أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - الدولة التونسية و تغوًل رأس المال : حين تختبر الديمقراطية اجتماعياً















المزيد.....

الدولة التونسية و تغوًل رأس المال : حين تختبر الديمقراطية اجتماعياً


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 21:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الدولة التونسية في مواجهة تغوّل رأس المال: حين تُختبر الديمقراطية اجتماعيًا

البشير عبيد - تونس

تُختبر الدول، في لحظات التحوّل العميق، لا بوفرة الخطاب ولا بكثرة الشعارات، بل بقدرتها على حماية معناها ووظيفتها التاريخية. وفي الحالة التونسية، لا يتمثل التحدي الجوهري في شكل النظام السياسي أو في هندسة المؤسسات بقدر ما يكمن في صراع صامت وطويل النفس بين مشروع دولة يُفترض أن يحمل أفقًا ديمقراطيًا واجتماعيًا، وبين قوى رأس مال متشابكة راكمت نفوذها خارج منطق الدولة، وتسعى إلى إعادة تشكيل المجالين الاقتصادي والاجتماعي وفق مصالحها الخاصة.
لقد تشكّل في تونس، عبر عقود، نموذج اقتصادي هش، سمح بتغلغل المال الكبير في قطاعات استراتيجية دون رقابة فعلية أو مساءلة صارمة. ولم يكن هذا التغلغل نتيجة طبيعية لقوة السوق وحدها، بل ثمرة تضافر عوامل متعددة: ضعف الدولة في لحظات مفصلية، هشاشة الإطار القانوني، وتواطؤ جزء من النخب الإدارية والسياسية. وبهذا المعنى، لم يعد المال مجرد فاعل اقتصادي، بل تحوّل إلى قوة بنيوية قادرة على تعطيل الإصلاحات، وإعادة توجيه السياسات العمومية بما يخدم مصالح ضيقة.
نشأت، في هذا السياق، شبكات مصالح مركّبة، لا تنتمي كليًا إلى الدولة ولا تقف خارجها تمامًا، لكنها تتحرك في المساحات الرمادية التي تفصل بين القانون واللا-قانون. هذه الشبكات لا تحتاج إلى إعلان نفوذها، إذ يكفيها أن تُضعف الدولة من الداخل، وأن تحوّل مؤسساتها إلى هياكل إجرائية فاقدة للقدرة على الفعل والردع.
الدولة الديمقراطية، في معناها العميق، لا تُقاس فقط بحرية التعبير أو بتداول السلطة، بل بقدرتها على فرض سيادة القانون على الجميع دون استثناء، وبحمايتها لمبدأ العدالة الاجتماعية باعتباره جوهر العقد بين الدولة ومواطنيها. وحين يصبح المال الكبير بمنأى عن المحاسبة، تتحول الديمقراطية إلى بنية شكلية تُدار داخلها الاختلالات بدل أن تُعالَج، ويُفرَّغ المشروع الديمقراطي من مضمونه الاجتماعي، ليغدو مجرد واجهة سياسية بلا روح.
قوى رأس المال المتغوّلة لا تواجه الدولة مواجهة مباشرة، بل تعتمد استراتيجية أكثر دهاءً وتعقيدًا، قوامها العمل في مناطق الظل، حيث تختلط المصالح الخاصة بالقرار العام، وحيث يمكن تعطيل القوانين دون إعلان رفضها. فهي لا تعارض نصوص مكافحة الفساد المالي، لكنها تُفرغها من فعاليتها عبر النفوذ والضغط، أو عبر صناعة خطاب عام يشكك في ضرورتها، ويصوّرها كعائق أمام “الاستثمار” و“النمو”. وفي هذا السياق، تتحول مفاهيم اقتصادية تقنية إلى أدوات أيديولوجية تُستخدم لتبرير الإفلات من المحاسبة.
إن أحد أخطر تجليات هذا الواقع يتمثل في تحويل الاقتصاد إلى سلطة موازية، لا تخضع للانتخاب ولا للمساءلة، لكنها تؤثر بعمق في الخيارات الكبرى للدولة. فحين يصبح تحديد الأسعار، ومسالك التوزيع، والاستثمار في القطاعات الحيوية، رهين حسابات ضيقة، تفقد الدولة قدرتها على التخطيط الاجتماعي، وتتحول من فاعل منظم إلى متلقٍ للضغوط، ومن حامٍ للصالح العام إلى وسيط هش بين قوى غير متكافئة.
ولا يقف أثر هذا التغوّل عند حدود الاقتصاد، بل يتجاوزها ليطال البنية الثقافية والرمزية للمجتمع. إذ يعيد رأس المال المتوحش تشكيل الوعي العام عبر امتلاكه أدوات التأثير الإعلامي، وفرضه لمنظومة قيم تمجّد الربح السريع وتُهمّش فكرة الصالح العام. فيُعاد تعريف النجاح باعتباره قدرة على التراكم المالي لا على الإنتاج أو الإسهام الاجتماعي، وتُقدَّم الدولة بوصفها عبئًا لا ضمانة، ويُصوَّر المرفق العمومي كفشل بنيوي لا كخيار اجتماعي.
في ظل هذا المسار، تتآكل الثقة في الدولة تدريجيًا. فالمواطن الذي يرى التهرّب الجبائي يُكافأ ضمنيًا، والاحتكار يُدار بلا عقاب، يفقد الإيمان بعدالة المنظومة. وهنا يتفكك العقد الاجتماعي، وتتحول العلاقة بين الفرد والدولة إلى علاقة قسرية، قائمة على الإكراه لا على الانتماء الواعي. وهذه اللحظة بالذات هي الأخطر، لأنها تفتح الباب أمام الشعبوية، أو العزوف، أو اللامبالاة السياسية، وكلها مؤشرات على أزمة عميقة في معنى الدولة ووظيفتها.
الدولة ذات الأفق الديمقراطي والاجتماعي لا يمكن أن تستقيم دون سيادة جبائية عادلة، ودون فصل واضح بين الثروة والقرار السياسي. فالجباية ليست مجرد أداة مالية، بل تعبير ملموس عن المساواة أمام القانون، وعن استعداد الجميع لتحمّل أعباء الدولة وفق قدراتهم الحقيقية. ومكافحة الفساد ليست شعارًا أخلاقيًا يُرفع في الخطب، بل شرط بنيوي لإعادة توزيع الفرص، وضمان تكافؤها، وحماية الفئات الهشة من منطق السوق المنفلت.
كما أن حماية المرفق العمومي تمثل خط الدفاع الأخير عن البعد الاجتماعي للدولة. فالصحة والتعليم والنقل والخدمات الأساسية ليست قطاعات خاسرة كما يروّج الخطاب النيوليبرالي، بل استثمارات طويلة المدى في الاستقرار الاجتماعي وفي تماسك الدولة نفسها. وحين تُترك هذه القطاعات رهينة لمنطق الربح وحده، تُعاد إنتاج الهشاشة، وتتعمّق الفوارق، وتفقد الدولة أحد أهم مصادر شرعيتها الأخلاقية.
إن معركة تونس الحقيقية ليست مع الاستثمار في ذاته، بل مع الفساد المقنّع بثوب الاستثمار. وليست مع رأس المال كقوة إنتاج، بل مع تحوّله إلى سلطة فوق الدولة، قادرة على توجيه القرار دون تفويض شعبي. فالدولة القوية لا تعادي السوق، لكنها تنظّمه، وتضع له حدودًا واضحة، وتُخضعه لقواعد شفافة تمنع تحوّله إلى أداة هيمنة أو ابتزاز.
في النهاية، لا يمكن للديمقراطية أن تستقر دون مضمون اجتماعي، ولا يمكن للعدالة الاجتماعية أن تتحقق دون دولة تمتلك الشجاعة السياسية لتفكيك شبكات المصالح غير الرسمية، واستعادة القرار الاقتصادي من قبضة النفوذ غير الخاضع للمساءلة. تلك معركة طويلة ومعقّدة، لكنها المعركة الوحيدة التي تستحق أن تُخاض، إذا أُريد لتونس أن تكون دولة مواطنين لا دولة امتيازات، ودولة قانون لا دولة نفوذ.

