أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الجريء















المزيد.....

السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الجريء


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 16:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


السياسة واللحظة الحاسمة: بين الإدراك التاريخي والقرار الجريء

البشير عبيد - تونس

في عالم السياسة، لا تكفي الرؤية أو المعرفة أو حتى الخبرة وحدها. اللحظة الحاسمة، تلك اللحظة التي يلتقي فيها الوعي بالحدث، هي التي تصنع الفرق بين السياسي الناجح والفاشل، بين الأمة التي تتقدم وأخرى تتخبط في أزماتها. لا يختلف اثنان في مشروعية التقاط هذه اللحظة، خصوصًا في زمن الأزمات، الذي يستدعي رؤية استشرافية لإدارتها، مع التحلي بروح المسؤولية وهدوء الأعصاب والابتعاد عن الانزلاق في المهاترات والمنازعات العقيمة.
للأسف، هذه الخصال النادرة، تكاد تغيب عن الفاعلين في المشهد السياسي التونسي والعربي اليوم، في لحظة تاريخية فارقة اشتدت فيها الأزمات بكل تعبيراتها: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، وثقافية، لتضع الشعوب أمام امتحان وجودي حقيقي. الشعوب الطامحة للحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية لم تعد تنتظر الخطابات الحماسية أو الشعارات الرنانة، بل تنتظر اليوم قبل الغد قرارات تاريخية موجعة، تمس حياتها اليومية، وتقيم العدالة الاجتماعية، وتعيد الثقة بين الحاكم والمحكوم.
إن فهم اللحظة الحاسمة، واستغلالها، ليس مسألة وقت فحسب، بل هو اختبار للرؤية السياسية والقدرة على قراءة ما وراء الأحداث، لرؤية ما لا يراه الآخرون، وللتصرف بحكمة حين يبدو الطريق مسدودًا أو مليئًا بالمخاطر. التاريخ لا ينتظر، والفرص لا تدوم إلى الأبد؛ كل لحظة تفوتها القيادة السياسية تتحول إلى عبء ثقيل يثقل كاهلها، وتدفع البلاد ثمنه لاحقًا.

إدراك اللحظة: بين التأخر والاستباق

السياسة ليست مجرد إدارة يومية للأزمات، بل فن إدراك اللحظة المناسبة لتحويل الأزمة إلى فرصة تاريخية. الفارق بين السياسي الناجح والفاشل لا يكمن في الكلام أو المظاهر، بل في القدرة على الاستباق والتصرف بحكمة في اللحظة الحاسمة، قبل أن يتحول الوقت إلى عائق لا يمكن تجاوزه.
على المستوى العربي، كثيرًا ما شهدنا قادة غرقوا في المماحكات الداخلية، أو توقفوا عند شعارات سطحية، بينما كانت الشعوب تتنفس الصعداء على أمل خطوات عملية ملموسة تغيّر حياتها اليومية. الإدراك الحقيقي للّحظة الحاسمة يعني أن تكون قادرًا على التمييز بين ما هو ملح وما يمكن تأجيله، وأن تكون على استعداد لتحمل كلفة القرار قبل أن يتحول التأخير إلى كارثة.
التاريخ معبّر: فشل قادة مثل بعض حكام الثورات العربية أو الأنظمة التي ترددت في اتخاذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية أدى إلى فقدان السيطرة على المشهد، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية، وانهيار مؤسسات الدولة. في المقابل، نجد قادة مثل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، أو جمال عبد الناصر في مصر، استثمروا اللحظة الحاسمة بجرأة، فحوّلوا الأزمات إلى فرص تاريخية أعادت بلدانهم إلى مسار الاستقرار والتقدم، وأسست لرؤية وطنية واضحة استمرت لعقود.
في الوطن العربي،و أغلب الشعوب الطامحة للنهوض و التحرر الوطني ٫ تبحث عن القيادة الجريئة، والقرارات الصارمة، والإجراءات التي تعيد الاستقرار إلى الاقتصاد والمجتمع، لكن الفاعلين السياسيين يتأخرون، فيفوت الوقت وتزداد التعقيدات، ويصبح الحل أكثر صعوبة. السياسي الذكي هو من يفهم أن التوقيت ليس فقط مسألة فرصة، بل أداة قوة استراتيجية يمكنها تغيير مسار التاريخ نفسه.

