أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة عشر: ضرورة الإيمان بوحدة الوجود















المزيد.....



قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة عشر: ضرورة الإيمان بوحدة الوجود


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 02:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


القاعدة الخامسة عشر: ضرورة الإيمان بوحدة الوجود
وحدة الوجود لها شأن مهمّ في تاريخ الفكر الإسلامي، وما زال الخلاف فيها بين الإفراط والتفريط، إنها مسألة متعلقة بالوحدة بين الإنساني والإلهي، تضع الإنسان في مكانة عليا، تختلف عن مكانته في الأديان.
أثارت جدلًا واختلافًا كبيرًا، وشنت الكنيسة الكاثوليكية الغربية في القرون الوسطى حملة شعواء على سبينوزا وجيوردانو برونو لأنهم قالوا بها، وشن الفقهاء والمتكلمون المسلمون حملة شعواء على الصوفية والعرفاء، حتى وصل الأمر بتكفير ونجاسة من يقول بها. بينما قرر العرفاء أن الذي لا يعتقد بوحدة الوجود مشرك، إلا أن شركه خفي، وعامة الناس غير مكلفة بهذا الأمر. ووقع الكثيرون تحت تأثير التشويش الإعلامي، فتلقفوا بعض كلمات المناوئين وتفسيرات المكفّرين دون أن يكلفوا أنفسهم قراءة أو حتى معرفة أسماء الكتب التي أوضحوا فيها مذهبهم، وفسروا فيها نثرهم وشعرهم. وكان الحلاج والسهروردي وغيرهما ضحية هذا التعصب ومسلسل التكفير المستمر حتى اليوم.
موقع فتح الله كولن،هل “وحدة الوجود” توافق عقيدة أهل السنة؟
حسن الفاتح، فلسفة وحدة الوجود ص 67، 214
رسالة وحدة الوجود ص 6 السيد الحكيم العصار
وقد حاول كثير من الكتاب ومن الصوفية أنفسهم أن ينفوا عن التصوف القول بوحدة الوجود، وتبرأوا منها بكل سبيل، حتى أنكروا أن يكون رائد المدرسة محيي الدين بن عربي قال بها! ولعل السبب هو خوفهم من خلط الناس بينها وبين المادية وإنكار الصانع، كما شنع عليها الفقيه الحنبلي ابن تيمية، فهم يخافون من السلفية منذ ذلك الحين. ولكن وحدة الوجود ليست وحدة وجود مادية، بمعنى أن الحقيقة الوجودية هي ذلك العالم المادي الماثل أمام حواسنا، ولكنها وحدة وجود مثالية أو روحية، تقرر وجود حقيقية عليا هي الحق الظاهر في صور الموجودات، وتعتبر وجود العالم بمثابة الظل لصاحب الظل.
أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام

معنى وحدة الوجود
وحدة الوجود مذهب يرى أن الكل هو الله، أن الله والعالم ليسا سوى واحد؛ وهذا هو ما يمكن فهمه بمعنيين أساسيين:
1- الله وحده حق، فـالـعـالـم لـيـس سـوى مجموعة تجليات أو فيوضات دائمة، لا وجود مستقل لها. هذا مثلاً هو مذهب وحدة الوجود الروحية أو المثالية، عند سبينوزا، وعند الصوفية المسلمين.
2- العالم وحده حق، فالله ليس سوى كلية ما هو موجود. مثال ذلك حلولية دولباخ، ديدرو، اليسار الهيغلي. غالباً ما يُطلق عليه اسم حلولية طبيعانية، حلولية مادية.
موسوعة لالاند الفلسفية، ص933 أندريه لالاند

وحدة الوجود عند المسلمين
امتازت مدرسة وحدة الوجود في الإسلام عن غيرها من مدارس وحدة الوجود، بأنها تركز على تجلى الله في الإنسان أكثر من الطبيعة أو العالم، لأن الإنسان محل تجليات كل الأسماء الإلهية (الحي، السميع، البصير، العليم، القدير، الرحيم، الودود، الجبار، القهار، الخ) بخلاف غيره من الكائنات التي تُظهر اسماً واحداً (الأرض: الباسط، السماء: الرافع، الربيع: البديع). وكلام المتصوفة المسلمين واضح في هذا النقطة بشكل جلي، فالإنسان الإنسان : هو صورة الله، ليس ماءً وطيناً ولكنه سر قدسي. (عبد الوهاب عزام، التصوف وفريد الدين العطار، ص 84) والإنسان هو نسخة الحق عز وجل كاملة (عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، ج 1 ص 51) والإنسان هو مجموع حضرات الوجود كلها بطريق الإجمال، وهو منقسم إلى ظاهر وباطن، فظاهره يقابل عالم الملك، وباطنه يقابل عالم الملكوت (عبد الغني النابلسي، قطرة السماء ونظرة العلماء، ص 74) والإنسان هو نسخة جامعة للكائنات، وفهرست لكتاب العالم المشتمل على ثمانية عشر ألف عالم، وأودع في جوهره أنموذج من كل عالم تجلى فيه اسم من أسمائه تعالى (سعيد النورسي - إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز - ص 34).
ويوضح معناها الأمير عبد القادر الجزائري قائلاً: هي بمعنى كون الله معنا بذاته الجامعة لصفاته، لا بصفة العلم على المعنى الذي يعرفه علماء الرسوم. وإنه لا وجود إلا وجود الله، ولا صفات إلا صفاته، والوجود المنسوب إلى المخلوق مجازاً.
المواقف الروحية ج 1 ص 306 - 307
وهي وحدة الوجود المثالية، الذي هو مذهب سبينوزا، أنه ليس هناك إلا وجود واحد هو وجود الله، والأشياء موجودة به معدومة بنفسها، بمعنى أن وجودها معلق على ظهور الله فيها.
المعجم الصوفي ص 1151 د. سعاد الحكيم
ولولا سريان الحق في الموجودات بالصورة، ما كان للعالم وجود.
فصوص الحكم 1/55
المعجم الصوفي 1150 د. سعاد الحكيم
يقول الإمام محمد عبده: ليس في الوجود الحقيقي الذاتي إلا ذات مطلقه واحدة، لا تعدد فيها إلّا بتعدّد اعتباراتها، وهو واجب الوجود، فافهم. ونحن نقول ليس وجود إلاّ وجوده ولا وصف إلاّ وصفه، فهو الموجود وغيره المعدوم.
قال الأُمراء الأوّلون رضي الله عنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ: «ما رأيت شيئًا إلّارأيت الله قبله أو بعده أو فيه أو معه». ولا يقعن في وهمك أنّ هذا قول بالحلول، فإنّ الحلول إنّما يكون بين وجودين: أحدهما حالّ في الآخر، ونحن نقول: لا وجود إلّا وجوده. فهلّا تحقّقت من هذا: أنّ ما هو وجود الكلّ الذي لا وجود إلّا من وجوده، بل لا وجود إلاّ وجوده، وكلّ ما سواه عدم. فدقّق النظر، وإيّاك أن تحجبك الكثرة عن ذات الوحدة.
سر التجليات، ضمن رسائل في الفلسفة والعرفان ص 55-58 ط. دار الشروق بالقاهرة.
ويقول السيد جمال الدين الأفغاني: كان ولا شيء معه، وهو الآن كما كان.. وما ثَمّ إلّا وجود واحد، والأشياء موجودة به معدومة بنفسها، إذ ليس مرادهم بالاتّحاد إلّا شهود الوجود الواحد المطلق الذي الكلُّ به موجود، فيتّحد به الكلّ من حيث كون كلّ شيء موجودًا به ومعدومًا بنفسه، لا من حيث إنّ له وجودًا خاصًّا به، فإنّه محال، ولهذا الوجود الواحد ظهور، وهو العالَم، وبطون وهو الأسماء، وبرزخ جامع فاصل بينهما؛ ليتميّز به الظهور من البطون، وهو الانسان الكامل. إنّ علمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، وإنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته؛ لأنّه هو جميع الأشياء إجمالًا وتفصيلًا، فمن عرف نفسه فقد عرف ربّه وعرف جميع الأشياء، ففكرك يا ولدي فيك يكفيك، فليس شيء خارجًا منك، كلا.
قال أمير المؤمنين:
دَواؤُكَ منكَ وما تشعُرُ... وداؤُكَ فيكَ وما تُبصِرُ
أتزعُمُ أنّكَ جُرمٌ صغير... وفيكَ انطوَى العالَمُ الأكبرُ

