البشير عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 16:18
المحور:
الادب والفن
أنيسة عبود: بين النعنع البري وصدى الروح الأدبية
البشير عبيد - تونس
أنيسة عبود ليست مجرد كاتبة أو شاعرة، بل رحلة أدبية متكاملة تمزج بين الشعر والسرد، بين الوجدان والفكر، حيث تتجاوز كلماتها حدود النص لتصبح مرآة للنفس الإنسانية، تحاكي الخيال والواقع في آن واحد. وُلدت عبود في إحدى المدن الساحلية السورية ونشأت في بيئة ثرية بالأساطير والحكايات الشعبية، وهو ما منحها قدرة فطرية على رصد الحياة اليومية وتحويلها إلى نصوص تنبض بالمعنى والجمال.
منذ بداياتها في الصحافة السورية والعربية، حيث نشرت قصصها وشعرها في الصحف والمجلات، كان واضحًا أن عبود تمتلك بصيرة خاصة في قراءة النفس البشرية وتحليل مآلاتها، وموهبة فريدة في تحويل اللحظات العادية إلى مشاهد روائية تترك أثرًا طويلًا في وجدان القارئ.
الأسلوب الأدبي واللغة
اللغة عند أنيسة عبود ليست مجرد أداة للتواصل، بل فضاء حيًّا تتنفس فيه الشخصيات والأحداث. كل كلمة في نصوصها تحمل وزنًا معنويًا، وكل جملة تخدم وظيفة مزدوجة: نقل الحدث وإيصال الحالة النفسية للشخصية. عبود تستخدم المزج بين السرد والشعرية بطريقة دقيقة تجعل القارئ يشعر وكأن النص ينبض بالحياة. في رواية "النعنع البري"، على سبيل المثال، لا يقتصر دور السرد على نقل أحداث القصة، بل يتحول إلى أداة لإظهار المشاعر الداخلية للشخصيات، من الخوف والحنين إلى الأمل والحب.
كما تعتمد عبود على الرمزية والإيحاءات الشعرية، فتتحول الأشياء البسيطة إلى علامات تحمل دلالات عميقة؛ النعنع البري، على سبيل المثال، ليس مجرد نبات، بل رمز للحرية والتمرد على القيود، وللقدرة على الصمود في مواجهة الظروف الصعبة. الأسلوب الأدبي عند عبود يجمع بين الرؤية الدقيقة للمكان والزمن والحدث، وبين الفلسفة الوجودية والبعد النفسي للشخصيات، مما يجعل القراءة تجربة غنية وعميقة، تفتح أمام القارئ فضاءً للانغماس في عالم من الرموز والصور الحية.
تظهر براعتها أيضًا في القدرة على تغيير الإيقاع الأسلوبي بما يتناسب مع الأحداث الداخلية للشخصيات؛ ففي اللحظات العاطفية العميقة يتحول السرد إلى شعر نثري مشحون بالموسيقى الداخلية للكلمات، وفي لحظات التوتر أو الصراع تتسارع الجمل لتجسد حالة الذهن المضطرب للشخصية، وهكذا يظل القارئ مشبكًا بتجربة النص من البداية حتى النهاية.
الأفكار والإهتمامات
تتنوع المواضيع التي تتناولها عبود بين المرأة في صراعها مع المجتمع، الهوية، الذاكرة، الغربة الداخلية، والحب. المرأة، بمآسيها وانتصاراتها، حاضرة بقوة في نصوصها، وتظهر كرمز للصراع المستمر بين الفرد والمجتمع، بين الحلم والواقع. رواياتها مثل "ركام الزمن، ركام امرأة" تتناول العلاقة بين الماضي والحاضر، وتكشف عن أثر الأحداث اليومية على تكوين الشخصية، كما تعكس الأبعاد النفسية للذاكرة والحنين.
بالإضافة إلى ذلك، تتناول عبود موضوعات مثل الغربة الداخلية، البحث عن الهوية، والأسئلة الوجودية التي تحاصر الإنسان في كل زمان ومكان. في "حرير أسود"، تتجلى الصراعات بين الحرية والرغبات الشخصية والقيود الاجتماعية، وبين المشاعر الإنسانية المتناقضة، بطريقة تجعل القارئ يعيش مع الشخصية كل لحظة، ويشعر بعمق الصراع النفسي الداخلي.
حتى في نصوصها القصيرة أو الشعرية، يظهر اهتمام عبود بالبعد النفسي للإنسان، بما في ذلك الخوف، الألم، الحب، والأمل، لتصبح كل قصة أو قصيدة تجربة حياتية متكاملة، لا تقتصر على سرد الأحداث، بل تثير التأمل في الذات والمجتمع والعالم.
الإسهام في الأدب السوري والعربي
أنيسة عبود تمثل ركيزة أساسية في الأدب السوري الحديث، وأعمالها تجاوزت الحدود المحلية لتصل إلى القارئ العربي والعالمي. ترجمت أعمالها إلى الإنجليزية، الروسية، الإيطالية، والتركية، مما يعكس قيمة أعمالها الأدبية في المشهد الدولي، ويدل على قدرة كتابتها على التواصل مع الثقافات المختلفة.
جوائزها الأدبية، وعلى رأسها جائزة المجلس الأعلى للثقافة عن رواية "النعنع البري"، تؤكد تميزها ومكانتها في الأدب العربي. لكن الأهم من الجوائز، هو الأثر المستمر لأعمالها على الأدب السوري والعربي، حيث أصبحت مصدر إلهام للكتاب الشباب والمهتمين بدراسة الأدب النسوي والرواية العربية الحديثة.
أعمالها لم تقدم مجرد سرد للأحداث، بل إسهامًا ثقافيًا متكاملًا، يفتح نافذة على النفس الإنسانية ويضع القارئ أمام أسئلة عميقة عن الهوية، الحرية، الحب، والفقدان. عبود تمكنت من أن تجعل من الكتابة رحلة فكرية ووجدانية في آن واحد، تجمع بين جمالية اللغة وعمق الفكر والرؤية الإنسانية.
التجربة الشعرية
إلى جانب الرواية، تتميز عبود بشعرية عالية في كتاباتها، حتى داخل النصوص السردية. الشعر عندها ليس مجرد فواصل جمالية، بل هو جوهر يضيء النص، ويمنحه إيقاعًا داخليًا خاصًا. كل وصف، كل مشهد، يحمل بعدًا شعريًا يجعل القارئ يتذوق النص على مستويات متعددة: لغة، إحساس، ورؤية. في رواياتها، غالبًا ما تتشابك الصور الشعرية مع السرد الروائي، فتتحول الكلمات إلى رموز صامتة، لكنها غنية بالمعاني، تعكس الحالة النفسية للشخصيات وتوترها الداخلي.
عبود تستفيد من الشعرية في تصوير الطبيعة والمكان، لتصبح جزءًا من الشخصيات وتجاربها. في "النعنع البري"، على سبيل المثال، لا يمثل النعنع مجرد نبات، بل يصبح مرآة لحياة الشخصيات، واستدعاءً للحرية والتجربة الإنسانية الأصيلة. وفي نصوصها القصيرة، يظهر الشعر في شكل رموز دقيقة وصور مشحونة بالعاطفة، تجعل القارئ يعي عمق التجربة الإنسانية بكل أبعادها النفسية والاجتماعية.
كما أن تجربتها الشعرية تعكس حسها الوطني والإنساني، حيث تتناول الحب، الغربة، الألم، والحنين إلى الماضي بروح شعرية راقية، تجعل الرواية تتجاوز سرد الأحداث لتصبح تجربة وجدانية كاملة. ولعل هذا المزج بين الشعر والسرد هو ما يمنح نصوص عبود خصوصية متفردة في الأدب السوري والعربي المعاصر، ويجعلها نموذجًا للكاتب الذي يستفيد من أدوات الشعر لزيادة قوة السرد وتعميق البعد النفسي للشخصيات.
البُعد النفسي والوجداني
أحد أهم عناصر قوة عبود الأدبية هو قدرتها على الغوص في أعماق النفس البشرية. شخصياتها ليست مجرد أبطال قصص، بل كيانات حية تنبض بالحرية، الألم، الحنين، والصراع الداخلي. من خلال نصوصها، يدرك القارئ أن الكتابة عندها ليست مجرد مهارة، بل رحلة كشف الذات ومواجهة الأسئلة الكبرى للحياة.
في رواية "قبل الأبد برصاصة"، تعالج عبود الخوف والمصير والحرية بطريقة تجعل القارئ يعيش لحظات التوتر النفسي والوجداني جنبًا إلى جنب مع الشخصيات، ويختبر أبعادًا من التجربة الإنسانية لا يمكن التعبير عنها بالكلمات العادية. وفي "ساحة مريم"، تمزج بين الواقع والمخيلة، لتخلق فضاءً شعوريًا متكاملًا، حيث التاريخ يلتقي بالذاكرة، والحدث الشخصي يعكس العمق الاجتماعي والثقافي.
إن أنيسة عبود، برواياتها وقصائدها، تثبت أن الكلمة قادرة على أن تكون تجربة وجودية كاملة، وأن الأدب الحقيقي هو الذي يعكس نبض الحياة بكل تعقيداتها. فهي بحق واحدة من أعمدة الأدب السوري المعاصر، وأيقونة للكتابة العربية التي تجمع بين الوجدان والفكر، بين الواقع والحلم، بين التاريخ والخيال.
إن قراءة أعمالها هي رحلة في عالم مليء بالصوت الداخلي للشخصيات، برؤية نقدية دقيقة للمجتمع، وعاطفة صادقة متجددة. إنها تجربة تجعل القارئ يكتشف ذاته والعالم المحيط به من خلال النص، فتصبح القراءة عندها فعل مقاومة للفكر الضيق، واحتفالًا بالحياة بكل أبعادها الإنسانية والفنية.
أنيسة عبود ليست فقط كاتبة، بل مرآة للروح، وأيقونة للأدب الذي يتحدى الزمن، ويصوغ الحقيقة والجمال والحرية في آن واحد، لتبقى أعمالها علامة فارقة في الأدب السوري والعربي، وتجربة لا تُنسى لكل قارئ يبحث عن العمق، الصدق، والجمال في الكلمة.
السيرة الذاتية للأديبة أنيسة عبود
أنيسة عبود، روائية، شاعرة وقاصة سورية، حاصلة على ماجستير في الهندسة الزراعية وباحثة في مجال الحمضيات. أسهمت في إثراء الأدب السوري من خلال نشر أربع مجموعات قصصية مطبوعة: حين تنزع الأقنعة، حريق في سنابل الذاكرة، غسق الأكاسيا، تفاصيل أخرى للعشق. حصلت على جائزة القصة القصيرة من اتحاد الكتاب العرب في دمشق.
في مجال الرواية، تعد أعمالها: النعنع البري (الجائزة الأولى في مسابقة الرواية العربية من المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، طُبعت 8 طبعات وترجمت إلى عدة لغات)، باب الحيرة، ركام الزمن – ركام امرأة، حرير أسود، قبل الأبد برصاصة، شك البنت – خرز الأيام، ساحة مريم، إضافة إلى مخطوط الشط يكمل الحكاية. نالت جائزة دمشق للرواية العربية وطبعت بعض أعمالها تحت إشراف وزارة الثقافة السورية.
في الشعر، صدر لها: مشكاة الكلام، قميص الأسئلة، امرأة أخرى، أحبك بتوقيت قلبي، إضافة إلى آلاف المقالات في الصحافة السورية والعربية. قدّمت برامج ثقافية وحوارية في التلفزيون السوري وإذاعة سورية، وكتبت عمودًا صحفيًا طويل الأمد بعنوان معًا على الطريق.
شغلت مناصب مهمة في البحث العلمي والإعلام، بما في ذلك إدارة محطة بحوث الحمضيات ورئاسة المكتب الصحفي للهيئة الهامة للبحوث. شاركت في لجان تحكيم الرواية والقصة القصيرة في سورية، وعضو في مجلس اتحاد الكتاب العرب لثلاث دورات منفصلة، كما حضرت مؤتمرات عربية ودولية في أمريكا، أوروبا، الشرق الأوسط، ونالت تكريمات دولية.
اختارتها منظمة اليونيسيف من الشخصيات المؤثرة في الرأي العام، وعلّقت صورها في مدارس عربية وغير عربية إلى جانب صورة الفرد نوبل. تعد أنيسة عبود اليوم رمزًا للأدب السوري المعاصر، ورائدة في المزج بين الرواية والشعر والصحافة الثقافية، بحضور عربي وعالمي بارز.
#البشير_عبيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