- كاتب صحفي و باحث مهتم بقضايا التنمية و المواطنة و النزاعات الإقليمية و الدولية و آخر تطورات الصراع العربي - الصهيوني.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا بين الفراغ و الهشاشة : سلطة انتقالية بلا مشروع تحرري
- إنهيار الأسطورة: المشروع الصهيوني بين تفكك الداخل و إستعصاء ...
- صناعة القوًة في الظلً : حين يعيد التاريخ دروسه بين المقاومة ...
- مواطنون لا رعايا : من أجل جمهورية ديمقراطية إختماعية تونسية ...
- محور المقاومة العربية : استراتيجيات الصمود و مسارات التاثير ...
- غزة و التحولات الإقليمية..حدود القوة و إمكانات التغيير
- الأمة العربية بين الوعي و المقاومة : صراع التاريخ و الخيارات ...
- شهادة نعتزً بها و تدفعنا إلى الأمام...
- الحبكة المقدسة : الدين في السينما الغربية
- السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الج ...
- انيسة عبود ..بين النعنع البرًي و صدى الروح الأدبية
- الذكرى الثانية لطوفان الأقصى : سقوط الأسطورة الصهيونية و صعو ...
- هاني بعل الكنعاني لصبحي فحماوي بين التاريخ و الأسطورة و الهو ...
- الجمهورية الممكنة..من الرعوية إلى المواطنة
- من يقاوم الهزيمة لا يخشى النهايات
- غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان
- رشاد أبو شاور ..روائي المقاومة و ذاكرة فلسطين
- رفح.. العملية النوعية التي كسرت وهم المنطقة الآمنة
- عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي
- زياد جيوسي...مسيرة فكربة و نقدية لافتة


المزيد.....




- سوريا تُعلن رسمياً إطلاق عملة جديدة في يناير 2026 لمعالجة ان ...
- الصوماليون يدلون بأصواتهم بمقديشو في أول انتخابات محلية منذ ...
- عون يؤكد أن -شبح الحرب تم إبعاده عن لبنان-: تفاؤل واقعي أم ...
- هل يشكّل تنظيم داعش تهديدا وجوديا للسلطات السورية الجديدة؟
- الرئيس التركي يعد قائد الجيش السوداني بـ-تعزيز- التعاون بين ...
- هل حظرت الجزائر كعكة عيد الميلاد؟
- خطة حصر السلاح تدخل اختبارها الأخير.. وبيروت تحبس أنفاسها
- مقرر أممي: تهديدات إسرائيل بالاستيطان في غزة انتهاك للقانون ...
- عاجل | الجيش الإسرائيلي: قتلنا شخصين اقتربا من الخط الأصفر ف ...
- -شبكات- تتناول خطة تسلح إسرائيلية ضخمة وتجريم الاستعمار الفر ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - الدولة التونسية و تغوًل رأس المال : حين تختبر الديمقراطية اجتماعياً