أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - البشير عبيد - في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر















المزيد.....

في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8398 - 2025 / 7 / 9 - 15:00
المحور: الادب والفن
    


ما الذي يجعل اسمًا كغسان كنفاني، بعد 52 عامًا على استشهاده، لا يزال يحضر في الذاكرة العربية كأنّه من رجالات اليوم؟ وما الذي يمنح كلماته ذلك التوهّج الذي لا يخبو، رغم تغيُّر الزمن وتحوّل الأرض وتبدّل وجوه القتلة؟ لعلّه لأن غسان لم يكتب مجرّد أدب، بل وضع روحه في الكلمات، وسار بين الجمر واليقين حاملًا قضيّته كمن يحمل الجبال. اغتاله الموساد الإسرائيلي يوم 8 يوليو 1972، لكنّه ما زال حيًّا بيننا، لا لأننا نتذكّره، بل لأننا لم نغادره بعد.

غسان كنفاني: المثقّف العضوي في زمن الغبار

ليس من اليسير اختزال غسان كنفاني في تعريفٍ واحد، فقد كان أكثر من مجرّد كاتب أو سياسي. لقد كان صوتًا فلسطينيًّا أصيلاً تحوّل إلى أيقونة ثقافية ومشروع نضالي متكامل. في أعمار الآخرين، كان غسان شابًا، لكنه في أعمار الوطن، كان جيلًا كاملاً من الحلم والمقاومة. وُلِد في عكا عام 1936، وتشرّد مع عائلته إلى دمشق بعد نكبة 1948، ليبدأ هناك مسارًا طويلًا من الوعي والتكوين الفكري.
لم يتلقَّ تعليمًا أكاديميًّا تقليديًّا، لكنه كوّن نفسه بنفسه، فقرأ النثر العالمي، وتعلّم اللغات، واشتغل بالتدريس والصحافة والترجمة، وكتب في السياسة والثقافة والفكر. كانت فلسطين تسكنه ليس كقضية بعيدة بل كجرح حيّ. لم يكتب الرواية ليبدع، بل ليقاوم. لم ينشئ مجلة "الهدف" ليعبّر، بل ليحرّض. لم يكن عنده وقت للترف، فكل حرف كان طلقة، وكل فكرة كانت خندقًا.
ومنذ انضمامه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين سنة 1967، صار غسان أحد أهم وجوه اليسار الفلسطيني، وأحد أبرز العقول التي مزجت بين الفكر الثوري والتحليل السياسي العميق. لكنه رفض أن يُختزل في السياسة وحدها، لأنه كان يرى في الأدب ساحة معركة لا تقل خطورة عن ساحة السلاح.
في إحدى رسائله إلى غادة السمان، كتب: "إنني أؤمن بأن كل كلمة تُكتب... يجب أن يكون لها صوت، لا أن تكون مجرّد نقشٍ على ورق". وهذا ما فعله تمامًا: جعل من الكتابة صوتًا مرتفعًا في زمن الصمت، وجعل من الأدب منصة مواجهة ضد الاحتلال، وضد التخلي، وضد خيانات المرحلة العربية.

الأدب كمقاومة: جدران الخزان التي لا تُطرق عبثًا

لا يمكن الحديث عن غسان كنفاني دون التوقّف عند نتاجه الأدبي الذي يعدّ من الأجمل والأكثر تأثيرًا في الأدب العربي الحديث. لقد كانت رواياته وقصصه القصيرة انعكاسًا حيًّا لمعاناة الفلسطيني في المنفى، والتباس الهوية، وتشظّي الحلم الوطني.
روايته الأشهر "رجال في الشمس" (1963) شكّلت مفترق طريق في الأدب الفلسطيني، ليس فقط لأنها قدّمت الحكاية من منظور وجودي إنساني، بل لأنها فجّرت سؤالًا جوهريًا حول صمت الفلسطينيين، وحول ثمن الصمت في وجه الخيانة والموت. في نهاية الرواية، حين يُترك الرجال الثلاثة يموتون اختناقًا داخل صهريج شاحنة في الصحراء، يسأل السائق بصوت يجلجل: "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟". كان السؤال نداءً أخلاقيًّا، وجوديًّا، ثوريًّا، موجّهًا لكل شعب قَبِلَ بالعبور إلى المجهول دون مقاومة.
أما "عائد إلى حيفا" (1970)، فقد ذهب بها كنفاني إلى أقصى حدود النقد الذاتي. حين يعود الأبوان الفلسطينيان إلى بيتهما في حيفا بعد النكسة ليجدا ابنهما المفقود وقد تبنّته عائلة صهيونية وصار جنديًا في جيش الاحتلال، تنقلب الرواية إلى مرآةٍ جارحة لمأساة النكبة، ولثمن الغياب، وللعلاقة المعقّدة بين الفرد والذاكرة. لم يكن غسان يعظ، بل يضع القارئ في مواجهة أسئلة حادة حول المسؤولية، والحق، والانتماء.
لقد مزج غسان بين السرد السياسي والعمق النفسي، وخلق نماذج إنسانية قادرة على التعبير عن وطن مهشّم دون الوقوع في المباشرة أو الشعارات. إن القوة الأدبية في نصوصه لا تأتي من كثرة التفاصيل بل من توتر الصمت فيها، من الغضب المكبوت، ومن الحضور الطاغي للفقد والتشرد والمنفى.
ومن اللافت أن أعماله تُقرأ اليوم كأنها كُتبت بالأمس، إذ لم تتغيّر ملامح المأساة الفلسطينية، بل تفاقمت، بل صارت أكثر قسوة وبشاعة في ظل حرب الإبادة الجارية في غزة، وحصار الكلمة، وتكالب الأنظمة الرسمية على الحق الفلسطيني نفسه. ولعلّ هذا ما يجعل من غسان كنفاني كاتبًا للحاضر، لا للماضي.

الاغتيال كعنوان للعجز: حين يخاف القاتل من الفكرة

في صباح يوم السبت 8 تموز/يوليو 1972، انفجرت عبوة ناسفة زُرعت في سيارة غسان كنفاني في منطقة الحازمية شرق بيروت. لم يكن وحده، فقد كانت معه ابنة أخته الطفلة "لميس"، التي استُشهدت معه. لم يكن يحمل سلاحًا، لم يكن في موكب، لم يكن يخطط لعملية فدائية، بل كان يحمل قلمًا، وكلمات، وأوراقًا، وموعدًا مع مقالة جديدة.
اغتاله الموساد لأنه أدرك أنّ غسان أكثر من مجرّد "قيادي يساري"، بل هو عقل استراتيجي ثقافي، ورمز ملهم لكل المناضلين، خصوصًا في الجيل الجديد آنذاك. كان موته رسالة ترهيب للمثقفين، ورسالة خوف من الكتابة. وكأن العدو قال: الكلمة قد تقتل، فاقتلوها قبل أن تُقال.
لكن النتيجة كانت عكسية. لم تضعف كلماته، بل ازدادت حضورًا. لم تتراجع الفكرة، بل توحّدت حولها أجيال. لم تنطفئ جذوة الإبداع المقاوم، بل صارت أكثر انتشارًا. صار اسم غسان يُذكر كلّما انتصر الفلسطيني لألمه، كلّما استعاد صورته، كلّما أعاد اختراع المعنى تحت الحصار.
إن اغتيال غسان، ومن قبله ناجي العلي، ومن بعده قوافل طويلة من المفكرين والمثقفين، هو الدليل الحيّ على أن إسرائيل تخشى الأفكار أكثر من الرصاص. تخشى الذاكرة. تخشى أن يبقى الفلسطيني "عائدًا إلى حيفا" رغم أنف الطرد والنسيان.
اليوم، بعد أكثر من نصف قرن، لا يزال غسان كنفاني شاهدًا وشهيدًا، لا في صوره ولا في تماثيله ولا في جداريات بيروت، بل في كل كلمة تُكتب باسم فلسطين، في كل حكاية تُروى عن عكا ويافا واللد، في كل صرخة رفض، وفي كل مشروع ثقافي يرى أن النضال لا يكون فقط بالبندقية، بل بالقلم والعقل والفن.
غسان كنفاني لم يمت. لأن من يموت هو من تُغلق دفاتره، بينما غسان ما زالت دفاتره مفتوحة، ما زالت "الهدف" تطبع، ما زال الأدب الفلسطيني يُكتَب تحت ظلاله، ما زال الوطن يُرى من نافذته، رغم كل الخيبات والانكسارات. غسان لم يكتب عن فلسطين، بل كتب فلسطين نفسها، بحبرٍ من دمٍ وشعرٍ ورفضٍ لا ينتهي.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حذاء نورو للروائي التونسي محمد دمّق..حين يتحوًل الجسد إلى شظ ...
- اوهام الشرق الأوسط الجديد :بين الهيمنة الصهيونية و استعصاء ا ...
- الناقدة اللبنانية زينب الحسيني تكتب عن قصيدتي ورقات النسيان
- اليد التي لم تُرَ : الإختراق الصهيوني الهندي في قلب إيران
- تونس في مواجهة العتمة ..الدولة ضد التحالفات الخفية
- الكيان الصهيوني الغاصب و إيران: المواجهة التى تأخرت
- نور الدين الرياحي..حين يتماهى اللون مع الذاكرة التونسية
- الكتابة و الإبداع...منعطفات و مسارات
- تونس بين جراح الماضي و استحقاقات التأسيس
- المعرض الفني ابراخيليا بسيدي بوزيد..تحليق بالفنً إلى الأقا ...
- تونس الآن بين غيوم المشهد و التغيير الشامل
- الكتابة و الهذيان
- الهاربون من الإنكسار
- الفكر الإستراتيجي و معظلة غياب الإرادة!
- الشاعر السوري بديع صقور يكتب عن نصوص الشاعر التونسي البشير ع ...
- التخييل و المجاز في نصوص الشاعر التونسي البشير عبيد
- رواق الفنون ببن عروس التونسية تحتفي بالفنان التشكيلي الهادي ...
- الناقد العراقي ثامر جاسم يكتب عن نصوصي الشعرية
- الناقد العراقي داود السلمان يكتب عن قصيدة وحدهم يعبرون الجسر
- كلية الآداب بالقيروان تحتفي بالمفكر الفلسفي د. محمد محجوب


المزيد.....




- “رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس ...
- الكشف رسميًا عن سبب وفاة الممثل جوليان مكماهون
- أفريقيا تُعزّز حضورها في قائمة التراث العالمي بموقعين جديدين ...
- 75 مجلدا من يافا إلى عمان.. إعادة نشر أرشيف -جريدة فلسطين- ا ...
- قوى الرعب لجوليا كريستيفا.. الأدب السردي على أريكة التحليل ا ...
- نتنياهو يتوقع صفقة قريبة لوقف الحرب في غزة وسط ضغوط في الائت ...
- بعد زلة لسانه حول اللغة الرسمية.. ليبيريا ترد على ترامب: ما ...
- الروائية السودانية ليلى أبو العلا تفوز بجائزة -بن بينتر- الب ...
- مليون مبروك على النجاح .. اعتماد نتيجة الدبلومات الفنية 2025 ...
- الإعلام الإسباني يرفض الرواية الإسرائيلية ويكشف جرائم الاحتل ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - البشير عبيد - في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر