المرأة إلا موضوعًا لشهوة الرجل، والامتداد الطبيعي لها هو ما نراه عند كثير من معتنقي التيارات الإسلامية الحالية، من تحريم للسلام باليد بين الرجل والمرأة، وكأن السلام ليس سلوكًا اجتماعيًّا له وظيفته في تيسير التعامل بين البشر وزيادة الأُلفة بينهم، وإنما هو تلامس بين جسدين مثير للرغبات والشهوات، فأي احتقار للطبيعة البشرية أشد من ذلك الذي يكمن وراء هذا التحريم، وأية نظرة إلى الإنسان تفوق هذا اللون من التفكير وحشية وحيوانية؟
د. فؤاد زكريا، ا لحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة

مشكلة ضرب المرأة في القرآن
كان الملتقى الدولي لنساء العالم، الذي عُقد في الصين عام ١٩٩٥، تجربةً مزعجةً للعديد من الحكومات الإسلامية، لو انبثقت الحداثة من الصين التقليدية، لربما ظلّت مواقف المسلمين ما قبل الحداثة تجاه العلاقات بين الرجل والمرأة تبدو طبيعيةً تمامًا ولكن بما أن الحداثة في الواقع التاريخي نتاجٌ للغرب، فليس من المستغرب أن يتصاعد التوتر الهائل حول آية كهذه ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.. وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نشوزهن فعظوهن وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ [النساء ٣٤] كان هناك مجالٌ لتفسيراتٍ متنوعة لهذه الآية في العالم الإسلامي التقليدي. لكن يصعب إنكار أمرين: الآية تُقرّ هيمنة الرجل، وتُقرّها بمنح الزوج حقّ ضرب زوجته المتمردة،
من بين أمورٍ أخرى لم تكن هيمنة الرجل أمرًا جديدًا في النصوص التوحيدية يقول إله التكوين للمرأة) "إلى رجلكِ يكون اشتياقكِ، وهو يسود عليكِ) تكوين 3/16 بينما ينصّ العهد الجديد على أن المرأة يجب أن "تتعلّم بصمتٍ وبكل خضوع " تيموثاوس 2/11 وهي نصيحةٌ لم تعد تُطبّق كثيرًا في التعليم العلماني الحديث ومع ذلك، كان ضرب الزوجة أمرًا جديدًا في النصوص الدينية.
ومن الواضح أن المفسرين المعاصرين ينقسمون إلى مجموعتين عريضتين يميل المفسرون في المجموعة الأولى إلى التأثر بشدة بالقيمة الغربية ذات الصلة، وفي بعض الأحيان إلى تحريف كتابهم المقدس لتتوافق معها هؤلاء هم الحداثيون الإسلاميون على نهج محمد عبده أما المفسرون في المجموعة الثانية فيستعدون لجذب القيمة الغربية، ويحرصون على عدم تحريف الكتاب لتتوافق معه، هؤلاء هم الأصوليون الإسلاميون في العقود الأخيرة.
(Michael Cook, The Koran A Very Short Introduction)

