أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - البشير عبيد - إنهيار الأسطورة: المشروع الصهيوني بين تفكك الداخل و إستعصاء الواقع العربي















المزيد.....

إنهيار الأسطورة: المشروع الصهيوني بين تفكك الداخل و إستعصاء الواقع العربي


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 20:27
المحور: القضية الفلسطينية
    




البشير عبيد - تونس

لم يعد الحديث عن الكيان الصهيوني حديثًا عن قوةٍ عسكريةٍ جامحة، أو عن نموذجٍ استيطاني ناجح، بل عن مشروعٍ آخذٍ في التآكل الذاتي، يفقد مبررات وجوده بقدر ما يفقد السيطرة على روايته المؤسسة. في أعقاب حرب غزة، وما كشفته من هشاشةٍ أمنيةٍ وأخلاقيةٍ وسياسية، باتت إسرائيل تقف أمام لحظة الحقيقة التي طالما خشيتها: لحظة مواجهة ذاتها من دون أقنعة، ومن دون أوهام التفوق الأخلاقي أو الحماية الغربية المطلقة.
هذه اللحظة ليست حدثًا عابرًا في تاريخ الصراع، بل هي نقطة انعطافٍ كبرى تُعيد تعريف ميزان القوى في المنطقة، وتفرض قراءة جديدة لمسار الصراع العربي الصهيوني الذي ظن البعض أنه انتهى مع اتفاقات التطبيع، فإذا به يعود أشد رسوخًا وأوسع أفقًا.
منذ نشأتها، قدّمت إسرائيل نفسها كـ"دولة الخلاص" التي نهضت من رماد المحرقة لتصبح قلعة الغرب في الشرق. غير أن هذا التصوّر الميثولوجي ظل هشًّا، لأنه تجاهل الحقيقة التاريخية: لا يمكن لكيانٍ استعماريٍّ أن يعيش في قلب أمةٍ حيّةٍ إلى ما لا نهاية. ومع كل حربٍ، ومع كل جولةٍ من المواجهة، تتصدّع تلك الأسطورة التي صُنعت بعنايةٍ في مختبرات الغرب السياسي والإعلامي.
ما يجري اليوم هو انكشافٌ للزيف المتراكم منذ أكثر من سبعة عقود، حيث قامت إسرائيل على روايةٍ محروسةٍ بالدعاية أكثر مما هي محروسةٌ بالسلاح، وعلى خوفٍ من الزوال أقوى من يقينٍ بالبقاء. لقد تحوّل هذا الخوف، بعد كل ما حدث في غزة، إلى وعيٍ جماعي بالهشاشة، وإلى إدراكٍ بأن المشروع الصهيوني الذي قُدِّم للعالم بوصفه "دولةً ديمقراطيةً متحضرة" ليس سوى كيانٍ استعماري يعيش خارج التاريخ، ويُعاد اليوم إلى حجمه الحقيقي في الجغرافيا والوجدان معًا.

تفكك الداخل الإسرائيلي: نهاية العقد الصهيوني

تعيش إسرائيل اليوم حالة تفكك داخلي غير مسبوقة منذ تأسيسها. فالدولة التي تغنّت طويلاً بوحدة الصف وتماسك الجبهة الداخلية، باتت غارقة في انقساماتها المذهبية والإيديولوجية والطبقية.
الصراع بين “اليهود الشرقيين” و”الأشكناز”، وبين المتدينين والعلمانيين، لم يعد مجرد تباينٍ اجتماعي، بل أصبح صراعًا على هوية الدولة وطبيعة نظامها السياسي. اليمين المتطرف الذي يحكم اليوم، بقيادة تحالفات دينية قومية، دفع بالمجتمع إلى حافة الهاوية، وجعل من الدولة مختبرًا لصدام الهويات لا لتعايشها.
ومن المفارقات أن هذا التفكك جاء في ذروة القوة العسكرية والاقتصادية، لكنه كشف أن القوة بلا مشروعٍ روحي أو أخلاقي تؤول إلى فراغ. فحين تُقصف تل أبيب والمدن الكبرى بالصواريخ، ويهرع المواطنون إلى الملاجئ، لا يعود خطاب “الردع” سوى خدعةٍ نفسية تبرر الخوف بالعنف.
لقد أدرك كثيرٌ من المفكرين الإسرائيليين أن دولتهم بدأت تفقد معناها، وأن "الحلم الصهيوني" لم يعد يجمع الأجيال الجديدة التي نشأت على الشك لا على الإيمان، وعلى الخلاص الفردي لا الجماعي. فالآباء الذين أسّسوا الدولة بدافع النجاة، أنجبوا أبناءً يبحثون عن النجاة منها. تتزايد الهجرة، وتتهاوى الثقة بالجيش وبالقيادة، حتى غدا السؤال المطروح داخل المجتمع: "من نحارب؟ ولماذا؟".
المؤسسة العسكرية التي كانت عماد المشروع الصهيوني فقدت صورتها كـ"الدرع المقدس"، وتحولت إلى أداةٍ مرتبكةٍ تخوض حربًا بلا هدفٍ واضح. وتزداد الهوة اتساعًا بين القيادة السياسية الغارقة في الفساد وبين النخبة الأمنية التي باتت تشكّ في جدوى استمرار الصراع.
إنها نهاية العقد الصهيوني الذي قام على ثلاث دعائم: الأمن، الهوية، والدعم الغربي غير المشروط. ومع انكسار كل ركنٍ منها، لم يعد الكيان يملك سوى لغة الخوف ليدير وجوده، والخوف حين يصبح هويةً، يتحول إلى لعنةٍ تُسقط صاحبها.

