البشير عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 14:01
المحور:
الادب والفن
نصر الدين العسالي: حين تتجلّى الروح في مواجهة قسوة الواقع
البشير عبيد - تونس
تمرّ اليوم الذكرى الثانية لرحيل الفنان التشكيلي التونسي الكبير نصر الدين العسالي، ذلك المبدع الذي ترك بصمته الخاصة في مسار الفن التشكيلي التونسي والعربي، ورحل تاركًا وراءه فراغًا صعبًا في ذاكرة أصدقائه ومحبيه وكل من تعرّف إلى عوالمه التشكيلية المضيئة. منذ رحيله في مثل هذا اليوم، بدا المشهد الفني التونسي وكأنه فقد أحد صوته المميّزة؛ صوتًا لم يكن يتعالى بالخطابة ولا بالصخب، بل كان يتجلى في هدوء اللوحة وعمق الألوان ورمزية التكوين. لقد عاش العسالي صادقًا مع فنه، مؤمنًا أن اللوحة ليست مجرد مساحة جمالية، بل فعل مقاومة للرداءة ونافذة مشرعة على الحلم والروح. في هذه المناسبة الأليمة، نستعيد حضوره الإنساني والفني، لا من باب الرثاء فقط، بل من باب الوفاء لما مثّله من قيمة أصيلة، وما تركه من إرث تشكيلي يظل مفتوحًا على قراءات جديدة.
الروح التي ترسم
كان نصر الدين العسالي قبل أن يكون رسامًا موهوبًا، إنسانًا حقيقيًا يعيش الفن بكل أبعاده، حاملاً روحًا صافية متعطشة للجمال والبحث عن المعنى في أبسط تفاصيل الحياة اليومية. فلوحاته ليست مجرد ألوان على قماش، بل امتداد مباشر لروحه، انعكاس لإحساسه العميق بالعالم من حوله، وبالأحلام والخيبات الإنسانية التي تصنع واقعنا. لحظة الوقوف أمام إحدى لوحاته، سواء في معرضه برواق علي القرماسي أو في أي فضاء آخر احتضن أعماله، يشعر المتلقي وكأنه يدخل إلى فضاء حي، تتحرك فيه الكائنات، وتنبض الألوان كما لو كانت جزءًا من نبضه الخاص.
لم يدرس العسالي الفنون التشكيلية في معاهد عليا، ومع ذلك استطاع أن يطوّر أسلوبه الخاص، ويحقق توازنًا بين التقنية العالية والإبداع الحر. هذه القدرة على المزج بين الصنعة والخيال جعلت أعماله تتجاوز حدود الرسم التقليدي، لتصبح مساحة للتأمل العميق والحلم، كما لو كان الرسام يحاور المتلقي مباشرة، دون الحاجة إلى كلمات أو شروح مطولة. كان يصرّ على أن اللوحة ليست مجرد صورة، بل حوار صامت مع الروح الإنسانية، حوار يتوقف عنده المتلقي ويعيد التفكير في ذاته وفي العالم من حوله.
وقد لاحظ متابعو أعماله أن العسالي كان يبحث دائمًا عن اللحظة التي تتلاقى فيها التقنية مع الإحساس، حيث تصبح اللوحة متكاملة، لا تختزل الواقع في ما هو ظاهر فقط، بل تتجاوز ذلك لتكشف عن أعماق النفس البشرية. من هنا، يمكن القول إن تجربته الفنية قائمة على دمج العاطفة بالمهارة، والخيال بالواقع، مما جعل كل لوحة تحفة فريدة تستدعي الانتباه والتأمل
.
بين القصيدة واللوحة
لوحات نصر الدين العسالي تحمل في طياتها حسًا شعريًا رقيقًا، وكأن كل لون وكل خط ينطق بمعنى لا يمكن اختزاله بالكلمات. كان العسالي عاشقًا للشعر، وكان ينهل من عالمه الرمزي والخيالي على نحو يجعل اللوحة تشبه القصيدة في أسلوبها وترميزها، دون أن يفرض على المتلقي تفسيرًا جاهزًا أو مغلقًا. هذا الانفتاح على التأويل منح أعماله عمقًا وحرية، فكل مشاهد يمكنه أن يرى في اللوحة ما يتوافق مع تجربته الإنسانية وثقافته الداخلية، كما يفعل القارئ مع نص شعري متقن.
تتجلى هذه العلاقة بوضوح في لوحاته التي تناولت موضوعات مثل فلسطين أو المهاجرون، حيث الرمزية تتصدر المشهد، فتجد في اللوحة أكثر من معنى وأكثر من إحساس، يتجاوز العنوان الظاهر. كان العسالي يدرك أن قوة الفن لا تكمن فقط في جمالياته، بل في قدرته على إحداث صدى داخلي لدى من يراه، تمامًا كما يفعل الشعر في قلب المتلقي. لقد نجح العسالي في المزج بين التجربة الإنسانية المعاشة والخيال الرمزي، ليخلق مساحة فنية حية تتفاعل مع المتلقي وتتجاوب مع عاطفته وإدراكه.