اختلاف وضع المرأة باختلاف الزمان والمكان
على مستوى الجغرافيا كان وضع المرأة يختلف من جماعة إلى جماعة ومن قُطر إلى قُطر في الإمبراطورية الإسلامية. والمكانة التي تحتلها المرأة في مجتمع الأندلس حتى على مستوى الاجتهادات داخل المذهب المالكي جديرة بالتأمل، حيث كان من حق المرأة أن تشترط على زوجها عدم الزواج بأخرى. وكانت بعض النساء يشترطن أن يكون لهن حق تطليق الأخرى إذا تزوج الزوج بغير علمها، هذا فضلًا عن اشتراط أغلبهن عدم غياب الزوج عن أهله إلا لفترة محدودة. وكان الفقهاء يحكمون بناء على هذه الشروط المصاحبة لعقد الزواج. ولم يقل أحد الفقهاء إن تلك الشروط تعارض مبدأ «القِوامة» الذي صار مبدأ على مستوى العقيدة في العصور المتأخرة.
وأما على مستوى التاريخ ففي عصور التأخر والانحطاط يتم إخفاء «النساء شقائق الرجال» ويتم إعلان «ناقصات عقل ودين»، ويتحول تحريم اللقاء الجنسي خلال فترة «الحيض» إلى تحريم الحديث معها ومشاركتها الطعام عودًا إلى محرمات «التابو» الأسطورية. ويتم استدعاء قصة خروج آدم من الجنة في صياغتها التوراتية، حيث تتوحد حواء بالحية وبالشيطان. ويتم إنتاج خطاب يعزف على نغمات التخلف، التي تتجاوب معها سينما الشبَّاك والإثارة والتجارة في عناوين وأفيشات مثل «الشيطان امرأة». ومن النص القرآني يقف تراث التخلف عند «كيدهن عظيم»، ليجعل من الكيد صفة ملازمة للمرأة من حيث هي أنثى، وذلك بعد أن يُلقي في «الجُب» بكل دلالات القصة؛ قصة يوسف وأبعادها الرمزية. تُحوَّل المرأة إلى الكائن المثير للشهوة المحرك للغرائز، الباعث على الفتنة وأحبولة الشيطان … إلخ، ويصبح الحل الوحيد هو «الوأد» ليس الذي كان يمارسه العربي البدوي في الجاهلية، لكنه «الوأد» داخل اللباس الأسود المغلق تمامًا إلا من فتحتين للعينين.
نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة
ومع أن النقاب قد انقرض تقريباً، عدا بعض البلدان كعادة من العادات، إلا أن الحجاب، وفكرة حجب المرأة عن العيون لا زالت قائمة، ويجب التخلص منها، لأنها قائمة على وهم من الأوهام (إثارة شهوة الرجل وأن المرأة عورة)، ولم يعد لها مبرر، لأن العادات تغيرت وأعراف الناس قد تبدلت، فهل إذا خرجت سيدة من سكان القاهرة بدون غطاء الرأس، سيكون منظرها غريباً أو مثيراً للشهوة ؟ كلا، على الإطلاق.
وأما عن السبب الآخر – التاريخي – للحجاب، وهو أن تُعرف المرأة بأنها من الحرائر لا من الإماء والجواري: فلم يعد للرق وجود منذ الستينات، ولا يعدو الحجاب إلا أن يكون أثر من آثاره، ليس له ما يبرر وجوده واستمراره حتى الآن.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العشرون: لا تلُم نفسك، وإيا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة عشر: الخوف من الله ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة عشر: إله القرآن ليس ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة عشر: ضرورة دراسة ال ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة عشر: ختم النبوة يتع ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة عشر: ضرورة الإيمان ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة عشر: المنهج التجريب ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة عشر: الإنسان هو الذ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية عشر: ضرورة معرفة تط ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الحادية عشر: ضرورة معرفة تا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العاشرة: ضرورة التخلص من سل ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الف ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة: ضرورة معرفة معنى ا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة: خطورة الإعجاز العل ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة: ضرورة معرفة تاريخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة: العلاقة بالآخر ومش ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الدين ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه


المزيد.....




- الصدر: تفجير مسجد الإمام علي (ع) إعلان لبدء الطائفية وسوريا ...
- قداس الميلاد في كاتدرائية واشنطن الوطنية
- تركيا تعتقل شخصا يشتبه بانتمائه لتنظيم الدولة الإسلامية خطط ...
- بينها -بوكو حرام- و-أنصارو-.. أبرز الجماعات المسلحة في نيجير ...
- ضربات أمريكية على نيجيريا لوقف -قتل المسيحيين-
- مسيحيو غزة.. أعياد الميلاد بلا بهجة والعائلات فرقتها الحرب
- ناج من تفجير مسجد حمص يروي لحظات الرعب بين الأذان والإقامة
- الجزيرة نت تواكب احتفال المسيحيين في غزة بعيد الميلاد على وق ...
- مجموعة -سرايا أنصار السنة- المتطرفة تتبنى تفجير المسجد في حم ...
- تفاصيل الضربات الأميركية في نيجيريا.. هل استهدف ترامب المسيح ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الحادية والعشرون: ضرورة التخلي عن النظرة المتخلفة للمرأة