القرار السياسي الموجع: أداة التغيير

السياسة الحقيقية لا تنتظر أن تعترف بها الشعوب؛ بل تصنعها من خلال قرارات موجعة في جوهرها، لكنها ضرورية لقطع الطريق على الانحراف أو الفوضى. القرار التاريخي غالبًا ما يكون غير شعبي على المدى القصير، لكنه يضع الأسس لمستقبل مستقر وأكثر عدالة.
الأمثلة على ذلك كثيرة. الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة، مثل رفع الأسعار أو فرض ضرائب جديدة أو تقليص النفقات، هي قرارات صعبة، لكنها في أحيان كثيرة كانت شرطًا لإعادة التوازن المالي للدولة. والإصلاحات الهيكلية في التعليم أو الصحة أو القضاء، رغم مقاومتها من بعض الأطراف، هي في جوهرها قرارات تحمي الدولة والمجتمع على المدى الطويل.
القادة الذين يتهربون من اتخاذ القرار يختارون طريق المهادنة والمراوغة، ويظنون أن استمرار الوضع على ما هو عليه يخفف الضغط، بينما الواقع يخبرنا أن التأجيل يضاعف الأزمة ويزيد الفجوة بين الشعب والسلطة. السياسي الناجح هو الذي يملك الشجاعة لإصدار القرار، وهو على يقين بأن المسؤولية التاريخية تحتم عليه تجاوز الضغوط قصيرة المدى.
في السياق العربي، الأمثلة كثيرة: من تأخر بعض الحكام في مواجهة الفساد والإفلات من العقاب، أو في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، أدى ذلك إلى انفجار الاحتجاجات الشعبية، وفقدان الثقة في المؤسسات. بينما القادة الذين تحلوا بالجرأة، وبادروا في اللحظة المناسبة، استطاعوا تحويل المشهد بالكامل لصالح بلادهم، وتركوا إرثًا سياسيًا مشرفًا.

انسجام القرار مع حركة التاريخ

النجاح السياسي لا يقتصر على القرار وحده، بل يشمل انسجام هذا القرار مع حركة التاريخ، أو بالأحرى، مع التوجهات الكبرى للمجتمع. السياسي الذكي يدرك أن لحظة اتخاذ القرار الحاسم ليست مجرد توقيت، بل فن تحقيق الانسجام بين الإرادة الفردية ومسار التاريخ.
في عالم اليوم المعقد، حيث تتداخل الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع الضغوط الإقليمية والدولية، يصبح انسجام القرار مع الواقع التاريخي والمعطيات الموضوعية أمرًا لا غنى عنه. القائد الذي يتجاهل هذا الانسجام يختار المواجهة مع المستقبل، ويخسر كثيرًا من شرعية قراره، بينما من يراعي هذا الانسجام يصبح قراره أقوى وأكثر استدامة، لأنه يعكس فهمًا عميقًا لتاريخ وطنه ومجتمعه.
هذا الانسجام يشمل أيضًا التوقيت: متى تُعلن الإصلاحات، وكيف تُنفذ، وبأي تسلسل زمني؟ ومتى يكون الوقت مناسبًا لإشراك الرأي العام، ومتى يكون قرارًا حاسمًا يتطلب التنفيذ المباشر؟ إدراك هذه التفاصيل الدقيقة يعكس درجة نضج السياسي واستعداده لتحمل المسؤولية كاملة.
تاريخيًا، القادة الذين لم يوازنوا بين متطلبات اللحظة وحركة المجتمع واجهوا فشلًا ذريعا: من فرنسا في سنوات ما قبل الثورة، إلى العراق في العقود الأخيرة، حيث تراكمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأدى التأخير في اتخاذ القرارات المصيرية إلى كوارث وطنية وإنسانية.