كان لهذا التزاوج بين اللوحة والشعر أثر كبير على اللغة البصرية التي طورها، حيث نجد الرموز والألوان والخطوط تعمل معًا لتشكل لغة فنية خاصة، لغة تحمل انطباعات داخلية وتدعونا إلى التأمل، وتفتح لنا أبواب الحلم والدهشة، بعيدًا عن التفسير الأحادي أو المباشر. بهذا المعنى، يصبح العسالي شاعرًا بالفرشاة، يكتب اللوحة كما يكتب الشاعر أبياته، ويترك للآخر حرية اكتشاف المعنى والتأمل في أبعاده المتعددة.
الفن في مواجهة الرداءة
تميزت لوحات نصر الدين العسالي بقدرتها على أن تكون نافذة صريحة على الواقع، مع الحفاظ على الجمال والخيال في الوقت ذاته. كانت أعماله ليست مجرد زخرفة للفراغ، بل فعل مواجهة مع الرداءة والانكسارات التي يعيشها الإنسان في حياته اليومية والمجتمع من حوله. من خلال ألوانه وخطوطه وتوزيع الضوء والظل، استطاع العسالي أن يخلق مساحة تتحدى الجمود والرتابة، وتدعو المتلقي إلى إعادة النظر في الأشياء من حوله، في الواقع وفي ذاته.
كل لوحة له، سواء تناولت مشهدًا حضريًا، أو تصويرًا رمزيًا للمعاناة الإنسانية، أو رحلة في عالم الطبيعة والروح، كانت تعكس التوتر بين الجمال والواقع، بين الحلم والواقع المادي. في لوحاته، لا يختزل الفن في الجمالية البصرية فقط، بل يصبح وسيلة للتعبير عن مقاومة صامتة للفساد والجمود والظلم، وهو بذلك يجعل اللوحة فعلاً إنسانيًا قبل أن تكون مجرد مساحة بصرية.
الأعمال التي تناولت موضوعات مثل المهاجرين أو فلسطين أو التجربة الإنسانية اليومية، تكشف عن وعي الفنان العميق بتفاصيل العالم من حوله. لم تكن الرسائل صريحة، لكنها واضحة بما يكفي لتجعل المتلقي يتوقف أمام اللوحة، يستحضر المشهد، ويعيد التفكير في الواقع الذي يعيش فيه. بهذا، يصبح الفن لدى العسالي أداة للحوار الداخلي مع الذات والمجتمع، وميدانًا للتأمل في مختلف أبعاد الحياة.
الإرث المفتوح على الأفق
رغم رحيله قبل عامين، يبقى نصر الدين العسالي حاضرًا في ذاكرة الفن التشكيلي التونسي والعربي، ليس فقط من خلال لوحاته، بل من خلال الروح التي زرعها في المشهد الفني، والقيم الجمالية والإنسانية التي مثلها. إرثه مفتوح على الأفق، لأنه لا يقتصر على زمن أو مكان، بل يتجاوز الحدود ليصبح جزءًا من تجربة فنية عالمية، قادرة على أن تلهم أجيالًا جديدة من الفنانين والمتلقين على حد سواء.
إن اللوحة عند العسالي ليست مجرد إنتاج بصري، بل تجربة حية تثير التأمل والحوار، تجعل المتلقي يشارك في عملية الإبداع، ويكتشف ذاته من جديد مع كل نظرة. بهذه الطريقة، يصبح إرثه ليس محفوظًا في متاحف أو معارض فحسب، بل حيًا في التجربة الإنسانية، وفي قدرة الفن على التأثير والتحفيز والتفكير النقدي.
كما أن ذكرى رحيله تحثنا على الاعتراف بالمجهودات التي قام بها في تعزيز المشهد الفني في تونس، ودوره في تنمية الوعي الجمالي، ودعم الفضاءات التي تحتضن الفنون التشكيلية، من رواق علي القرماسي إلى بقية المعارض التي احتفت بأعماله. هذه المساهمات تعكس مدى تعلقه بالفن وحرصه على أن يكون حاضنًا للتجربة الفنية التونسية، وأن يفتح أمامها آفاقًا جديدة من الانفتاح والإبداع.
اليوم، ونحن نستعيد ذكراه في هذه المناسبة، نكتشف أن نصر الدين العسالي ترك بصمة لا تُمحى، وأن فنه يستمر في أن يكون منارة للخيال والتأمل، ومرآة صادقة تعكس جمال العالم من حولنا، وتحثنا على البحث عن المعنى والجمال في كل تفاصيل حياتنا. وهكذا، تبقى لوحات العسالي حية، تتحدث إلينا، وتدعونا إلى الحلم والتأمل، وتؤكد أن الفنان الحقيقي لا يموت، بل يعيش من خلال ما تركه من أعمال وإرث فني خالد.
#البشير_عبيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