أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - البشير عبيد - عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي















المزيد.....

عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 15:51
المحور: الادب والفن
    


عبد الجبار العش: الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي

البشير عبيد - تونس

منذ شبابه المبكر، انخرط عبد الجبار العش في الحركة اليسارية التونسية، مؤمنًا بأن الوعي السياسي جزء لا يتجزأ من مسؤولية المثقف. لم يكن الانخراط مجرد شعار أو رمز سياسي، بل ممارسة فعلية تحمل مخاطرة في زمن كانت الأصوات الحرة فيه مهددة، حيث كان التعبير عن المعارضة ينطوي على تهديد مباشر للحرية الشخصية. هذا الانخراط منح كتاباته بعدًا نضاليًا واضحًا، إذ امتزجت الكلمة بالجسد والفعل، والشعر بالرواية بالواقع السياسي والاجتماعي، ليصبح أدبه مرآة صادقة لتجربة المجتمع التونسي في مراحل تحوّله الاجتماعي والسياسي.
لقد شارك العش في تنظيم ندوات سرية ولقاءات فكرية مع شباب الحركة اليسارية، حيث كان يدافع عن الفكر الحر ويحث على مساءلة السلطة والوعي المجتمعي. كان حريصًا على أن يكون المثقف جزءًا من الواقع لا مجرد متفرج عليه، مؤمنًا بأن الأدب والسياسة والفكر يجب أن يسهموا في تشكيل وعي شعبي عميق. لم يكن مقصوده مجرد الحضور النظري، بل الإسهام الفعلي في تطوير الفعل السياسي والثقافي، وربط الكتابة بالممارسة اليومية، الأمر الذي جعل أعماله تنبض بحيوية الشارع وصدق التجربة.
كما كان عضوًا فاعلًا في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، حيث شارك في الدفاع عن القضايا الحقوقية والعدالة والمساواة، من خلال الندوات والدراسات والمبادرات الميدانية. لم يكتفِ بالكتابة في هذا المجال، بل تحوّل إلى موقف عملي متجذر في الحياة اليومية، مؤكدًا أن المثقف الحقيقي هو من يعيش التزامه في المجتمع، لا في الأوراق أو المكتبات وحدها. هذا الالتزام جعله من بين الأصوات القليلة التي جمعت بين الفن والنضال، وجعل كتاباته تعكس تجربة الإنسان التونسي في مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية.
وبجانب الالتزام السياسي والاجتماعي، تميّز العش بحسّه الثقافي والفني. فقد تابع بعمق نشاط فرقة البحث الموسيقي بقابس، وهي فرقة التزمت بالمقاومة الثقافية والفنية، واعتبر التجربة الموسيقية وسيلة لفهم الثقافة التونسية والفنون الشعبية في سياقها الاجتماعي. لقد ساهمت هذه التجارب في صقل وعيه الثقافي، وجعلته يدمج بين البحث الفني والتعبير الأدبي، ليصبح نصه الأدبي ليس مجرد حكاية، بل حالة متكاملة من المقاومة الثقافية. كما كان دائم التواصل مع الموسيقيين والباحثين في التراث، ملاحظًا التغييرات والتحولات في الفنون الشعبية، ما أضاف بعدًا جديدًا لإبداعه الأدبي، حيث أصبح صوت الثورة الثقافية حاضرًا في كل قصيدة وكل جملة روائية.