المسؤولية التاريخية: بين الفرد والجماعة

في نهاية المطاف، اللحظة الحاسمة في السياسة ليست فقط اختبارًا للقدرة على اتخاذ القرار، بل اختبارًا للأخلاق والضمير. السياسي الناجح هو من يتصرف بروح المسؤولية، مدركًا أن كل تأجيل أو تخاذل سيترك أثرًا عميقًا على حياة الأجيال القادمة.
الشعوب لا تنسى، والتاريخ لا يرحم. الأفعال السياسية، سواء كانت شجاعة أو مترددة، ستظل شاهدة على مدى قدرة القائد على مجابهة الواقع وتحويل التحديات إلى فرص، أو العجز أمام اللحظة الحرجة وتحويل الفرص إلى مخاطر. السياسي الذي يمتلك رؤية واضحة، ويستجيب بحكمة، يكون قد حمل على عاتقه مسؤولية تاريخية، ووضع نفسه في قلب اللحظة، لا على هامشها.
السياسة ليست فن المناورات والخطب الرنانة فحسب، بل هي التزام أخلاقي تجاه الشعب والتاريخ معًا، وهي التزام بالوعي العميق بالمستقبل، وبالقدرة على توجيه المسار الوطني نحو الاستقرار والتقدم والعدالة. ومن يفتقد هذا الوعي سيظل رهين التأجيل والخطابات الفارغة، عاجزًا عن تحقيق أي تغيير ملموس.
في عالمنا اليوم، الذي يشهد تغيرات سريعة وتحولات عميقة، يصبح السياسي الناجح هو من يقرأ الأحداث قبل وقوعها، ويتخذ القرار الحاسم قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة، ويستثمر اللحظة ليصنع التغيير الذي تنتظره الأجيال. هذه هي الرسالة الكبرى: أن السياسة ليست مجرد ممارسة يومية، بل هي التزام أخلاقي واستراتيجي، ومباراة مع الزمن، وفرصة لصناعة التاريخ.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انيسة عبود ..بين النعنع البرًي و صدى الروح الأدبية
- الذكرى الثانية لطوفان الأقصى : سقوط الأسطورة الصهيونية و صعو ...
- هاني بعل الكنعاني لصبحي فحماوي بين التاريخ و الأسطورة و الهو ...
- الجمهورية الممكنة..من الرعوية إلى المواطنة
- من يقاوم الهزيمة لا يخشى النهايات
- غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان
- رشاد أبو شاور ..روائي المقاومة و ذاكرة فلسطين
- رفح.. العملية النوعية التي كسرت وهم المنطقة الآمنة
- عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي
- زياد جيوسي...مسيرة فكربة و نقدية لافتة
- محمد داني: بين السرد و النقد.. رحلة الوعي و الإبداع
- حنظلة لا يموت : ناجي العلي و الثقافة المقاومة
- نصر الدين العسالي : حين تتجلًى اللوحة في مواجهة قسوة الواقع
- علوية القانون و سيادة القرار : رهانات الدولة الحديثة
- صنع الله ابراهيم : الروائي الذي كتب الحرية بمداد الحقيقة
- حين تنطق الأرض : غزة تردً بالعقل و الدهاء
- ثورة 23 يوليو..الحلم القومي في مفترق التاريخ
- تونس الراهنة : اختبار الوعي السياسي و إرادة التغيير
- في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر
- حذاء نورو للروائي التونسي محمد دمّق..حين يتحوًل الجسد إلى شظ ...


المزيد.....




- -حياة جديدة في داخلي-.. دانييلا رحمة تحتفل بعيد ميلادها
- وحدة طبية متخصصة وهدايا من نتنياهو.. كيف ستبدأ إسرائيل إعادة ...
- زيارة أمريكية وتصريحات مثيرة للجدل.. إندونيسيا وماليزيا على ...
- قافلة مساعدات أممية تتعرض لهجوم في خيرسون وأوكرانيا تتحدث عن ...
- مدغشقر: وحدة النخبة في الجيش تعلن توليها السلطة بعد عزل -الج ...
- لوكورنو يعلن في خطابه أمام الجمعية الوطنية الفرنسية تعليق إص ...
- ما أهم ما جاء في خطاب لوكورنو أمام الجمعية الوطنية الفرنسية؟ ...
- النزوح والعودة: شمال غزة بلا حياة تقريبا.. دمار هائل ولا مكا ...
- القضاء الإيراني يصدر حكما بسجن فرنسيين اثنين بتهمة التجسس
- شاهد.. ذيل طائرة يرتطم بالمدرج أثناء الهبوط والطيار ينقذ الم ...


المزيد.....

- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - البشير عبيد - السياسة و اللحظة الحاسمة : بين الإدراك التاريخي و القرار الجريء