من القوة إلى الفزع: تحوّل الوعي داخل الكيان

في العقود الماضية، استطاعت إسرائيل أن تُسوّق نفسها كقوةٍ لا تُقهر، وكدولةٍ تملك زمام المبادرة في كل الحروب. غير أن ما جرى خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في حرب غزة، قلب هذه المعادلة رأسًا على عقب.
فمنذ عملية السابع من أكتوبر، دخل المجتمع الإسرائيلي مرحلة صدمةٍ وجوديةٍ غير مسبوقة، إذ اكتشف أن كل التحصينات الأمنية يمكن أن تنهار في ساعات، وأن كل التكنولوجيا المتقدمة لا تستطيع أن تمنع هزيمةً معنوية حين تفقد الدولة قدرتها على الرد بثقة.
تحوّل المجتمع الذي كان يعيش على أسطورة الردع إلى جماعةٍ متوترةٍ تقتات على الخوف. أصبح الهروب من البلاد خيارًا عقلانيًا، وامتلأت السفارات بطلبات الهجرة. الجنود ينهارون أمام الكاميرات، والقيادات السياسية تتقاذف الاتهامات، والشارع يغلي من الغضب والإنهاك.
إننا نشهد تحوّلًا عميقًا في الوعي الإسرائيلي: من الإحساس بالسيطرة إلى الإحساس بالمطاردة، ومن الثقة بالمستقبل إلى الحنين إلى الماضي. هذه الحالة النفسية تسبق عادةً الانهيار السياسي في أي مشروعٍ استعماري، لأنها تُفقده المعنى الداخلي الذي يبرر العنف الخارجي.
لم تعد إسرائيل تواجه خطر الهزيمة العسكرية فحسب، بل خطر التفكك النفسي والاجتماعي، وهو الأخطر، لأنه ينخر الجسد من الداخل. إن ما يحكم هذا الكيان اليوم ليس الإيمان بالمستقبل، بل الرعب من نهايته القريبة، وكل دولةٍ يحكمها الخوف، تفقد قدرتها على الاستمرار مهما بلغت قوتها.

الواقع العربي الجديد والتحوّل الدولي: من وعي المقاومة إلى إعادة التوازن

على الجانب الآخر، يشهد الواقع العربي تحولاتٍ عميقة تُعيد رسم خريطة الوعي والموقف. فالمقاومة، التي كانت تُحاصر في جغرافيا ضيقة، أصبحت رمزًا عابرًا للحدود، وأيقونةً عربيةً جامعة تُلهم الشعوب أكثر مما تقلق الأنظمة.
لقد تحوّلت غزة من “قضية فلسطينية” إلى “مرآةٍ عربيةٍ كبرى” يرى فيها العرب أنفسهم: صمودًا وإصرارًا وإيمانًا بعدالة القضية. ومع كل جولة عدوانٍ تفشل في كسر إرادة المقاومة، يزداد الشعور الجمعي بأن الأمة لم تمت، وأن الوعي الذي أرادوا طمسه تحت ركام التطبيع يعود أكثر حيوية.
وحتى على الصعيد الدولي، بدأت ملامح التحول تظهر بوضوح: فقد تراجع الخطاب الغربي الموحّد في دعمه لإسرائيل، وبدأت أصوات داخل أوروبا وأمريكا تطالب بمساءلة الاحتلال عن جرائمه. الجامعات تشهد انتفاضات طلابية، وحركات المقاطعة تتسع، والمجتمعات الغربية نفسها بدأت ترى في المشروع الصهيوني عبئًا أخلاقيًا لا يمكن الدفاع عنه.
إن تصدّع المشروع الصهيوني من الداخل يُعيد إلى الواجهة سؤال التاريخ والعدالة، ويجعل من استعادة التوازن بين القوة والمعنى شرطًا لبناء مستقبلٍ عربي مختلف. فالمعركة لم تعد فقط عسكرية أو دبلوماسية، بل هي معركة وعي، تُخاض بالكلمة بقدر ما تُخاض بالبندقية.

سقوط الأسطورة وولادة الوعي

حين تسقط الأسطورة، لا تسقط معها الجغرافيا فحسب، بل تنهار معها اللغة التي خدعت العالم طويلاً. إسرائيل التي وُلدت على وعد الخلاص، انتهت إلى مأزقٍ وجودي لا خلاص منه، لأنها فقدت بوصلتها الأخلاقية وفقدت معناها التاريخي.
كل مشروعٍ استعماري يعيش طالما يملك قدرة على إقناع ضحاياه بضعفهم. وحين ينهض الوعي من تحت الركام، تتهاوى الإمبراطوريات كما تتهاوى الأساطير.
المنطقة العربية تدخل اليوم مرحلة جديدة من الوعي والتاريخ، حيث يتقاطع الانهيار الصهيوني مع عودة الوعي العربي إلى مركز الفعل. هذا الوعي لا يطلب انتقامًا، بل استعادةً للمعنى، وتحريرًا للإنسان من ثقافة الخوف والانهزام.
قد يحاول الكيان أن يؤجل سقوطه بمزيدٍ من القتل والدعاية، لكن التاريخ لا يُخدع طويلاً. فحين يتفكك الداخل، وحين تتكشّف الأكاذيب، لا تبقى سوى الحقيقة عاريةً وصارخة: أن الأسطورة انتهت، وأن الأرض عادت إلى من آمن بها، لا إلى من احتلّها باسم الله.
ذلك هو الدرس الأخير في هذا الفصل الطويل من التاريخ: لا تنتصر القوة على الوعي، ولا تستمر دولةٌ بلا معنى. وما نراه اليوم ليس نهاية مرحلةٍ فحسب، بل بداية زمنٍ عربي جديد يتشكل من تحت الرماد، بثقةٍ بطيئة ولكن راسخة، تُعيد للشرق معناه وللعالم توازنه المفقود.

- كانب صحفي و باحث في قضايا التنمية و المواطنة و النزاعات الإقليمية و الدولية و آخر تطورات الصراع العربي - الصهيوني.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صناعة القوًة في الظلً : حين يعيد التاريخ دروسه بين المقاومة ...
- مواطنون لا رعايا : من أجل جمهورية ديمقراطية إختماعية تونسية ...
- محور المقاومة العربية : استراتيجيات الصمود و مسارات التاثير ...
- غزة و التحولات الإقليمية..حدود القوة و إمكانات التغيير
- الأمة العربية بين الوعي و المقاومة : صراع التاريخ و الخيارات ...
- شهادة نعتزً بها و تدفعنا إلى الأمام...
- الحبكة المقدسة : الدين في السينما الغربية
- السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الج ...
- انيسة عبود ..بين النعنع البرًي و صدى الروح الأدبية
- الذكرى الثانية لطوفان الأقصى : سقوط الأسطورة الصهيونية و صعو ...
- هاني بعل الكنعاني لصبحي فحماوي بين التاريخ و الأسطورة و الهو ...
- الجمهورية الممكنة..من الرعوية إلى المواطنة
- من يقاوم الهزيمة لا يخشى النهايات
- غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان
- رشاد أبو شاور ..روائي المقاومة و ذاكرة فلسطين
- رفح.. العملية النوعية التي كسرت وهم المنطقة الآمنة
- عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي
- زياد جيوسي...مسيرة فكربة و نقدية لافتة
- محمد داني: بين السرد و النقد.. رحلة الوعي و الإبداع
- حنظلة لا يموت : ناجي العلي و الثقافة المقاومة


المزيد.....




- مكتب نتنياهو يعلن موعد لقائه ترامب.. و-قوة غزة- في صدارة منا ...
- بين دعوة إلى تقديره وترقّب لـ-درس العمر-، كيف رأى مغردون أزم ...
- رشيد حموني يسائل وزير الفلاحة حول الاختلالات التي تشوب الربط ...
- عام على الإطاحة بالأسد.. مدينة حمص، شاهدة على جراح الماضي وم ...
- -النادي خذلني-... ليفربول يستبعد صلاح من مواجهة إنتر ميلان ب ...
- السودان يتحسّب لتطورات عسكرية في حدوده مع إثيوبيا
- كاتب بهآرتس: إعلام إسرائيل يستخف بالفلسطينيين ويكرس الأبارتا ...
- الشرع: وضعنا رؤية لسوريا قوية وملتزمون بالعدالة الانتقالية
- تفاصيل مقتل ممثل مصري على يد زوج مطلقته
- في بيئة منهارة.. الأمراض تفتك بأجساد السوريين


المزيد.....

- قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة / معتصم حمادة
- مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني / غازي الصوراني
- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي ... / غازي الصوراني
- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - البشير عبيد - إنهيار الأسطورة: المشروع الصهيوني بين تفكك الداخل و إستعصاء الواقع العربي