الشعر والهوية: صرخة الذات في مرايا الوطن

في الشعر وجد العش متنفسًا للتعبير عن الذات والمجتمع معًا. أصدر دواوين عدة، من بينها جلنار وقصائد تحترق، حيث تتقاطع الصرخة الفردية مع الألم الجماعي، والهوية الوطنية مع التجربة الشخصية. لم يكن شعره مجرد ترف لغوي، بل أداة للمساءلة والفضح، يكشف هشاشة الواقع الاجتماعي ويطرح تساؤلات عميقة حول الحرية والكرامة والعدالة.
تتسم نصوصه بالجرأة والوضوح، وتظهر فيها صراعات الإنسان العربي بين قيود الواقع وتطلعاته للحرية. في شعره، يتماهى صوت الفرد مع صوت الجماعة، وتتشابك صورة الوطن مع صورة الذات، في تجربة تجعل القارئ يعيش بين المأساة والوعي السياسي في الوقت ذاته. الشعر عند العش لم يكن هروبًا من الواقع، بل مواجهته بالكلمة، وتحويل الألم إلى تجربة جمالية متينة تحمل رسالة مقاومة مستمرة.
كما اتسم شعره بالقدرة على المزج بين الرمز والواقع، حيث يستخدم الصور الشعرية لفتح نافذة على المجتمع، مظهرًا أوجه الظلم والتهميش، لكنه في الوقت ذاته يزرع الأمل والقدرة على المقاومة. هذا المزيج بين النقد الاجتماعي والقدرة الجمالية أعطى نصوصه ثقلًا استثنائيًا، وجعلها مرجعًا لا يمكن تجاوزه لفهم الشعر التونسي المعاصر في سياقه السياسي والاجتماعي.

رواية "محاكمة كلب": الأدب كفضح ومساءلة

تعد رواية محاكمة كلب القمة الرمزية في مسيرة العش الأدبية. بطل الرواية، "عرّوب الفالت"، ليس مجرد شخصية رمزية، بل مرآة للإنسان المهمش، الذي يعيش على هامش المجتمع ويواجه الإقصاء والتهميش والاعتداء على كرامته. المحاكمة هنا ليست للكلب ككائن حي فحسب، بل لمحاكمة مجتمع يشرعن الظلم ويعيد إنتاجه، ويختبر صدق المثقف في مواجهة السلطة والقيم المغشوشة.
الرواية توازن بين السرد الواقعي والتحليل الفلسفي، وتستحضر تجارب العش الشخصية وانخراطه السياسي والاجتماعي. من خلالها يكشف عن ديناميات القهر الاجتماعي ويجعل القارئ شريكًا في مساءلة المجتمع والسلطة، ما يجعل الرواية أداة مقاومة قوية. كما يظهر في الرواية تأثير انخراطه في الحركة اليسارية التونسية، حيث تتقاطع المواقف السياسية مع حياة الشخصيات، وتعكس النزاع بين الفرد والمجتمع وبين السلطة والمهمشين.
لقد استطاع العش أن يجعل من الرواية منصة للتأمل في الأخلاقيات المجتمعية والسياسية، مستخدمًا السرد كأداة لمساءلة كل أشكال السلطة التي تهدد كرامة الإنسان، ولإظهار أن المقاومة الفكرية تبدأ من فهم الواقع واستنطاق الظلم وتحدي القيم المغشوشة.

ذاكرة مفتوحة: حضور العش بعد الرحيل

بعد مرور عام على رحيله، لم تغلق أعمال عبد الجبار العش أبوابها أمام القرّاء والباحثين. نصوصه الشعرية ورواياته تُدرس وتناقش في الندوات الثقافية والمقالات الأكاديمية، وتبقى مرجعًا للالتزام بالحق والحرية. حضوره لم يعد مجرد ذكرى، بل نموذج للالتزام الفكري والمجتمعي، واستمرار لفكرة أن الأدب والفكر والسياسة يمكن أن تتقاطع في مشروع متكامل للوعي الاجتماعي.
أجيال اليوم التي تبحث عن الصدق والمقاومة بالكلمة تجد في نصوصه منارة، فهو يعلّمنا أن المثقف الحقيقي يرفض المهادنة، وأن صوت الحق والمقاومة لا ينتهي بالرحيل. إرثه يذكّر بأن الشعر والرواية والفن ليست رفاهية، بل أدوات للتغيير والمساءلة. بالإضافة إلى ذلك، تشهد المشهد الثقافي التونسي اليوم على تأثيره، إذ يقتبس العديد من الشباب من تجربته في نقد الواقع وتحويل الألم الشخصي والجماعي إلى نصوص أدبية تحمل رسالة اجتماعية وسياسية واضحة.

