البشير عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 13:46
المحور:
القضية الفلسطينية
في جنوب رفح، على أرضٍ مثخنةٍ بالجراح والدمار، وقعت عملية نوعية ستظلّ علامةً في ذاكرة الميدان. المنطقة التي صُنّفت من قِبل الاحتلال الصهيوني «منطقة آمنة» تحولت في لحظة واحدة إلى مسرح يقلب كلّ حسابات القوة. أجهزة كشف الألغام المتقدمة، والأقمار الصناعية، والطائرات المسيرة، والناقلة المصفحة التي تشبه مدينةً متحركةً على أربع عجلات —كلّها أثبتت محدوديتها أمام قرارٍ بشريٍّ مُتقَنٍ ونظام توقيت دقيق. الناقلة المصفحة، التي تُعلن عنها الآلات الحربية كرمزٍ للسيطرة والأمن، لم تنجُ من عبوةٍ زرعت في باطن الأرض فمزّقت صندوق الأساطيل المهيمنة، ولربما أماتت حكاية الردع كما أرادها الكيان الصهيوني الغاصب.
هذا المشهد لا يختزل مجرد حادث عسكري؛ إنه كشفٌ لسردية التفوق التكنولوجي التي اعتنقها الاحتلال، وإشارةٌ إلى أن العداء ليس معادلةً رياضية تُقاس بالأطنان والذخائر فحسب. العبرة هنا أن الإرادة البشرية، حين تتحوّل إلى فعلٍ منسقٍ مبني على فهم الأرض والناس، تستطيع أن تسقط أوهام الأمن المطلق. العملية تعيد طرح سؤالٍ سياسي محوري: هل تكفي التفوقات التقنية لفرض هيمنةٍ دائمة، أم أنّ ثمن هذا الاعتماد على التقنية هو تهميش عواملٍ إنسانيةٍ وسياسيةٍ قد تفسد كل العمليات العسكرية؟ الجواب، كما بدا اليوم في رفح، يميل نحو أن التكتيك البشري والملموس في الأرض قد يغيّر قواعد اللعبة برمتها.
وهم «المنطقة الآمنة»: حين تنكشف الأسطورة التكنولوجية
الاحتلال قدّم «المناطق الآمنة» كجزء من عقيدته الأمنية الجديدة في غزة، ليقنع الداخل والخارج أنه قادر على السيطرة الكاملة على الأرض، وأن أدواته التقنية كفيلة بقتل المفاجآت. لكن العملية الأخيرة نسفت هذه العقيدة من جذورها. فإذا كانت «المنطقة الآمنة» تعني أن نسبة المخاطر لا تتجاوز 1%، فإن نجاح المقاومة في قلب هذه المعادلة يضرب الثقة بالمفهوم كله، ويحوّله إلى عبء على الجيش بدل أن يكون ضمانة له.
الهشاشة هنا لا تتعلق بالحادثة نفسها فحسب، بل بما تتركه من أثر على العقيدة العسكرية للكيان الصهيوني الغاصب. الجيش الذي يرفع راية التكنولوجيا كرمزٍ للتفوق يجد نفسه مضطرًا لإعادة التفكير في مسلّماته، لأن الميدان يثبت أن الأمن المطلق غير موجود. بل إن كل تقدمٍ تقني يحمل معه غرورًا يقود إلى التعرّض للضربة. حين تصطف القوات في لحظةٍ من الاطمئنان المفرط، تتحول التقنية إلى نقمة بدل أن تكون نعمة.
في هذا السياق، العملية ليست حدثًا عابرًا، بل رسالة استراتيجية: لا حصانة لأي منطقة ولا لأي آلة مهما بلغت قوتها، ما دام ثمة بشر يملكون الإرادة ويعرفون الأرض أكثر مما تعرفها الأقمار الصناعية. الرسالة تتخطى حدود التكتيك إلى ما هو أعمق: أن الأرض والإنسان اللذين يُعاملان كمتغيرات هامشية في معادلات التكنولوجيا يمكن أن يصبحا العامل الحاسم في قلب المعركة.
تكتيكات المقاومة: تحويل الفقر إلى سلاح استراتيجي
المقاومة في رفح لم تعتمد على أسلحة خارقة ولا على تقنيات متطورة، بل على أبسط عناصر الحرب: الصبر، المعرفة، والتوقيت. رجالٌ يخرجون من باطن الأرض بملابس مهترئة، أجسادهم منهكة من الجوع والحصار، لكن عقولهم تعمل كغرف عمليات متنقلة. هذا التحويل من حالة الفقر المدقع إلى سلاح استراتيجي يفسّر سرّ الفاعلية.