(مرآة العارفين، ضمن رسائل في الفلسفة والعرفان ص 34-37 ط. دار الشروق بالقاهرة)
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي: أي أن وجود الأشياء هو وجود الله لا وجود نفسها. وليس المراد بوجودها الذي هو عين وجود الله تعالى: عين ذاتها، ولكن المراد: الوجود الذي به تلك الذوات والصور موجودة، فلا شك أنه وجود الله تعالى عند جميع العقلاء بلا خلاف. والامر كله راجع على كل حال الى وجود الله تعالى عند الجميع، فوجود الله تعالى هو الوجود، والوجود كله بلا وجود الله تعالى عدم صرف، فلا وجود الا وجوده تعالى، فكلهم قائلون بوحدة الوجود طوعاً أو كرهاً.
إيضاح المقصود من وحدة الوجود ص 8-16
ويقول: اعلم بأننا اعتمدنا فيما ذهبنا إليه من إن الوجود هو الله تعالى على ما وجدناه في الكتاب والسنة، ولم نوافق في ذلك مقالة الزنادقة والملحدين بأن حقيقة الوجود الحق هي جميع المخلوقات والمخلوقين. والفرق بين الوجود والموجود عندنا أمر لازم متعين "فإن الموجودات كثيرة مختلفة، والوجود واحد" لا يتعدد ولا يختلف في نفسه، وهو عندنا حقيقة واحدة لا تنقسم ولا تتجزأ، ولا تتعدد بتعدد الموجودات. والوجود أصل، والموجودات تابعة له صادرة منه، قائمة به، وهو المتحكم فيها بما يشاء من التغيير والتبديل. "ومعنى الموجود شيء له الوجود لا أنه هو عين الوجود". وكلامنا إنما هو في وحدة الوجود لا في وحدة الموجود، فإن الموجود ليس واحداً بل فيه الكثرة.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 19-20
وهذا الكلام للشيخ النابلسي كلام قيم، كشف عن النقطة التي لم يفهمها معظم الفقهاء وبعض المتكلمين عن حقيقة وحدة الوجود، ولذلك ظنوا أنها كفر وإنكار لوجود الله، بينما إن صح لنا أن نقول، فهي إنكار لوجود المخلوقات، كما يقول سبينوزا. وهذه النقطة أيضاً لم يفهموها، إذ ظنوا أن هذه سفسطة تنكر البديهيات التي هي كالشمس، وهو أن المخلوقات موجودة! كما يفكر العامة والفقهاء ذوي التفكير السطحي، الذين يعتبرون الفلسفة كفراً، وغاية ما وصل إليه تفكيرهم هو أن المخلوقات موجودة.. وهنا يفرق العلامة النابلسي بين الوجود والموجود، فوحدة الوجود لا تنكر العالم، ولكن تنكر وجوده المستقل بذاته، لأن إثبات وجوده هو إنكار وجود الحقيقة الباطنة التي ظهرت فيه، فهذه هي التي لها الوجود، سواء ظهرت وتجلت في الإنسان والعالم أو لم تظهر، فالوجود واحد لا يتعدد. كما في الأثر: (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان) لا شيء معه أيضاً. ومعنى هذا أننا أمام حقيقتين:
1- حقيقة باطنة، كانت غيباً في الأزل، وأرادت أن تظهر، وهي المسماة عند أهل الأرض بأسماء مختلفة، وعند المسلمين اسمها "الله". فهذه هي التي لها الوجود، سواء ظهرت أو لم تظهر.
2- حقيقة ظاهرة، ظهرت بها الحقيقة الباطنة، ويظن العامة – ولو تزيوا بزي أهل العلم – أن لها وجوداً.
وهذا خطأ فلسفي كبير، يرجع منشؤه إلى القول بنظرية الخلق من عدم، وهو ما كذبته نظرية التطور، التي وضعها تشارلز داروين، ولا زال العلماء يدعمونها بالأدلة حتى صارت من البديهيات العلمية الآن، وتقوم فكرتها الأساسية على أن الكون يتطور، وليس يُخلق من العدم. وهذا هو ما يؤمن به الفلاسفة القدماء – في اتحاد بين الفلسفة والعلم - سواء فلاسفة اليونان كأرسطو أو الفلاسفة المسلمون كابن سينا والفارابي، فقالوا بنظرية الفيض الإلهي، أي أن الكائنات أو الموجودات صدرت أو فاضت عن الأول، أي الله، كما يفيض النور عن الشمس. ومن هنا يظهر جلياً معنى أن الوجود واحد، أن المخلوقات عدم في ذاتها، فوحدة الوجود مدعومة بالفلسفة (نظرية الفيض) والعلم (نظرية التطور) وكلاهما ينفيان نظرية الخلق من عدم، وبالتالي ينتفي "الوجود المخلوق" مع وجود الخالق، لأنه ليس هناك خلق أصلاً، وإنما هو فيض عن الوجود الواحد.
ومن هنا كان قول العرفاء أن هذا الكون عدم، وليس معنى العدم هو إنكار الموجودات، ولكن إنكار وجودها المستقل بذاته، وليس إلا وجود مقدس واحد، لحقيقة واحدة، لها ظاهر وباطن، فظاهرها الخلق، وباطنها الحق الذي له الوجود بالأصالة. فهناك فرق بين الوجود والموجود، ووحدة الوجود لا تعني وحدة الموجود، وأن الله هو مخلوقاته، كما يظن خصوم وحدة الوجود، فإن هذا المذهب لا يقول بهذا، ولكنه يقول أنه وجودهما وجود واحد، له وجهان ظاهر وباطن. فالباطن واحد، والظاهر كثير متعدد، ولم تقل وحدة الوجود أن الظاهر هو الباطن، وإنما يقول هذا خصومها حكاية عنها، وهو نتيجة لفهمهم السقيم.
والفيصل الذي يوضح هذه المسألة: أن الباطن ليس بموجود، ولكنه الواجد، وفي الإسلام: ليس من أسماء الله الحسنى: الموجود، ولكن اسمه "الواجد" الماجد. ولكن الموجود هو الظاهر المتعدد. إذن لا يمكن تصور وحدة الموجود في هذه الحالة، لأن الباطن غير موجود أصلاً، ولكنه غيب مطلق، حتى عن الملائكة، ولذلك يسميه الصوفية: "غيب الغيب".
هذا هو الفيصل بين وحدة الوجود كما يفهمها العارفون والفلاسفة، وبين وحدة الموجود، التي فهمها خطأ من أسميهم "عوام الفقهاء" و"عوام الصوفية" لأن معظم صوفية الفقهاء بعد ابن تيمية ينكرون وحدة الوجود، لأنهم مثله، لم يفهموها، ولذلك يهربون إلى القول بما سموه بـ"وحدة الشهود" وهو فناء الصوفي عن شهود نفسه والكون من حوله، فلا يرى إلا وجود الله تعالى، ويستدلون بشطحات الحلاج وأبي يزيد البسطامي، ويقولون أن هذه مجرد مشاهدات روحية، ليس لها حقيقة في الخارج، ويفسرون بها المراد بوحدة الوجود عند ابن عربي وكبار العارفين.. وهذا تخنث وتأنث أمام مدرسة ابن تيمية والسلفيات التي تلته من بعده. ولذلك لم أذكر وحدة الشهود هذه ولم أتعرض لها على الإطلاق، لأنها في نظري كذب ودجل.
فعلى فرض أن وحدة الوجود هي مجرد مشاهدة باطنية في ذهن العارف، كما في القرآن (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فهل سيريهم الله آياته كذباً ودجلاً أم حقيقة؟
لكن كبار المتكلمين وحذاقهم، لهم ملكة في التفكير الفلسفي، فهموا بها المراد من وحدة الوجود، ولو لم يكونوا من العارفين بالضرورة، أنظر إلى قول الإمام فخر الدين الرازي – وهو رجل عقلاني من الطراز الأزل - في تفسيره: (أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ – يعني لفظ هو -كَمَا دَلَّ عَلَى إِقْرَارِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بَالْعَدَمِ فَفِيهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَحْضُ الْعَدَمِ.. كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) مفاتيح الغيب 1/136

أهمية وحدة الوجود
ومدرسة وحدة الوجود تمثل قطاعاً عريضاً في التصوف الإسلامي، حتى قال أحد المتخصصين - د. محمد بن الطيب - أن وحدة الوجود في التصوف الإسلامي هي القطب الذي عليه مدار التصوّف برمّته. وهذا حق، لأن التصوف يدور حول الحق وعلاقته بالخلق الذي هو الإنسان وتدرجه في مدارج الكمال الخُلُقي، كما هو ثابت عن غير واحد من ائمة الصوفية قولهم في تعريف التصوف: أن التصوف خُلُق كله، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. ويقولون أن التصوف يدور حول "التخلق بأخلاق الله"، فهذه هي حجر الزاوية في التصوف، وهي وحدة الوجود، حيث لا وجود إلا وجود الله، ويتبع وجودَه صفاتُه وأخلاقُه.
ويقول الشيخ المحقق "مصباح اليزدي": هذه المسألة –وحدة الوجود- من أهم مسائل الحكمة المتعالية، فهي وأختها (أصالة الوجود) تشكلان جناحيها. ويقول الشيخ المطهري أنها من المسائل الأساسية في الفلسفة، ولها تاريخ طويل في الفكر الإنساني؛ وفي نظرنا أنَّ هذا البحث أهم مسالة بعد أصالة الوجود ولهــا أثـار مهمة في المسائل الفلسفية. رسالة وحدة الوجود ص 8-9 السيد الحكيم العصار

وحدة الوجود سبب لحفظ الإيمان في عصر العلم
يرى بعض الباحثين أن وحدة الوجود من الأسرار التي لا يصح البوح بها للعامة. ونحن نختلف مع هذا المسلك، لأن عصرنا هو عصر ثورة المعلومات، وعصر العلم والفلسفة والعقل، ولم يعد عصر الأسرار، فإن واجب العالم والمثقف اليوم هو إتاحة الفرصة للعامة أن يبحثوا بأنفسهم، لأن لديهم وسيلة هامة من وسائل المعرفة وهي الإنترنت، يكفينا فقط أن نشير إلى المصادر لكي يرجع إليها الناس، وعلينا أن نغير نظرتنا لرجل الشارع، فهو لم يعد ذلك الساذج المطيع كما كان بالأمس، بل هو الآن في صورة مختلفة أرقى مما نتصور، لأن التفكير النقدي ارتفع في عصرنا بمعدل كبير، في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الإجتماعي، وبرامج التوك شو الخ. وقد لمست بنفسي كيف أن الشباب صاروا يفهمون كيف أن الأديان هي سبب التفكير والحروب، وكيف أنها ليست المصدر الوحيد للمعرفة الخ ما هنالك، وبالتالي فليس من الصواب "التخفي" بالعلوم والفلسفات التي ترقي الإنسان في مدارج الكمال مثل وحدة الوجود.
يكفي أن وحدة الوجود هي السبيل الوحيد الذي يحفظ على الإنسان المعاصر المطلع على العلم الحديث والنظريات الحديثة، مثل نظرية داروين، إيمانه بالله، فتخبره أن الله موجود بمظهره، وهو الإنسان والكائنات من حوله، وإن الذكاء الذي تتمتع به الطبيعة فتعمل على تطور الكائنات من خلال النشوء والإرتقاء، ليس من فراغ، ولكن لأنه ذكاء حقيقي للأصل الميتافيزيقي الكامن فيها، ولهذا ثبت إيمان علماء وفلاسفة أوروبا الذين تأثروا بباروخ سبينوزا، الذي كان غارقاً في الله والبرهنة على وجوده الظاهر والمتعالي معاً. وهذا ما يوافق مسماه الإسلامي: الظاهر الباطن.

الفرق بين وحدة الوجود الصوفية والطبيعية
وتفرق د. سعاد الحكيم بين وحدة وجود ابن عربي ووحدة الوجود الطبيعية، بقولها: ولكن لا ينحصر وجود الحق ويتحدد بظهوره في المظاهر، بل له وجود متعال خاص به (الذات الأحدية)، وبهذا الوجود المتعالي يفارق ابن عربي وحدة الوجود الملحدة. و يرى البرزنجي أن الوجودية طائفتان، ملاحدة وموحدة. الملاحدة يقولون: (ان الباري تعالى وتقدس ليس موجوداً في الخارج بوجود مستقل ممتاز عن عالمي الارواح والاجسام بل هو مجموع العالم... فالعالم هو الله والله هو العالم وليس ثمة شيء غير العالم يقال له الله، وهذا كفر صريح)
المعجم الصوفي، د. سعاد الحكيم ص 1149، 1156
والعرفاء لا يقولون به، بل يقولون أن للحق مرتبة أخرى خاصة به، ولا تسري إلى الممكنات (الكائنات). رسالة وحدة الوجود، السيد الحكيم العصار، ص 83
وقد صرّح "صدر المتألهين" في الأسفار الأربعة: إنَّ بعض الجهلة من المتصوفين المقلدين الذين لم يحصلوا طريق العلماء العرفاء، ولم يبلغوا مقام العرفان، توهموا لضعف عقولهم ووهن عقيدتهم وغلبة سلطان الوهم على نفوسهم، أن لا تحقق بالفعل للذات الأحدية - المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحدية وغيب الهوية وغيب الغيوب مجرّدة عن المظاهر والمجالي - بل المتحقق هـو عـالم الصورة وقواها الروحانية والحسية - والله هو الظاهر المجموع. وذلك القول كفر فضيح وزندقة صرفةٌ- لا يتفوه به من له أدنى مرتبة من العلم، ونسبة هذا الأمر إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم افتراء محض وإفك عظيم.
رسالة وحدة الوجود، السيد الحكيم العصار، ص 85-86
ولذلك يقول الشيخ عبد الغني النابلسي: وكلام المحققين من أهل الله تعالى في مسألة الوجود، من أعلى عليين، وكلام غيرهم فيها، من أسفل سافلين. المراد بالوجود: ما به کل موجود موجود في القديم والحادث. ولكن ذات الموجود الممكن وصورته غير الموجد القديم، فهما اثنان، والوجود الذي هما موجودان به وجود واحد، هو للقديم بالذات والحادث بالغير، فالقديم موجود بوجود هو عين ذات القديم، وليس الحادث هو عين ذات القديم، ولا القديم هو عين ذات الحادث، بل كل واحد منهما مباين للآخر في ذاته وصفاته وان اجتمعا في الظهور. وتقريب ذلك ؛ رؤية النجم الذي في السماء صغيراً عند اهـل الارض، مع عدم تغيره من الكبر الذي هو فيه، فالكبر اذا ظهر بضده وهو الصغر من البعد لا يلزم ان يكون قد تغير عما هو عليه، و كذلك وجود الله تعالى المطلق، اذا ظهر على الكائنات المحدثة، وجوداً مقيداً، لا يلزم ان يكون قد تغير عما هو عليـه مـن اطلاقه، فانه وجود مطلق لا ينقسم ولا يتغير. إيضاح المقصود من وحدة الوجود ص 10

إثبات وجود الله في مدرسة وحدة الوجود
للتوحيد أربع مراتب عند أصحاب مدرسةِ وحدة الوجود:
يقول الإمام أبو حامد الغزالي: (للتوحيد أربع مراتب وينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر. فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه {لا إله إلا الله} وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين.
والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام.
والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.
والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهي مشاهدة الصديقين وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق). إحياء 4 / 245
ولذلك نقل الشيخ عبد الغني النابلسي عن عبد الرحمن الجامي قوله: "وأما الصوفية القائلون بوحدة الوجود فلما ظهر عندهم أن حقيقة الواجب تعالى هي الوجود المطلق لم يحتاجوا إلى إقامة الدليل على توحيده ونفي الشريك.. بمعنى انهم يستغنون عن إقامة الدليل لأنه أوضح وأجلى من دلالة الأدلة ولأنه لا يوجد غيره فلا يحتاجون الى نفي الشريك المحتاج الى دليل منفصل وتدقيق وفكر عميق".
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 21

تفصيل معنى وحدة الوجود
جاء في الحديث: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني) يقول الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني: (كانت الحقيقة الإلهية قبل أن تتجلى في أوانيها، أولية روحانية بلا جسم، لا تدركها الأبصار ولا العلوم والأفكار، بلا شكل ولا رسم ولا جسم، وإنما هي هناك معاني صافية لا حس فيها، وربوبية خالصة لا عبودية فيها، لأن العبودية من وظائف الأشكال والأجسام، التي ظهرت فيما بعد عند تجلي الحقيقة الإلهية.
ولما كانت الحقيقة الإلهية قبل التجلي لا شيء معها، فهي كذلك بعد التجلي لا شيء معها، إذ تلوينها وتشكيلها لا يخرجها عن أصلها من الوحدة. ورد في الحديث: (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان) لأن ما ظهر من الخلائق هو غير معاني الصفات، فما ظهر في عالم الشهادة هو عين ما في الغيب من غير زيادة، فالأمر الآن على ما كان عليه في الأزل.
ولقد أرادت الحقيقة الإلهية أن تظهر محاسنها وتبرز أنوارها وأسرارها، فأظهرت قبضة من نورها حسية معنوية. فمن جهة حسها محدودة محصورة، ومن جهة معناها غير محدودة ولا محصورة، بل هي متصلة ببحر معاني الصفات الذي لا نهاية له. ثم تجلت وتشكلت منها العوالم كلها، واختصرت كلها في الإنسان. ولذلك قال بعضهم:
يا تانها في مهمه عن سره * انظر تجد فيك الوجود بأسره
أنت الكمال طريقة وحقيقة * يا جامعـا ســــــر الإله بأســـره
فمن وقف مع ظاهر القوالب، حجب عن أسرار الربوبية، وكان جاهلاً بالله. ومن نفذ إلى بواطن الأشياء، وجدها نورانية ملكوتية، وكان عارفاً بالله. فذات الحق تعالى ذات معنوية (أسماء وصفات) تجلت في القوالب الحسية (الكون) واختُصرت في الآدمي.
أحمد بن عجيبة الحسني، تقييدان في وحدة الوجود، ص 12-20
وإن من وقف مع مظاهر الحق تعالى، وتعددها وتكثرها، وظن أن لها وجود مستقل مع الله تعالى، فقد ضل عن جادة الصواب، حيث أشرك مع الله ما لم ينزل به سلطاناً، وقال عليه ما لم يعلم. وكما أن المولى واحد في ذاته وفي صفاته، فهو واحد كذلك في أفعاله وتجلياته على خلقه، فليس فيها تعدد أو تكثر، وإنما هي تجل واحد. والمخلوقات كلها عدم، وليس لها وجود حقيقي، إلا وجوداً معلقاً على ظهور الله فيها.
حسن الفاتح، فلسفة وحدة الوجود ص 199-200، ص211
وإن كان العقل الذي حصل به تكليف المكلفين يحكم بأن الوجود صفة للحوادث ويحكم بأنه غير الوجود القديم على طريق غلبة الوهم عليه، فإنه يقتضي أن يكون الوجود اثنين وجود قديم ووجود حادث، وهذا حكم من العقل بديهي عنده وهو خطأ محض عند العارفين، فإن الوجود عندهم لا يصح أن يتعدد أصلاً، ولا يصح يكون اثنين، ولا يصح أن يتجزأ ولا. ولا يصح يتبعض، لأن الوجود إن كان اثنين مستقلين كان إلهين اثنين، وإن كان أحدهما وهو الوجود القديم، والآخر غير مستقل بل هو مستفاد من من الوجود القديم، وهو الوجود الحادث لزم انقسام الوجود القديم وانفصال الوجود الحادث منه وهو محال، فإن ذلك دعوى النصارى في قولهم: ولد الله.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 27
ولا يصح أن يكون الوجود مخلوقاً كما أن جميع الحوادث مخلوقة، لأنه لم يرد في الشرع بمقتضى الكتاب والسنة أن الله تعالى خلق وجوداً أصلاً، وإنما ورد أن الله تعالى خلق كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض، فالخلق منه تعالى واقع على الأشياء التي هي الحوادث المحسوسات والمعقولات كما ذكرنا، لا أن الخلق منه تعالى واقع أيضاً على وجود الأشياء التي هي قائمة به.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 22
فإنه ليس هناك غير الوجود الحق والصور التي تسمى مخلوقات لذلك الوجود الحق، وهي كلها قائمة بذلك الوجود الحق لا مقوم لها غيره، ولم نسمع أن شيئاً من الحوادث (أي المخلوقات) يكون قيوماً على شيء من الحوادث أصلاً، ولا ورد ذلك في كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من الأئمة المهتدين، وإنما الحي القيوم على كل شيء هو الله سبحانه وحده لا شريك له، وهو الذي نعنيه بالوجود.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 24
صح في الحديث دعاؤه عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (اللهم فقهه في الدين وألهمه رشده). وورد أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يطوف بالكعبة يوماً، فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام، فشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كنا نتراءي الله)، يعني كنا غائبين في شهود الله الوجود الحق واضمحلال الأشياء في تجليه بها، فحينئذ يرى العقل الحوادث كلها على ما هي عليه من عدمها الأصلي.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 31
قال الشيخ عبد الغني نالنابلسي تعليقاً على قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه): وذكر المحقق جلال الدين الدواني في شرحه على عقائد العضد الشيرازي رحمهما الله تعالى في «الإحياء»: ما نصه: قال الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله: الممكن في حد ذاته هالك معدوم دائماً. وقال في «مشكاة الأنوار»: ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى ذروة الحقيقة فرأوا بالمشاهدة العيانية أنه ليس في الوجود إلا الله وأن كل شيء هالك إلا وجهه. لا أنه يصير هالكاً في وقت من الأوقات بل هو هالك أزلاً وأبداً. قال العلامة القزويني في حاشيته على شرح الجلال المذكور قوله: بل هو هالك، أي كل شيء هالك أزلاً وأبداً في حق ذاته ولذا يقال: إن الممكنات ما شمت رائحة الوجود إذ هي هالكة في حد ذاتها، وليس لها وجود من ذاتها، فهي في حد ذاتها معدومات صرفة، ما شمت رائحة الوجود.. بل الوجود هو الله تعالى تجلى فيها كما تجلى الشخص في المرايا المتعددة. قال أبو بكر الصديق: (ما رايت شيئاً إلا رأيت الله فيه) موافقة لقوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله).
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 37-38
وأما جعل الوجود صفة للأشياء، فذلك إثم من أعظم الآثام وذنب من أكبر الذنوب كما أشار إليه قول القائل:
وإن قلت ما ذَنْبِي إليكَ أجبْتَني * وجودك ذَنْبٌ لا يُقاس لَهُ ذَنْب
حتى نقل أن الجنيد رحمه الله كان يعبد الله نحو ثلاثين سنة ولم يفتح عليه بشيء، فسمع في يوم من الأيام قائلاً ينشد هذا البيت، فعمل بمقتضاه على نفي دعوى الوجود، فوصل إلى الله تعالى.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 42
ومن أفضل الكتب التي ألفت في وحدة الوجود: كتاب الوجود للشيخ عبد الغني النابلسي.
وكما نرى، فإن وحدة الوجود تحتاج إلى عقل يحب الفلسفة ليفهمها، ولا مجال لفهمها للفقهاء ومن لا يحتملون التفكير، ومع ذلك ينتفخون كبراً وقسوة على العارفين وأهل الله، إلا من رحم الله من أمثال العلامة تاج الدين السبكي (المتوفى: 771 هـ)، فقد ذكر مبحثا في (تحقيق التجلي) عند العارفين الصوفية، لكنه لم يفتح عليه في فهم كلامهم، ومع علمه الغزير ما أرعد وأزبد في الحط عليهم، لكونه قد استغلق عليه فهم كلامهم، مع أنه من فحول الفقهاء، لكن بعد ذكر كلامهم في التجلي، قال في غاية الأدب وحسن الظن بالعارفين: (هذا حاصل كلام القوم وأنا معترف بالقصور عن فهمه وضيق المحل عن بسط العبارة فيه). لكنه لما عجز عن فهمها جلس مع أحد العارفين بالله ليجلي له الحقيقة بطريق سهل مبسط، فقال: (وقد جالست فى هذه المسألة الشيخ العارف قطب الدين محمد بن اسفهبدا الأردبيلى). وبين له هذا العارف بأسلوب سهل حقيقة التجلي. طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 313).

الفرق بين وحدة الوجود والإتحاد
مصطلح وحدة الوجود ابتدعه دارسوا بن عربي ولم يرد في كتبه، وإنما جاء في مصنفات من بعده. المعجم الصوفي ص 2245 و 1154 د. سعاد الحكيم.
وهو مصطلح مضلل يوهم بإلغاء مراتب الوجود والإتحاد بين الخالق والمخلوق، بين الظاهر والباطن، وهذا غير صحيح، لأنهما مرتبتان من مراتب الوجود لا يصح أن تكونا واحداً. يقول الشيخ محيي الدين بن عربي: واحذر الإتحاد.. فإن الإتحاد لا يصح، فإن الذاتين لا تكون واحدة، وإنما هما واحدان، فهو الواحد في مرتبتين).
كتاب الألف ص5
المعجم الصوفي ص 1180 د. سعاد الحكيم.
ولذلك يقول الشيخ عبد الغني النابلسي: واعلم أن من الافتراءات الواضحة من عوام المؤمنين على الخواص من أهل الله تعالى العارفين بفهمهم من قول العارفين: إن الله الوجود الحق، أن معنى ذلك أن الله تعالى هو الموجودات كلها، وإقامة النكير عليهم بذلك وقولهم عنهم إنهم يقولون: إن الله تعالى هو المخلوقات وحاشا لله أن العارفين يقولون ذلك، وإنما دخل الطعن من فهم القاصرين لكلام العارفين وعدم تمييز الجاهلين بين القول بأن الوجود هو الله والقول بأن الموجود هو الله، وظنوا بأنه لا فرق عند العارفين بين الوجود والموجود، والفرق واضح لا خفاء فيه، فإن الوجود كما ذكرنا عند العارفين حقيقة واحدة قديمة، والموجودات كلها حقائق كثيرة مختلفة غير موصوفة بذلك الوجود الواحد القديم.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 26
والإتحاد غير متصور في كلام العارفين، لأنهم يقولون بأن الوجود واحد لا وجودان اتحدا، ولا يُتصور في كلامهم الحلول أيضاً، لأنهم لم يقولوا بوجودين حل أحدهما في الآخر، وإنما هو وجود واحد للقيوم، تقوم به المظاهر.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 34

الأدلة على وحدة الوجود من الكتاب والسنة
يستدل أصحاب مدرسة وحدة الوجود بآيات وأحاديث صحيحة، منها هذه الآيات الكريمات:
1- ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 8/17).
2- ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ (سُورَةُ الفَتْحِ: 48/10).
3- ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (سُورَةُ ق: 50/16)
4- كما قال تعالى ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان﴾. (سُورَةُ الأحزاب: ) قال الشيخ عبد الكريم الجيلي: «الأمانة: هي الحق سبحانه وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته» الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ص 56 وقال الشيخ محمد بهاء الدين البيطار: الأمانة هي النسخة الإنسانية القابلة لجميع الكمالات الإلهية. النفحات الأقدسية في شرح الصلوات الأحمدية الإدريسية - ص 90 وقال: الأمانة هي كمال الألوهية. المصدر نفسه - ص 114 وقال الشيخ ابن علوية المستغانمي يقول: «الأمانة عند القوم: هي سر الألوهية الذي لا يحمله إلا الأنبياء أو رجال من خواص الأمة المحمدية» المنح القدوسية ص 53 ويقول الشيخ أحمد العقاد: «الأمانة: هي معاني الأسماء والصفات» وأضاف قائلاً: «ومن حملها صار عبداً للذات، وقد عرض الله تلك المعاني على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها؛ لأن حقيقتها لا تتحمل وحملها الإنسان ؛ لأن حقيقته أكمل» الأنوار القدسية في شرح أسماء الله الحسنى وأسرارها الخفية ص25
ومن الأحاديث القدسية:
1- الحديث القدسي: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: “يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؛ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؛ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي”. فإنه تعالى ما نزل نفسه منزلة عبده إلا لعلمه أنه الوجود الواحد الذي ظهر بذلك العبد وغيره من المخلوقات وما عداه تقدير وتصوير لا وجود له إلا به». كشف الحجب المسبلة، شرح التحفة المرسلة ص 71 – 77
2- الحديث القدسي: “مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.
موقع فتح الله كولن، هل “وحدة الوجود” توافق عقيدة أهل السنة؟
ومن الأحاديث:
1- " خلق الله آدم على صورته"
2- " كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني".
قال الشيخ عبد الغني النابلسي: وإن الكتاب العزيز والسنة النبوية طافح كل منهما بذكر التجلي والظهور من الوجود الحق الواحد المطلق بالإطلاق الحقيقي لأعيان الصور والأشخاص، وذلك معلوم من الدين بالضرورة وإن دخلت فيه المؤولون بأفكارهم وأحالوه عن ظاهره من قصور علمهم واطلاعهم والحق مذهب السلف من الصحابة والتابعين فإنهم كانوا يؤمنون بذلك على حد ما قاله الله ورسوله ولا يخوضون بعقولهم وأفكارهم.
فوائد جلية تكشف عن معنى وحدة الوجود ص 45
إله الأديان
مكانة الإنسان عند الله في مذهب وحدة الوجود
التجلي الإلهي عملية أزلية أبدية أو عملية خلق مستمر، الغاية منه معرفة الحق بظهور أسمائه وصفاته على صفحة الوجود. بهذا يفسر ابن عربي معنى «الخلق» وسره، ويشير إلى الحديث القدسي الذي يقول الله فيه: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي (أو فبه) عرفوني» وكذلك يشرح سر خلق الإنسان بأنه إظهار للكمالات الإلهية في صورة جامعة يرى فيها الحق نفسه، فيقول: (لما شاء الحق من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها، وإن شئت قلت أن يرى عينه، في كون جامع يحصر الأمر كله، لكونه متصفًا بالوجود، ويظهر به سره إليه، فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير هذا المحل ولا تجليه له) أي لما شاء الحق ذلك أوجد الإنسان، أو أظهر صفاته وأسماءه في أكمل صورة خلقية هي الصورة الإنسانية. أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام

العلماء والفلاسفة المسلمون القائلون بوحدة الوجود
• أبو نصر محمد الفارابي (ت 329 هـ): ويعتبر الفارابي هو أول مَن قال بوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي ضمن نظرية متكاملة. فـ"الخلق من عدم" غير وارد في تصور الفارابي لمفهوم الخلق. وهذا يقودنا إلى نظرية الفيض أو الصدور. التي يُعد الفارابي أول مَن أدخلها في الفلسفة العربية الإسلامية، ثم تناوَلها عنه عددٌ كبير من الفلاسفة، في مقدمتهم أبو علي ابن سينا.
• أبو علي الحسين بن سينا (ت 1037 هـ)، الذي يؤكد في نظريته على عدم صدور المادة عن الله مباشرة، لأن صدورها عن الله يعني اختلاف الجهات في ذاته العلية. وهو يرى أن مهمة النفس العروجُ باستمرار إلى تلك المنزلة الرفيع؛ وهذا لا يتحقق إلا للعارفين. والعارفون يمتازون على مَن عداهم بأن أرواحهم انطلقت من القيود – وهذا سر ينبغي ألا يذاع للعامة؛ والفيلسوف إنما يفضي به إلى خاصة مريديه، كما يقرِّر الشيخ الرئيس في مقامات العارفين.
• ابن رشد
وهو رائد القائلين بوحدة الوجود العقلية – وهذا ما حدث لأول مرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. فالاتصال عند ابن رشد لا يتم بالنسك، كما يقول ابن طفيل وابن باجة وغيرهما، وإنما يكون الاتصال بالإدراك العقلي المحض، أي بالمنطق وحده. وهنا تلوح لنا طبيعة العلاقة بين الله والإنسان والعالم: إنها علاقة جدلية، أساسها كون الله بمثابة تيار روحي يسري في أجزاء العالم كلِّه؛ أي أن الله هو القانون الضابط للعالم، لا من خارجه، بل من الداخل، باعتبار أن العقل الإلهي يسري في الوجود كله. وهذا نَفَس واضح في وحدة الوجود.
http://www.maaber.org/issue_february07/books_and_readings1.htm
قراءة في كتاب إشكاليَّة وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي، حمزة رستناوي
• أبو حامد الغزالي
وحدة الوجود عند أبي حامد الغزالي ليست مذهباً متكامل الأركان كما هي عند محيي الدين بن عربي، ولكنها أقرب إلى عقيدة أبو الحسن الأشعري، يقول الغزالي: "لا موجود على الحقيقة إلا الله." باعتبار أن الأشياء كلها عدم، وبصفتها اكتسبت صفةَ الوجود من ظهور الله فيها. ولكن الغزالي يحصر الكشف الإلهي في الإنسان وحده، كون الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يتجلَّى فيه النورُ الإلهي بجميع مراتبه، في حين أنه لا يتجلَّى في غير الإنسان إلا في بعض المراتب وحسب.
http://www.maaber.org/issue_october05/books_and_readings5.htm وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي.
يقول الغزالي: (فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره.. المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله) إحياء جـ 2 / 247: 248.
ويقول: (وجميع موجودات الدنيا أثر من أثارة قدرة الله تعالى ونور من أنوار ذاته، بل لا ظلمة أشد من العدم ولا نور أظهر من الوجود، ووجود الأشياء كلها نور من أنوار ذات الله تعالى) إحياء جـ 4 / 370.
ويقول: (وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر والإبصار بظهوره) إحياء جـ 4 / 276.
ويقول عن العارفين: (فلم يروا في الكونين شيئا سواه، إن سنحت لأبصارهم صورة عبرت إلى المصور بصائرهم) إحياء جـ 2 / 236.
ويقول: (فإذا نظرت من هذا المقام عرفت أن الكل منه مصدره، وإليه مرجعه، فهو الشاكر وهو المشكور وهو المحب وهو المحبوب.. ومن هنا نظر الشيخ أبو سعيد المهيني حيث قرئ بين يديه ( يحبهم يحبونه ) فقال: لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق حبهم لأنه إنما يحب نفسه إشارة إلى أنه المحب وهو المحبوب) إحياء جـ 4 / 74.
ويقول: (للتوحيد أربع مراتب وينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر. فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه {لا إله إلا الله} وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين. والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام. والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهي مشاهدة الصديقين وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق). إحياء 4 / 245
كل هذه النصوص تثبت خطأ من يقول بأن الغزالي، ومن يسمونهم بأصحاب التصوف السني، لم يعرفوا وحدة الوجود، قبل أصحاب التصوف الفلسفي، أي ابن عربي وأضرابه. فالغزالي كان عارفاً بهذا المذهب جيداً، بل ذكر مصطلح وحدة الوجود بشكل صريح في إخدى رسائله، فقال: (ثم اعلم أن الذاكر إذا بلغ مرتبة المراقبة ثبتت له وحدة الوجود الإلهية وتحقق بدوام العبودية، فإذا داوم على المراقبة ترقى إلى مرتبة المشاهدة بأن ينكشف له بعين البصيرة أن أنوار وجود وحدة الذات الإلهية محيطة بجميع الأشياء، وأنه تعالى متجل بصفاته وأسمائه في مصنوعاته وبحسب استعداد المشاهدين يصير الابتهاج بأنوار الربوبية). مجموعة رسائل الغزالي ص 179
• جلال الدين الرومي (ت 672 هـ)
قال في كتاب (فيه ما فيه): (لا وجود إلا لله).
رسالة وحدة الوجود ص 18 السيد الحكيم العصار
وبمثل هذا قال بأسلوب ثريٍّ متلألئ: “ومن نكون نحنُ؟ يا مَن أنت لنا روح الروح، حتى يكون لنا وجود مع وجودك! نحن عدم، ووجودنا أنت، ذلك أنك وجود مطلق يُبدي الفانيات الزائلات”.

موقع فتح الله كولن، هل “وحدة الوجود” توافق عقيدة أهل السنة؟

• محيي الدين ابن عربي (ت سنة ٦٣٨ هـ)
لم تظهر فكرة وحدة الوجود في صورة نظرية كاملة متسقة قبل محيي الدين بن عربي. وإن ظهرت بعض الاتجاهات نحو هذه النظرية نجدها بين حين وآخر في أقوال الصوفية السابقين عليه، إلا أن مذهب وحدة الوجود تكامل واستوى على سوقه على يد ابن عربي.
وقد حاول كثير من الكتاب قديمًا وحديثًا أن ينفوا عن ابن عربي القول بوحدة الوجود ظنًّا منهم أن هذا المذهب مذهبٌ ماديٌّ إلحاديٌّ لا يليق بوليٍّ مسلم من كبار أولياء الله، ولو عرفوا أن وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي ليس فيها من المادية شيء، لما استبعدوا صدور هذا المذهب عنه، ولما أنكروا عليه مذهبًا يعد في طليعة المذاهب الفلسفية الصوفية العالمية.
والحقيقة أنه لا ينكر على ابن عربي القول بوحدة الوجود إلا جاهل أو مكابر، فإن كل فقرة من فقرات كتابه «فصوص الحكم» وكثيرًا مما يقوله في «الفتوحات المكية» ينطق بما لا يدع مجالًا للشك بأن له مذهبًا في وحدة الوجود مَلَكَ عليه زمام عقله وروحه وتفرع عنه كل ما ذكره من مسائل الفلسفة والتصوف الكبرى.
يرى ابن عربي أن الوجود بأسره حقيقة واحدة ليس فيها ثنائية ولا تعدد، على الرغم مما يبدو لحواسنا من كثرة في الموجودات في العالم الخارجي وما نقرره بعقولنا من ثنائية الله والعالم: الحق والخلق، ولكن الحق والخلق عنده اسمان أو وجهان لحقيقة واحدة، إذا نظرت إليها من ناحية وِحْدتها سميتها حقًّا، وإن نظرت إليها من ناحية تعددها سميتها خلقًا، ولكنهما اسمان لمسمى واحد:
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا * وليس خلقًا بهذا الوجه فأدركوا
جمِّع وفرِّق فإن العين واحدة * وهي الكثيرة لا تبقي ولا تذر
هذه في نظر ابن عربي قضية بديهية لا تقبل الشك ولا الدليل، ولكنها في الوقت نفسه تقبل التحقيق عن طريق التجربة الصوفية التي يدرك فيها الصوفي في حال فنائه عن نفسه وعن الخلق وحدته الذاتية مع الحق، والعقل وحده - غير المؤيد بالكشف والذوق - لا يقوى على إدراك هذه الوحدة. يصرح ابن عربي بهذه العقيدة في عبارات قوية جريئة لا مواربة فيها، من ذلك قوله: «فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها».
فما نظرت عيني إلى غير وجهه * ولا سمعت أذني خلاف كلامه
وقوله: «وقد ثبت عند المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن وإن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به. فمن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم».
هذه العبارات وأمثالها مما تفيض به مؤلفات ابن عربي صريحة في تقرير وحدة الوجود صراحةً صارخةً، وليس في تأويلها إلى غير ما يفهم من ظاهرها إلا إفسادها، ولكن ابن عربي يواجه مشكلة الكثرة في الوجود - وهي كثرة تشهد بها الحواس ويقرها العقل، ويفسرها على أساس أنها صور ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية التي هي عين الذات، وللحق عند ابن عربي معنيان: الأول «الحق في ذاته» وهو حقيقة مطلقة لا نعرفها ولا نتصل بها بوجه من الوجوه، والثاني: الحق كما يبدو لنا في تجلياته في الوجود، وهو بهذا المعنى مرادف للخلق. ولذلك كان للحقيقة الوجودية وجهان: حق وخلق، وهي الواحد والكثير، والقديم والحادث، والظاهر والباطن، والأول والآخر، وغير ذلك من الأضداد. فإذا نظرت إلى الحق من حيث ذاته فهو الناظر إلى نفسه، وهذا مقام الوحدة، وإذا نظرت إليه من حيث تجلياته نظرت إليه من مقام الكثرة.
وللحقيقة الوجودية في تنزلها إلى علمنا مرتبتان: مرتبة «الأحدية المطلقة»، وهي مرتبة الذات أو مرتبة «العماء»، ونحن لا نعرف عن الذات الإلهية شيئًا، ولا نستطيع أن نصفها بشيء لأنها من هذه الحيثية مجردة عن كل اسم ووصف وإضافة، والثانية مرتبة «الواحدية» وهي المرتبة التي تتجلى فيها الذات في مجالي الأسماء والصفات، وهي مرتبة «الحق» أو الله بالمعنى الديني. وفي هذه المرتبة ندرك الفرق بين الإله والمألوه، والخالق والمخلوق، والمطلق والنسبي، والحق والخلق. أما في مرتبة العماء - أو الإطلاق الصرف - فلا ندرك هذه المعاني؛ ولهذا يخطِّئ ابن عربي الغزالي ومن يرى رأيه من الحكماء في زعمهم أن الله تعالى يمكن أن يُعرَف من غير نظر في العالم، فيقول: «نعم تعرف ذات قديمة أزلية، لا تعرف أنها إله حتى يعرف المألوه، فهو (أي المألوه) عين الدليل عليه».
وإن وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي ليست وحدة وجود مادية بمعنى أن الحقيقة الوجودية هي ذلك العالم المادي الماثل أمام حواسنا، ولكنها وحدة وجود مثالية أو روحية تقرر وجود حقيقية عليا هي الحق الظاهر في صور الموجودات، وتعتبر وجود العالم بمثابة الظل لصاحب الظل؛ ولهذا يحرص ابن عربي على القول بأن الحق منزه مشبه معًا، فتنزيهه في وحدته الذاتية ومخالفته للحوادث، وتشبيهه في تجليه بصورها، وتختلف درجة توكيده لجانب التنزيه أو جانب التشبيه باختلاف الحال التي يكتب فيها، فقد يغلب عليه لسان التشبيه حتى تكاد تظنه ماديًّا، وقد تغلب عليه العاطفة الدينية فيتكلم بلسان التنزيه وينكر كل مناسبة بين الله والمخلوقات.
أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام
وكثيراً ما يتوقف الباحث أمام ابن عربي متسائلاً: هل عنده وحدة وجود أو وحدة شهود؟ ثم لا يلبث أن يقرر أنها وحدة وجود، من حيث أنها لم تبرز في صيحة وجد، بل كانت نتيجة باردة لتفكير نظري. والحقيقة أن وحدة ابن عربي تختلف عن وحدة شهود غيره بسبب جوهري، وهو ان الشيخ الأكبر لم يقطفها ثمرة فيض فناء في الحق، فناء أفناه عن رؤية كل ما سوى الحق، فقال بعدم كل ما سواه، كلا ان ابن عربي يرى الكثرة، وشهوده يعطيه الكثرة، وبصره يقع على كثرة. اذن الكثرة عنده: موجودة. وهنا نستطيع ان نقول ان وحدته على النقيض من وحدة الشهود، تعطي: كثرة شهودية. فالنظر يقع على كثرة عنده. وهذا ما لا يمكن ان ينطبق على وحدة الشهود. ولكن ابن عربي لا يقف مع الكثرة الشهودية او - بتعبير ادق - المشهودة، بل يجعلها كثرة معقولة، لا وجود حقيقي لها. ويقرر: (أنه ما في الوجود إلا الله، العين وإن تكثرت في الشهود، فهي أحدية في الوجود) والممكنات قد يطلق عليها ابن عربي اسم الموجود، ولكنه لا ينعتها أبداً بالوجود، ويجعلها ثابتة في العدم، وكما يقول: الممكن لم يشم رائحة الوجود. ولكن لا ينحصر وجود الحق ويتحدد بظهوره في المظاهر، بل له وجود متعال خاص به، وبهذا الوجود المتعالي يفارق ابن عربي وحدة الوجود الملحدة.