الكلمة التي لا تموت

رحل عبد الجبار العش جسدًا، لكنه ظل حيًا في كل نص، في كل كلمة، في كل صرخة حقّ. أراد لنا أن نعرف أن المقاومة بالكلمة ممكنة، وأن المثقف ليس فقط من يكتب للسلطة أو للمنصات الإعلامية، بل من يكتب للإنسانية، للعدالة، وللجرح الجماعي.
"لن يمروا" ليست مجرد عبارة، بل رسالة مستمرة، تعلن أن الحقيقة والضمير لا يمكن أن يطمسهما الزمن أو الغياب. وبذلك يظل عبد الجبار العش حاضرًا في وعينا الثقافي، رمزًا للمقاومة بالكلمة، ونموذجًا للالتزام بالحرية والعدالة، سواء على صفحات الديوان أو في أزقة الواقع الذي عاشه وناضل من أجله.
لقد أصبح إرثه مصدر إلهام لكل من يسعى إلى الكتابة الملتزمة، وللثقافة العربية التونسية خاصة، فهو لم يترك النصوص لتكون مجرد حبر على ورق، بل جعلها أداة حياة ووعي ومقاومة مستمرة، تثبت أن الكلمة لا تموت، وأن المثقف الحقيقي حاضر حتى بعد رحيله الجسدي.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زياد جيوسي...مسيرة فكربة و نقدية لافتة
- محمد داني: بين السرد و النقد.. رحلة الوعي و الإبداع
- حنظلة لا يموت : ناجي العلي و الثقافة المقاومة
- نصر الدين العسالي : حين تتجلًى اللوحة في مواجهة قسوة الواقع
- علوية القانون و سيادة القرار : رهانات الدولة الحديثة
- صنع الله ابراهيم : الروائي الذي كتب الحرية بمداد الحقيقة
- حين تنطق الأرض : غزة تردً بالعقل و الدهاء
- ثورة 23 يوليو..الحلم القومي في مفترق التاريخ
- تونس الراهنة : اختبار الوعي السياسي و إرادة التغيير
- في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر
- حذاء نورو للروائي التونسي محمد دمّق..حين يتحوًل الجسد إلى شظ ...
- اوهام الشرق الأوسط الجديد :بين الهيمنة الصهيونية و استعصاء ا ...
- الناقدة اللبنانية زينب الحسيني تكتب عن قصيدتي ورقات النسيان
- اليد التي لم تُرَ : الإختراق الصهيوني الهندي في قلب إيران
- تونس في مواجهة العتمة ..الدولة ضد التحالفات الخفية
- الكيان الصهيوني الغاصب و إيران: المواجهة التى تأخرت
- نور الدين الرياحي..حين يتماهى اللون مع الذاكرة التونسية
- الكتابة و الإبداع...منعطفات و مسارات
- تونس بين جراح الماضي و استحقاقات التأسيس
- المعرض الفني ابراخيليا بسيدي بوزيد..تحليق بالفنً إلى الأقا ...


المزيد.....




- -السينما الغامرة-.. كيف يعيد الذكاء الاصطناعي رسم تجربة المش ...
- رحيل أيقونة السينما الإيطالية كلوديا كاردينالي عن 87 عاماً
- صور لغزة في معرض بمدريد لـ-إيقاظ الضمائر-
- عرض كتاب.. الاعتداءات الإسرائيلية على الأحياء والقرى والبلدا ...
- برعاية وزارة الثقافة .. بلدية البيرة تنظم معرض -حروف تجوب ال ...
- قصائد تحتفي بأمجد ناصر وتعاين جرح غزة
- -أجمل إيطالية في تونس-... وفاة أيقونة السينما كلوديا كاردينا ...
- -علي بابا- تطلق أكبر نماذجها اللغوية للذكاء الاصطناعي
- -صدى الأبدية-.. رواية تجمع بين الواقع والخيال للتحذير من هيم ...
- الأخلاق في عصر التفاهة.. حين تصبح القيم محض شعارات


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - البشير عبيد - عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي