أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - البشير عبيد - غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان















المزيد.....

غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان


البشير عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8481 - 2025 / 9 / 30 - 20:47
المحور: القضية الفلسطينية
    


غزة في زمن الإبادة: شهادة على العجز الدولي وصمود الإنسان

البشير عبيد - تونس

غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصرة على شريط ضيق من البحر، بل هي مرآة دامية لزمن عربي وعالمي مضطرب، تختلط فيه صورة الضحية بمشهديّة العجز الدولي وانكشاف القيم الإنسانية. على مدى شهور متواصلة من حرب الإبادة، تحولت المدينة إلى مسرح مكثّف لمعنى الصمود الإنساني في مواجهة آلة الموت، فكانت البيوت المهدّمة والشوارع الموحلة بالدماء بمثابة النص المفتوح الذي يفضح أكاذيب الديمقراطيات الغربية وخطابها عن العدالة. لم تعد غزة عنواناً لمعاناة الفلسطينيين وحدهم، بل صارت شاهداً على حدود القانون الدولي، وعلى انهيار المنظومة الأخلاقية التي طالما تغنّى بها العالم. في قلب هذا الركام، ما يزال الإنسان الغزّي يحرس ذاكرة الحياة بوجه الموت، ويؤكد أن الهوية العربية لا تُختزل في بيانات الشجب ولا في مشاهد العزاء العابر، بل في لحظة التمسك بالوجود رغم كل أشكال المحو. هكذا، تصبح غزة اليوم امتحاناً إنسانياً للأمة والعالم معاً، وصرخةً تتجاوز حدود الجغرافيا نحو الضمير الإنساني الكوني.

الإبادة كاستراتيجية: حين يتحول القتل إلى سياسة معلنة

منذ بدايات الهجوم على غزة، لم يعد الهدف العسكري التقليدي هو ما يحكم حركة العدوان، بل اتخذت الإبادة نفسها شكل استراتيجية متكاملة، تتجاوز ميدان الحرب لتطال معنى الوجود الإنساني ذاته. لم يكن القصف عشوائياً، بل كان مقصوداً أن يستهدف المستشفيات والمدارس والمخابز، وأن يحيل البنية التحتية إلى ركام، ليُفرغ المكان من شروط الحياة. إن استهداف الأحياء المكتظة بالسكان، وفرض الحصار على الغذاء والدواء والماء، هو إعلان واضح بأن المطلوب ليس فقط هزيمة عسكرية لفصيل مقاوم، بل سحق مجتمع كامل، وتحويله إلى أرض خالية من البشر.
بهذا المعنى، لم تعد غزة ساحة معركة تقليدية، بل مختبراً حديثاً لعقيدة الإبادة. لقد حاولت آلة الاحتلال أن تجعل من كل بيت مدفون تحت الردم، وكل جثمان ممدد على قارعة الطريق، جزءاً من خطاب القوة الذي يطمح إلى بث الرعب في نفوس الفلسطينيين والعرب معاً. لكن المفارقة أن هذا القتل الجماعي لم يؤدِّ إلى استسلام الضحية، بل زاد منسوب التمسك بالحياة، وحوّل الدم إلى ذاكرة جماعية لا تنطفئ بسهولة.
ولعل ما يكشف عمق هذه الاستراتيجية هو تكرارها عبر التاريخ. فمنذ حرب 2008، ثم حرب 2014، وصولاً إلى العدوان الحالي، كان الهدف واحداً: جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة. لكن كل حرب، بدل أن تطفئ جذوة الروح، كانت تعيد تشكيلها أكثر صلابة، حتى صار القطاع رمزاً عالمياً للصمود في وجه سياسات الإبادة المنظمة.

عجز المنظومة الدولية وازدواجية المعايير

حين نتأمل المشهد الدولي، نكتشف أن غزة لم تكشف وحشية الاحتلال وحده، بل عرّت أيضاً المنظومة الدولية التي طالما تغنّت بحقوق الإنسان والقانون الدولي. قرارات مجلس الأمن بقيت حبراً على ورق، وبيانات الأمم المتحدة بدت كأنها محاولة بائسة لمجاراة غضب الرأي العام العالمي من دون أي أثر عملي. أما المحاكم الدولية، فقد بدت مقيدة بموازين القوى أكثر مما هي ملتزمة بروح العدالة.
لقد أكدت حرب غزة أن العالم يعيش ازدواجية فادحة: فحين يتعرض المدنيون في أوروبا لأي اعتداء، تنهال التصريحات المنددة وتتحرك التحالفات بسرعة غير مسبوقة، بينما حين تُباد آلاف العائلات في غزة، يتذرع الغرب بـ"حق الدفاع عن النفس" ليغطي أفظع المجازر. هذه الازدواجية لم تعد خافية على أحد، وهي اليوم تغذي غضب الشعوب حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها، حيث خرجت مظاهرات عارمة ترفض دعم حكوماتها لحرب الإبادة.
ولعل الصورة الأكثر فداحة هي تلك التي تتكرر يومياً: أمهات يبحثن بين الركام عن أطفالهن، أطباء يجرون العمليات على ضوء الهواتف المحمولة، عجائز يخرجون من بين الأنقاض وهم يتمسكون بمفاتيح بيوت دُمّرت، بينما العالم يتابع المشهد عبر شاشاته كما لو كان فيلماً طويلاً بلا نهاية. هذا الانكشاف لم يعد يترك مجالاً للالتباس: إن العجز الدولي أمام مأساة غزة يشي بأن القانون الدولي ليس سوى أداة بيد الأقوياء، وأن العدالة المزعومة محكومة بمنطق المصلحة لا بمبادئ حقوق الإنسان.
لكن في المقابل، وفّرت هذه اللحظة فرصة نادرة لإعادة بناء خطاب عالمي بديل، يستند إلى أصوات الشعوب وحركات التضامن العابر للقارات، التي صارت ترى في غزة رمزاً لمعركة الكرامة الإنسانية على اختلاف الألوان والأعراق. من شوارع نيويورك إلى جامعات لندن، ومن شوارع الرباط إلى أحياء جوهانسبرغ، ارتفعت شعارات الحرية لفلسطين، لتؤكد أن غزة لم تعد معزولة، بل صارت محوراً لحركة عالمية جديدة ضد الاستعمار والإبادة.

الصمود الإنساني وصياغة معنى جديد للهوية

رغم الخراب والمجازر، فإن ما يثير الدهشة هو قدرة الغزيين على صياغة صمود يومي يتجاوز فكرة المقاومة العسكرية ليصل إلى أفق أعمق: مقاومة الحياة في وجه الموت. مشهد الأطفال الذين يواصلون الدراسة تحت الخيام، والأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية بلا أدوات كافية، والنساء اللواتي يحرسن ذاكرة البيوت المهدمة بالحكايات، كلها تفاصيل صغيرة لكنها تصوغ معنى هائلاً للهوية.
في غزة، يتحول فعل البقاء ذاته إلى فعل مقاومة، ويصبح التشبث بالذاكرة، والحفاظ على العلاقات الاجتماعية، وإعادة بناء الحياة من تحت الردم، صيغة عملية لمواجهة محاولات المحو. إن الهوية هنا لم تعد خطاباً نظرياً يكتب في الكتب، بل ممارسة يومية تتجلى في قدرة الناس على تحويل الألم إلى وعي، والخسارة إلى فعل إصرار على الاستمرار.
لقد أعادت غزة تعريف معنى الانتماء، ليس بوصفه مجرد شعور وجداني، بل كقدرة على الفعل، على أن يتحول الفرد إلى حامل لرسالة جماعية أكبر منه. هكذا يتسع معنى المقاومة ليشمل كل مظاهر الحياة اليومية، من توزيع الخبز في طوابير طويلة، إلى إقامة صلاة جماعية وسط الركام، إلى تربية الأجيال على أن الذاكرة لا تُمحى بالقصف.
وهذا ما يجعل من غزة مدرسة إنسانية للعالم كله: أنها أثبتت أن الصمود ليس حالة رومانسية، بل ممارسة يومية تُحوّل المحنة إلى مشروع حياة، وتجعل الهوية ذاتها سلاحاً في وجه الإبادة. ومن هنا، فإن غزة لا تكتب تاريخها وحدها، بل تكتب تاريخ أمة بأكملها، وتجبر العالم على إعادة تعريف معاييره الأخلاقية والإنسانية.

خاتمة: غزة كنداء للضمير الكوني

غزة اليوم شهادة دامغة على زمن تختلط فيه الوحشية بالادعاءات الأخلاقية، وتتكشف فيه هشاشة المنظومة الدولية وعجزها. لكنها في الوقت ذاته، درس عميق في معنى الإنسانية حين تواجه المحو، وفي كيفية تحويل الركام إلى ذاكرة، والدم إلى خطاب للمستقبل. ما يجري في غزة ليس مأساة فلسطينية فقط، بل لحظة كونية تضع الضمير الإنساني على المحك، وتؤكد أن المقاومة في أعمق معانيها هي الدفاع عن الحق في الوجود، مهما كانت موازين القوة مختلة.
إنها تذكير دائم بأن المذبحة ليست قدراً، وأن السكوت ليس حياداً، بل مشاركة في الجريمة. وفي مقابل هذا الانهيار الأخلاقي العالمي، ينهض الغزيون كحراس للكرامة، يكتبون بدمائهم ما قد يعجز العالم عن تدوينه بالحبر. في هذا الامتحان العسير، لا يقتصر دور غزة على كونها ضحية، بل تتحول إلى معلم إنساني، وإلى نداء مفتوح لضمير البشرية كي يختار: إما أن يبقى شريكاً في جريمة الإبادة، أو أن يستعيد إنسانيته عبر التضامن الفعلي مع حق الفلسطينيين في الحياة والحرية.



#البشير_عبيد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رشاد أبو شاور ..روائي المقاومة و ذاكرة فلسطين
- رفح.. العملية النوعية التي كسرت وهم المنطقة الآمنة
- عبد الجبار العش.. الكلمة الحرًة و الموقف المبدئي
- زياد جيوسي...مسيرة فكربة و نقدية لافتة
- محمد داني: بين السرد و النقد.. رحلة الوعي و الإبداع
- حنظلة لا يموت : ناجي العلي و الثقافة المقاومة
- نصر الدين العسالي : حين تتجلًى اللوحة في مواجهة قسوة الواقع
- علوية القانون و سيادة القرار : رهانات الدولة الحديثة
- صنع الله ابراهيم : الروائي الذي كتب الحرية بمداد الحقيقة
- حين تنطق الأرض : غزة تردً بالعقل و الدهاء
- ثورة 23 يوليو..الحلم القومي في مفترق التاريخ
- تونس الراهنة : اختبار الوعي السياسي و إرادة التغيير
- في حضرة الغائب الحاضر : غسان كنفاني و ذاكرة الجمر
- حذاء نورو للروائي التونسي محمد دمّق..حين يتحوًل الجسد إلى شظ ...
- اوهام الشرق الأوسط الجديد :بين الهيمنة الصهيونية و استعصاء ا ...
- الناقدة اللبنانية زينب الحسيني تكتب عن قصيدتي ورقات النسيان
- اليد التي لم تُرَ : الإختراق الصهيوني الهندي في قلب إيران
- تونس في مواجهة العتمة ..الدولة ضد التحالفات الخفية
- الكيان الصهيوني الغاصب و إيران: المواجهة التى تأخرت
- نور الدين الرياحي..حين يتماهى اللون مع الذاكرة التونسية


المزيد.....




- -ستكون نهاية حزينة للغاية-.. شاهد كيف هدد ترامب حماس أمام ال ...
- -إذلال- و-خيانة-.. اعتذار بنيامين نتنياهو من قطر يثير غضبا إ ...
- ترامب رئيساً لمجلس السلام في غزة.. فما هو دور توني بلير ونجي ...
- هل يتسبب سد النهضة في فيضانات بالسودان؟
- احتجاجات المغرب.. شباب جيل زد 212 يتحدثون لترندينغ
- مع بدء العام الدراسي في السودان: ملايين الأطفال خارج قاعات ا ...
- سكان غزة المنهكون يطالبون حماس بقبول خطة ترامب
- الإسرائيليون يعبرون عن الأمل بينما يكشف ترامب عن خطة السلام ...
- اختيار فتاة عمرها سنتان كإلهة حية جديدة في نيبال
- تهنئة في مؤتمره التاسع … حزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأرد ...


المزيد.....

- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ااختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- اختلاق تاريخ إسرائيل القديمة / سعيد مضيه
- رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني / سعيد مضيه


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - البشير عبيد - غزة في زمن الإبادة : شهادة على العجز الدولي و صمود الإنسان