في مقابل ذلك، جنود الاحتلال يركنون إلى الناقلة المصفحة كأنها درع إلهي؛ بعضهم يظن أنها تحميه حتى من القدر نفسه. هذا الشعور الزائف بالأمان هو الذي يُسقطهم في فخاخ الأرض. فالجيش الذي يعتمد على آلة تحميه يفقد تدريجيًا حذره وغريزته القتالية، بينما المقاتل الذي لا يملك إلا جسده يصبح أكثر حساسية لكل تفصيل، وأكثر قدرة على تحويل الأرض إلى سلاح.
العملية الأخيرة أظهرت أن التكتيك البسيط —عبوة مزروعة بدقة وتفجير في لحظة الاصطفاف— يمكن أن يحوّل تجمعًا عسكريًا إلى مشهد من الفوضى. وهنا يكمن الخطر الأكبر على الاحتلال: إذا تكررت هذه العمليات، ستتحول «التفوقات التقنية» إلى عبء نفسي يزرع الشك في كل جندي وضابط، ويُفقدهم ثقتهم بالآلة التي تحميهم. ومع تراكم مثل هذه الضربات، تتبدد مصداقية مفهوم «المنطقة الآمنة» لدى الجمهور الإسرائيلي أولًا، ثم لدى صانعي القرار السياسي والعسكري.
المعادلة السياسية الموسعة: ماذا لو تغيّر ميزان الدعم؟
العملية في رفح تفتح نافذة على سؤالٍ يتجاوز التكتيك إلى ماهية الصراع نفسه: ما الدور الفاعل الذي يمكن أن تلعبه التحولات في ميزان الدعم؟ النص الذي استندنا إليه يلمّحُ بوضوحٍ إلى أن 10% فقط من الدعم الإقليمي الكفيل بتحويل القدرات قد تغيّر قواعد المواجهة. هذه النسبة —إن أخذناها مجازًا— تعني ليس فقط كمية ذخائر أو قذائف، بل بنى لوجستية، أجهزة استطلاع متواضعة، تدريب تكتيكي، وخصوصًا قنوات اتصال وتحكّم تجعل من الانفجار التكتيكي حدثًا منسقًا قابلًا للتكرار.
إذا وُجد هذا الشريط الضيق من الدعم، فكيف سيتبدى أثره؟ أولًا، سيزداد معدل العمليات النوعية ويصبح التخطيط أقل عشوائية وأكثر استدامة. ثانيًا، سيؤدي الدعم المتزايد إلى تشييد قدرات دفاعية وهجومية مضادة يمكن أن تكسر احتكار التكنولوجيا الحربية. ثالثًا، الأهم ربما، أن أي دعم متزايد سيقوّي البنية الاجتماعية للمجتمعات المقاومة —شبكات إسناد محلية، موارد لإعادة التجمع، وصمود متزايد أمام محاولات الاختراق الأمني.
لكنّ السؤال الأكبر ليس تقنيًا فحسب؛ إنه سياسي دولي وإقليمي. الأنظمة التي تتحاشى المواجهة أو تخشى تداعيات التحركات الإقليمية تلعب دورًا محوريا في استمرار اختلال الميزان. غياب الدعم لا يحدث لأن الموارد معدومة فحسب، بل لأن المخاطر السياسية لدعمه عالية: فرض عقوبات، تحمّل ردود فعل دبلوماسية، أو حتى التعرض لضغوط اقتصادية. هنا تظهر لعبة المصالح: بعض الأنظمة ترى في الصمت تحفظًا على وضعها، وبعضها يخشى أن يؤدي أي تحرك علني إلى شقّ في تحالفاتها أو فقدان مكاسب دولية.
وعليه، تصبح العملية في رفح مرآةً لضعف الحاضنة السياسية الإقليمية والدولية. هي تذكرنا بأن التحولات الميدانية الصغيرة، إن لم تقابلها تغيرات سياسية تتولى تحويل التكتيكات إلى استراتيجية، فستبقى نجاحات آنية تزول مع الوقت. أما إذا صاحب تلك النجاحات تنظيم سياسي واستراتيجية دعم طولية —دبلوماسية، مالية، ولوجستية— فإنها قد تتحول إلى دورة تصاعدية تقود إلى خسارة معنوية ومادية دائمة للاحتلال.
هناك أيضًا أثر آخر: تكلفة الصمت الدولي. استمرار سياسات التبرؤ أو الحياد تحت ذريعة الاستقرار الدولي ينعكس مباشرة على قدرة المقاومة على التحول من فاعل تكتيكي إلى لاعب استراتيجي. وعلى النقيض، أي بوادر دعم ولو رمزية قد تكون شرارة تغيير، لأنها تُحوّل الشعور بالعزلة إلى قدرة على المبادرة.
أخيرًا، هناك بعد أخلاقي يفرض نفسه على صانعي القرار: هل سيستمر العالم في مراقبة تحول الانهيار الإنساني في غزة دون اعتبار أن مسألة الدعم ليست مسألة تسليح فحسب بل مسألة استدامة حياة وسياسة وإمكانية لحلّ سياسي؟ هذا السؤال يضع أمام الأنظمة خياراتٍ لا تقبل التجميد الأبدي.
البعد النفسي الموسع: تصدعات في جدار الردع
الجيش الإسرائيلي بنى ردعه ليس فقط على قوته العسكرية، بل على صورته النفسية كجيش لا يُقهر. هذه الصورة تتصدع مع كل عملية نوعية، وكل مرة يُفقد فيها جندي الإحساس بالأمان الذي منحه له التدريع المادي. الجنود الذين شاهدوا بأعينهم ناقلة مصفحة تتفجر أمامهم، وفقدوا زملاءهم في لحظة اصطفاف عادية، سيحملون معهم ندوبًا نفسية لا تمحى مدى الحياة، تمتد آثارها إلى كل قرار يتخذونه في الميدان.
الردع العسكري، الذي يُبنى على توازن السلاح والتفوق التقني، لا يكتمل إلا بوجود قناعة الجندي بأن جيشه يحميه. وعندما تهتز هذه القناعة، يصبح الجيش هشًا من الداخل، وتظهر تصدعات حقيقية في بنية الردع، تتجاوز الفقد المادي إلى الفقد المعنوي. انخفاض الروح المعنوية، وزيادة شعور القلق الدائم، وتراجع القدرة على المبادرة السريعة، كلها مظاهر لتأثير العملية على النفسية العسكرية.
لكن التأثير لا يقتصر على الجندي فقط، بل يمتد إلى المجتمع الإسرائيلي ككل. الأسر التي فقدت أبناءها، والمواطنون الذين يراقبون هذه الخسائر، يبدأون في التساؤل عن جدوى الحروب وأثرها على مستقبلهم. في ظل هذه الحالة، تتحول العمليات النوعية في غزة إلى أداة تغيير المزاج العام داخليًا، وزرع الشك في قدرة الدولة على حماية نفسها، مما يؤدي إلى اضطراب نفسي مؤسسي يضعف ثقة القادة العسكريين والسياسيين في استراتيجياتهم.
الأخطر أن هذه التصدعات النفسية تتفاعل مع السياسة: كل هزيمة رمزية أو عملية ناجحة للمقاومة تحرّك النقاش الداخلي حول جدوى الانفاق العسكري وسياسات الردع، وتزيد الضغوط على صانعي القرار. التوازن بين الرغبة في فرض السيطرة والخوف من الانهيار النفسي يصبح هشًا، ويكشف محدودية الردع العسكري أمام إرادة بشرية ذكية ومصممة. كل عملية نوعية هنا ليست مجرد حدث ميداني، بل اختبار نفسي، اجتماعي، وسياسي في آن واحد، يربط بين القدرة القتالية، الاستقرار الداخلي، والثقة بالقيادة.
خاتمة
العملية في رفح لم تكن مجرد تفجير ناقلة عسكرية؛ كانت حدثًا مركّبًا يجمع بين الميداني والسياسي والنفسي. لقد فضحت هشاشة مفهوم «المنطقة الآمنة»، وأظهرت قدرة الفقر حين يتحوّل إلى تكتيك، وطرحت سؤالًا سياسيًا حول جدوى الدعم المفقود، وفتحت جرحًا نفسيًا في جسد الردع الإسرائيلي.
في قلب المشهد، هناك إنسان منحني الظهر من قسوة العيش في نفق، يفتقر إلى الطعام والدواء، لكنه يملك ما لا تملكه كل آلات الحرب: إرادةٌ تتحدى المستحيل. أمام هذا المشهد، تبدو كل ترسانات الاحتلال مجرد أبراجٍ من ورق، وكل ما يُسمى «أمنًا» ليس إلا وهمًا قابلًا للانفجار في أي لحظة.
رفح اليوم لم تكن مجرد نقطة على خريطة الحرب، بل كانت لحظةً فارقة في كسر الردع وإعادة كتابة معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب.
#البشير_عبيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