المعجم الصوفي، د. سعاد الحكيم ص 1145-1146 و 1149
ولقد تأثر ابن عربي بكلٍّ من الفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن طفيل وأخوان الصفا، إلا أنه تجاوزهم جميعًا تركيزًا وهندسةً وصياغةً لنظرية وحدة الوجود بشكل لم يسبق له مثيل، فلم يأتِ بعده بديل؛ إذ لم يحقق مَن جاء بعده أيَّ تجاوُز يُذكَر لمذهبه، وإنما ساروا على الدروب التي عبَّدها لهم، بمن في ذلك عبد الكريم الجيلي وسپينوزا، أكبر عقل غربي في مجال وحدة الوجود. يتفق سپينوزا مع ابن عربي إلى حدٍّ يثير الدهشة.
http://www.maaber.org/issue_october05/books_and_readings5.htm وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي
• ابن عطاء الله السكندري
قال في (الحكم العطائية) الحكمة السابعة والثلاثون: كان الله ولاشيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. وقال في الحكمة رقم (141) الأكوان ثابتة بإثباته وممحوة بأحدية ذاته. قال الشيخ عبد المجيد الشرنوبي في "شرح الحكم العطائية" في شرحه على هذه الحكمة: يعني أن الأكوان من حيث ذاتها عدم محض ولم تكن ثابتة إلا بإثباته تعالى وإيجاده لها وظهوره فيها. فالثبوت لها أمر عرضي وإلا فهي في الحقيقة ممحوة بأحدية ذاته. فمن نظر إلى أحدية ذاته لم يجد للأكوان ثبوتاً وإنما لها ثبوت عند من نظر إلى الواحدية. لأن الأحدية عند العارفين هي الذات البحت، أي الخالصة عن الظهور في المظاهر وهي الأكوان. والواحدية هي الذات الظاهرة في الأكوان.
• السيد جمال الدين الأفغاني
قال: أنّ الحقّ مبدأ الكلّ ومعاده، واليه يرجع كلّه وإلى الله عاقبة الأُمور، ولابدّ أن يكون الكلّ فيه قبل كونه، ولابدّ أن يكون في الكلّ هو، وإذا ثبت أنه كان ولا شيء معه، وهو الآن كما كان. ثم يقول:، وما ثَمّ إلّا وجود واحد، والأشياء موجودة به معدومة بنفسها، إذ ليس مرادهم بالاتّحاد إلّا شهود الوجود الواحد المطلق الذي الكلُّ به موجود، فيتّحد به الكلّ من حيث كون كلّ شيء موجودًا به ومعدومًا بنفسه، لا من حيث إنّ له وجودًا خاصًّا به الكلّ، فإنّه محال، ولهذا الوجود الواحد ظهور، وهو العالَم، وبطون وهو الأسماء، وبرزخ جامع فاصل بينهما؛ ليتميّز به الظهور من البطون، وهو الانسان الكامل. إنّ علمه بذاته مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، وإنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته؛ لأنّه هو جميع الأشياء إجمالًا وتفصيلًا، فمن عرف نفسه فقد عرف ربّه وعرف جميع الأشياء، ففكرك يا ولدي فيك يكفيك، فليس شيء خارجًا منك، كلا.
قال أمير المؤمنين:
دَواؤُكَ منكَ وما تشعُرُ... وداؤُكَ فيكَ وما تُبصِرُ
أتزعُمُ أنّكَ جُرمٌ صغير... وفيكَ انطوَى العالَمُ الأكبرُ
(مرآة العارفين، ضمن رسائل في الفلسفة والعرفان ص 34-37 ط. دار الشروق بالقاهرة)
• الشيخ الإمام محمد عبده
قال: ليس في الوجود الحقيقي الذاتي إلا ذات مطلقه واحدة، لا تعدد فيها إلّا بتعدّد اعتباراتها، لا تقيّد فيها بوجه من الوجوه، وهو واجب الوجود، فافهم. ونحن نقول ليس وجود إلاّ وجوده ولا وصف إلاّ وصفه، فهو الموجود وغيره المعدوم.
قال الأُمراء الأوّلون رضي الله عنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ: «ما رأيت شيئًا إلّارأيت الله قبله أو بعده أو فيه أو معه». ولا يقعن في وهمك أنّ هذا قول بالحلول، فإنّ الحلول إنّما يكون بين وجودين: أحدهما حالّ في الآخر، ونحن نقول: لا وجود إلّاوجوده. فهلّا تحقّقت من هذا: أنّ ما هو وجود الكلّ - الذي لا وجود إلّا من وجوده، بل لا وجود إلاّ وجوده، وكلّ ما سواه عدم. فدقّق النظر، وإيّاك أن تحجبك الكثرة عن ذات الوحدة (سر التجليات، ضمن رسائل في الفلسفة والعرفان ص 55-58 ط. دار الشروق بالقاهرة).
• الأمير عبد القادر الجزائري
يقول: وحدة الوجود هو معنى كون الحق تعالى معنا بذاته الجامعة لصفاته لا بصفة العلم على المعنى الذي يعرفه علماء الرسوم. وإنه لا وجود إلا وجوده تعالى، ولا صفات إلا صفاته تعالى، والوجود المنسوب إلى المخلوق مجازاً هو وجوده
المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد - ج 1 ص 306 – 307
و ويقول: «لما كانت حقائق الممكنات المسماة بالأعيان الثابتة ما برحت معلومة، ما شمت رائحة من الوجود، الذي يقال فيه وجود خارجي، كان كل ما يقع عليه إدراك، إنما هو الوجود الحق ظاهراً بأحوال الممكنات ونعوتها وصفاتها. وما لا وجود له لا شيء له من توابع الوجود من كلام وسمع وبصر وقدرة وعلم وغير ذلك». المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد ج 3 ص 1327
يشير إلى أمانة الصفات الإلهية التي حملها الإنسان، كما قال تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان).
• بديع الزمان سعيد النورسي
يقول: «تعتبر وحدة الوجود التي تضم وحدة الشهود، من المشارب الصوفية المهمة، وهي تعني: حصر النظر في وجود (واجد الوجود) أي: أن الموجود الحق هو واجب الوجود سبحانه فحسب، وأن سائر الموجودات ظلال باهتة وزيف ووهم لا تستحق إطلاق صفة الوجود عليها حيال واجب الوجود، لذا فإن أهل هذا المشرب يذهبون إلى اعتبار الموجودات خيالاً ووهماً، ويتصورونها عدماً في مرتبة ترك ما سواه، أي: (ترك ما سوى الله تعالى)»
أنوار الحقيقة - ص 59 - 60
ويقول: ان الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الإعلان عنه على رؤوس الأشهاد مقدرين مستحسنين معجبين به. ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسـنه في مـرآة عاكسة ويشهد في محاسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق إليه، فانـه يريـد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب أيضاً بأنظار الآخرين. أي أن النظـر إلى جمـال ذاتـه يستدعي أن يكون من جهتين: الأولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الألوان. والأخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين. أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والإشهاد (الرؤية والإراءة).
كليات رسائل النور 1/71-72


أهمية وحدة الوجود في نشر الحب والتسامح وقبول الآخر
في مذهب وحدة الوجود يختفي التنافس على السلطة الدينية والزمنية، تختفي الحروب الدينية، والتنافس على الله واحتكار الحقيقة، لا نجد في وحدة الوجود احتقار أهل الأديان للفلاسفة والحضارات القديمة، لأنهم "كفار" غير مسلمين. بل على العكس نجد الإعتراف بقيمة العقل وقدر الفيلسوف ولو كان غير مسلم، يقول أحد أقطاب وحدة الوجود، وهو الشيخ عبد الكريم الجيلي، ما نصه: (ولقد اجتمعت (أي في عالم المثال) بأفلاطون الذي يعده أهل الظاهر كافراً فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نورا وبهجة، ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد من الأولياء فقلت له من أنت؟ قال: أنا قطب للزمان وواحد الأوان، ولكم رأينا من عجائب وغرائب مثل هذا ليس من شرطها أن تفشى) الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ص 52.
وإن كان أفلاطون في نظر عقلاء العالم من أقطاب الفكر الإنساني ومن أكابر الفلسفة، إلا أنه في نظر رجال الدين كافر لا دين له، ولذلك يتعجب الجيلي مما رآه ويصفه بأنه من العجائب والغرائب، إذ كيف يكون رجل غير مسلم هو قطب الزمان المعروف عند الصوفية؟ ويقول أن هذه أسرار من شأنها ألا تُفشى، لأن الأديان احتكارية، تحتكر الحقيقة فيها، وأما وحدة الوجود فهي تسمح أن يستوي الكل أمام الله، وتقدر الفكر الإنساني، خارج نطاق الدين. فلا مانع من الإستفادة من نتاج الثقافة العالمية، وأن نأخذ من كل دين وفلسفة أحسن ما فيها.
وقد ورد في الحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها) ففي ظل وحدة الوجود، ليس هناك ضيق أفق ولا احتكار للحقيقة.
يعبر عن هذا أصدق تعبير، رائد وحدة الوجود محيي الدين ابن عربي، إذ يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي … إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة… فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف … وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت … ركائبه فالحب ديني وإيماني
وهذا هو سبب احتلال مولانا جلال الدين الرومي مكانة متميزة في قلوب الغربيين في أوروبا والولايات المتحدة على وجه الخصوص. ويقول الباحث العراقي فلاح الخياط، إن اهتمام الأميركيين بالرومي قد بلغ قمته عام 2007، بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده. وبنفس المناسبة وزعت منظمة اليونسكو للثقافة والعلوم ميداليات باسم الرومي وأعلنت أن "أفكار وآمال الرومي تكون جزءا من أفكار وآمال اليونسكو. ويعود اهتمام الغرب بالرومي - كما يرى الخياط - نتيجة الترجمات المكثفة للمستشرقين رينالد نيكلسون وآرثر جون أربري وآنا ماري شيميل.
ويقول د. عبد الجبار الرفاعي أنه وجد في مفهوم الرومي للدين أنه لا يكره الحياة ولا يخاف الفن ولا يزدري الفرح، بل هو دين التضامن ضد دعوة الموت بكل أشكالها، دين ليس على الضد من الطبيعة البشرية ويدعو للبهجة ويحتفي بالمسرة والمحبة. (جلال الدين الرومي.. إمام العارفين، مقال على موقع الجزيرة نت)
وحدة الوجود في عصر النهضة وعصر التنوير
إن وحدة الوجود هي أحد الدعامات الفكرية التي قام عليها عصر النهضة وعصر التنوير في أوروبا. وهذا هو سر التفاؤل بالإنسان والإعتراف بمكانته الكبيرة، التي قرأها فلاسفة أوروبا في الفلسفة اليونانية فأحبوها وتعلقوا بها، وتخلوا عن نظرة الدين الدونية للإنسان واحتقاره وأمره بالزهد في الدنيا التي هي دار ممر لا دار مقر.
لقد كانت عقيدة الوحدة هي عقيدة سبينوزا، أول من طبق المنهج العقلاني على النصوص الدينية اليهودية والمسيحية معاً، حيث قدم في كتابه "الأخلاق" تصوراً عن الله يختلف كلياً عن تصور اليهود والمسيحيين وجميع أتباع الأديان التوحيدية. فالله أصبح كلي الوجود ولم يعد هو الخالق المنفصل عن خلقه والقابع في أعلى السماوات. أصبح الله على يد سبينوزا هو ظهور الكون بما فيه ومن فيه. وهذا ما جرأه على نقد النص المقدس لأول مرة بجرأة منقطعة النظير، دون خوف من بطش الرب، لأنه يؤمن برب وجداني، داخلي، متحد به غير مفارق. وربما كان هذا التصور الغريب من نوعه هو الذي دفع أوروبا المسيحية إلى رفض سبينوزا ونبذه على مدار ثلاثة قرون تقريباً. عندئذ اتهم بالمادية والإلحاد والحلولية ووحدة الوجود. (مدخل إلى التنوير الأوروبي ص 190).
وهي الفلسفة الروحية التي انتشرت فيما بعد وأثرت على أقطاب الفكر الحديث من أمثال غوته، وهيغل وهاينه وماركس، ونيتشه، وفرويد، وأينشتاين. فجميعهم اعترفوا في لحظة ما من لحظات حياتهم بأنهم متأثرون بسبينوزا (مدخل إلى التنوير الأوروبي ص 194).
وكان جيوردانو برونو شهيد الأصولية المسيحية يعتقد بأزلية العالم وخلود المادة وتجلي الله في الطبيعة والظواهر وكل شيء. ولذلك اتهم بأنه من المؤمنين بوحدة الوجود، وأنه خرج على المبادئ الأساسية للعقيدة المسيحية. وبالتالي فتصوره لله يشبه تصور الفلاسفة لا تصور المؤمنين المسيحيين، وهذا ما لم يستطيعوا أن يحتملوه فأحرقوه (مدخل إلى التنوير الأوروبي ص 128).
وكان هذا المذهب هو مذهب المصريين القدماء الذين عرفوا أقدم حضارة عرفها البشر، ودخلت أوروبا عن طريق حكماء مصر المهاجرين إلى أوروبا في القرن الخامس عشر، يقول د. وسيم السيسي: (من حسن الحظ أن السابي أو حكماء مصر كانوا يحملون الفكر التحوتي أو العقيدة المصرية التحوتية، وانتقلوا بها إلى فرنسا وإنجلترا سنة 1460م وترجموا هذا الفكر الذي تسميه اليونان الفكر الهرمسي، ولكنه الفكر التحوتي، فتلقفته انجلترا وعلى رأسها إليزابيث الأولى ومعها فرانسيس بيكون وكبار العلماء والفلاسفة، فاعتنقوا الفكر المصري القديم، وهو أن الله في الكون كله، وليس أنه منفصل عن العالم، على العرش أو أن له أعضاء. وكان هذا الفكر هو أحد العوامل التي خرجت بها أوروبا من عصور الظلام إلى النهضة)
د. وسيم السيسي يكشف عن سر تقدم أوروبا، عبر موقع يوتيوب.
وليس صحيحاً أن الفلاسفة المثاليين كانوا يعتقدون بوحدة الوجود الملحدة التي لا تثبت إلا وجود الطبيعة وتنفي وجود الله، كما يظن بعض الباحثين بفلسفة باروخ سبينوزا، لقد دافعوا عن وجود الإلهي في العالم، ولكنهما في الوقت نفسه نظروا إلى الفرق بين الله والطبيعة ونسبوا التسامي أو على الأقل الجوانب المتعالية إلى الله. بل إن الفيلسوف الكبير د. فؤاد زكريا عكف على مؤلفات سبينوزا رائد وحدة الوجود في أوروبا، وقرأها قراءة متأنية، وخرج بنتيجة غاية في الروعة مفادها أن فكرة الله عند اسپينوزا ليست مجرد واحدة من الأفكار التي تعالجها فلسفته، فكل فلسفة اسپينوزا يمكن أن تعد - بمعنى معين - تفكيرًا في الله. ففكرة الله عنده شاملة لكل شيء. ولما كان فهْم الأشياء هو، في رأي اسپينوزا، فهمٌ لله أيضًا، فإن كل تفكير في أي موضوع فرعي من موضوعات المعرفة يعد في الوقت ذاته تفكيرًا في الله، كما أن معالم فكرة الله لا تتضح على حقيقتها إلا بعد فهم جميع الأوجه الأخرى لمعرفة الأشياء فهمًا فلسفيًّا، ويعبِّر «هيلر» عن هذا الرأي تعبيرًا واضحًا إذ يقول: «إن البحث في الله يستغرق فلسفة اسپينوزا من ألفها إلى يائها». يتضح في كلمة «نوڨالس» المشهورة، التي وُصِف فيها اسپينوزا بأنه «رجل منتشٍ بالله»، بل إن هيجل يرد على الرأي القائل بإلحاد اسپينوزا، على أساس أن هوية الله مع الطبيعة تُلغي فكرة الله، فيقول إن الأصح هو القول بأن هذه الهوية تُلغي الطبيعة؛ ولهذا يقترح، بدلًا من تسمية مذهبه بالإلحاد (أي اللاإلهية A-theismus) أن يُسمَّى باللاكونية (أو اللاطبيعية A-cosmismus)، بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته؛ لأن كل ما يوجد إنما يوجد في الله.٣ وهكذا يقول: «إنَّ مزاعم أولئك الذين يتهمون اسپينوزا بالإلحاد مخالفة للحقيقة على خط مستقيم، فلدى اسپينوزا من الله أكثر مما ينبغي»
أثر ابن عربي في النهضة الأوروبية
يقول «نيكولسون» في أثر الأندلس في البعث الأوروبي فيقول: «إن ابن عربي عبقري الإسلام في الأندلس، بدراساته الجريئة في الإلهيات، ومشاهداته الكبرى في عالم الروح، قد عَبَّدَ السبل أمام اللاهوت المسيحي للنهوض والتحلل من القيود» ثم يقول: «وأثر ابن عربي في النهضة الأوروبية لم يقتصر على هذا، بل له آثاره في بعث الأدب الأوروبي أيضًا، فإذا قابلنا بين ما كتبه دانتي مثلًا حينما نظم الكوميديا الإلهية وبين ما كتبه ابن عربي، نرى أن دانتي قد تتلمذ على ابن عربي تلمذة واضحة في النهج والأسلوب والطريقة، بل وفي الصور والأمثال والاصطلاحات والأساليب الفنية»
وليس «نيكولسون» وحده هو الذي يقول هذا، بل نرى أيضًا المستشرق الكبير «آسين بلاسيوس الإسباني» يشهد بأن نزعات دانتي الصوفية في كتبه، وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من ابن عربي بغير تصرف كبير، ثم يقول بعد ذلك: «إن ابن عربي هو الأستاذ الحقيقي للنهضة الصوفية الدينية في أوروبا» ولنستمع إليه إذ يحدثنا قائلًا: «ومن المعلوم: أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين وهو «جوهان إكهارت الألماني» قد نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي، ودرس في جامعة باريس، هي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم، وإكهارت يقول كما يقول ابن عربي بأن الله هو الوجود الحق، لا موجود على الحقيقة سواه، وأن الحقيقة الإلهية تتجلى في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان.
ومن هذه الفلسفة قبسات واضحة في مذهب «سبينوزا»، الذي نشأ في هولندا، وأصله من يهود البرتغال، الذين أُكرهوا على الدين المسيحي، فقد كان كلامه عن الذات والصفات، وتجلي الخالق في مخلوقاته، وتلقي الخلق نور المعرفة الصحيحة بالبصيرة والإلهام، نسخة من فلسفة ابن عربي.
والفيلسوف المتصوف الإسباني «رايمو ندلول» قد اقتبس معارفه عن أسماء الله تعالى وأثرها في الكون، من كتاب ابن عربي: «أسماء الله الحسنى». وكان رايموند يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي، فانتحل الكثير من تراثه، وراح يزود المكتبة الأوروبية بالروائع التي تدل معانيها في وضوح وجلاء على صحة أبوة محيي الدين لها؛ لاسيما وهذا اللون من العلوم لم تعرفه من قبل الديانة المسيحية».
طه عبد الباقي سرور، محيي الدين بن عربي، أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة عشر: المنهج التجريب ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة عشر: الإنسان هو الذ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية عشر: ضرورة معرفة تط ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الحادية عشر: ضرورة معرفة تا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة العاشرة: ضرورة التخلص من سل ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة التاسعة: ضرورة فهم معنى الف ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثامنة: ضرورة معرفة معنى ا ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السابعة: خطورة الإعجاز العل ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة السادسة: ضرورة معرفة تاريخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة: العلاقة بالآخر ومش ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الدين ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه
- المختار من الفتوحات المكية (23) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (22) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (21) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (20)
- المختار من الفتوحات المكية (19) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (18) محيي الدين بن عربي


المزيد.....




- الكنسية القبطية تعلن ترتيبات تجنيز الأنبا أنطونيوس مرقس مطرا ...
- تثبيت سريع الآن .. تردد قناة طيور الجنة الجديد TOYOUR EL-JAN ...
- شيخ الأزهر يزور إيطاليا ويلتقي بابا الفاتيكان لبحث دعم اتفاق ...
- شيخ الأزهر يزور إيطاليا ويلتقي بابا الفاتيكان لبحث دعم اتفاق ...
- زهران ممداني يتعهد بالتمسك بهويته الإسلامية
- جينيفر لورنس تُعيد تعريف أناقة السجادة الحمراء بكنزة صوفية ب ...
- قوات الاحتلال تعتقل ثلاثة شبان من دير بلوط غرب سلفيت
- أخر تحديث لـ تردد قناة طيور الجنة الجديد TOYOUR EL-JANAH KID ...
- TOYOUR EL-JANAH KIDES TV .. تردد قناة طيور الجنة الجديد للأط ...
- الرمان فاكهة الجنة ودرع المناعة في الشتاء


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الخامسة عشر: ضرورة الإيمان بوحدة الوجود