البشير عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 15:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الجمهورية الممكنة : من الرعوية إلى المواطنة
البشير عبيد / تونس
العين التي تراقب المشهد السياسي في تونس لا تحتاج إلى كثير جهد لتلمس المأزق: تآكل الثقة، تشتت الأفق، وانسداد القنوات التي كان يفترض أن تُفضي إلى تعاقد وطني جديد. لقد خلّفت سنوات التنازع بين عائلات سياسية متقابلة—إسلاموية وليبرالية حداثوية—واقعًا هشًّا في الاقتصاد والمجتمع والقيم العامة. صار المواطن يرى الدولة أقرب إلى جهاز جباية بلا عدالة، وإدارة بلا خدمة، وخطاب عام يكثر فيه الوعد ويقلّ فيه الفعل. ومع ذلك، فإن ما نحتاجه اليوم ليس خطابًا ندامويًا، بل هندسة طريق للخروج: تحويل الغضب الاجتماعي إلى مشروع، وتحويل الحسّ الأخلاقي العام إلى مؤسسات وقوانين وممارسات يومية.
المدخل ليس اختراع العجلة من جديد، بل إعادة ترتيب بديهيات غابت طويلًا: سيادة القانون فوق الجميع، مركزية العدالة الاجتماعية في السياسات العمومية، وتكافؤ الفرص في التعليم والصحة والعمل والسكن. هذه ليست شعارات بل معايير قياس نحتكم إليها عندما نتحدث عن “الإنقاذ”. فمن دون معيار واضح، يغدو كل إنقاذ مزعوم مجرد إعادة تدويرٍ للنخب والآليات نفسها.
الكتلة التاريخية الممكنة: من الفكرة إلى الإمكان السياسي
تستعيد اللحظة التونسية اليوم مفهومًا أثمر في الفكر السياسي الحديث: “الكتلة التاريخية”. ليست الكتلة التاريخية تحالفًا انتخابيًا عابرًا، ولا صفقةً ظرفية بين قوى تبحث عن مواقع في السلطة؛ إنها توافق عميق حول المضامين التأسيسية للمجتمع والدولة. في تونس، تُبنى هذه الكتلة على أرضية جمهورية اجتماعية تؤمن بأن الحرية لا تُصان من غير عدالة، وأن السيادة الوطنية لا تتحقق من دون اقتصاد منتج ومؤسسات عمومية قوية، وأن التعددية لا معنى لها إن لم تُدار بقواعد عادلة وشفافة.
يعني ذلك أن تُصاغ نواة صلبة تجمع التيارات الديمقراطية الاجتماعية، والحركة النقابية، والتنظيمات المدنية المستقلة، والجامعات والفاعلين الثقافيين، والمهنيين ورواد الأعمال الوطنيين الذين يرون في السوق مجالًا للإبداع لا ساحة للريع. تحالفٌ واسع يمكن أن نسميه—على سبيل الاقتراح الدالّ—تحالف تونس الحرة: ليس حزبًا جديدًا بل منصة تعاقد، تُخرج الفعل السياسي من ضيق المواقع إلى سعة المقاصد.
وظيفة هذه الكتلة ليست فقط الدفع بحكومة إنقاذ، بل الأعمق: إعادة الاعتبار للسياسة كفنٍ لإدارة الاختلاف على أرضية مشتركة. وهي أرضية لها ثلاثة أعمدة: دستورٌ ضامن للحقوق والحريات، وقانون انتخابي يحقق التمثيل والاستقرار معًا، ومنظومة حكم محلية تُمكّن الجهات من المبادرة والإنفاق والمحاسبة. فالتعاقد التاريخي لا يكتمل بشعارات المركز إن لم تتحول الجهات إلى فاعلٍ شريك في القرار والموارد.
المواطنة ضد الرعوية: المعنى قبل الآلية
كل إصلاح بلا معنى أخلاقي وقيمي يتحول إلى تقنية محايدة تتقاذفها المصالح. هنا تأتي ثنائية “مواطنون لا رعايا” باعتبارها حجر الزاوية. الرعوية تَصوّرٌ للدولة باعتبارها مالكًا للرقاب، والناس فيها طالبي مكرمات. أما المواطنة فهي علاقة متبادلة الحقوق والواجبات: المواطن شريكٌ في وضع السياسات وتقييمها، لا مجرد مستهلك لخدماتها أو متلقي إعاناتها.
يتجلى ذلك في تفاصيل الحياة اليومية: الحق في تعليم عمومي جيد لا يُختزل في نسب نجاح مضخمة، بل في مضمون معرفي ومهاري يعادل بين الحواضر والأطراف. والحق في الصحة لا يُحصر في المستشفيات الكبرى، بل في منظومة رعاية أولية قريبة من الناس، ممولة بإنصاف، مؤمنة بكرامة المريض ومكانة الإطار الصحي. أما الشغل، فليس منحة ولا وساطة، بل ثمرة سياسة صناعية وزراعية ورقمية تنقل الاقتصاد من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التجارة العشوائية إلى سلاسل قيمة جديدة، ومن الريع إلى الابتكار.
إن مقاومة الرعوية تبدأ من اللغة التي نتكلم بها ومن صور العالم التي نحملها. حين نُسمي المواطن “الزبون” ونختزل حقوقه في فواتير، نكون قد سلّمنا بأن النيوليبرالية ليست خيارًا اقتصاديًا بل قدرًا ثقافيًا. والمطلوب بالعكس: إعادة تعريف “المصلحة العامة” بوصفها قيمة قابلة للقياس—في النقل والتعليم والصحة والمعلومة العمومية—لا شعارًا غائمًا. وتلك مهمة إعلام عمومي مهني، ومؤسسات رقابة مستقلة، وقضاءٍ مُحصّن، ومجتمع مدني لا يقايض استقلاله بالتمويل ولا بالاقتراب من السلطة.
دولة اجتماعية تُقاوم الفساد: من التشخيص إلى الأدوات
لن تُقنع أي رؤية إنقاذية الناس ما لم تضع يدها على العطب الذي يعرفه الجميع: الفساد والاحتكار وتسييل النفوذ. الفساد ليس مجرد رشى صغرى في مسارات الإدارة؛ هو قبل ذلك شبكة مصالح تمتد من الصفقات العمومية إلى التوريد، ومن استغلال النفوذ إلى اقتصاد الظل. ومواجهته لا تكون بمداهمات استعراضية، بل بحزمة أدوات متناسقة: شفافية كاملة في الشراء العمومي من أول عتبة، مسالك رقمية إلزامية لكل تراخيص الدولة وخدماتها، تدقيقٌ دوري معلن للحسابات الكبرى، توسعة صلاحيات هيئات المنافسة ومنع الاحتكار، وتتبعٌ عملي لتمويلات الأحزاب والجمعيات واللوبيات.
الدولة الاجتماعية ليست دولة إنفاقٍ اعتباطي؛ هي دولة ترتيبٍ صارم للأولويات. تنفق حيث يولّد الإنفاق قيمة اجتماعية واقتصادية مضاعفة: في التعليم المبكر، في ربط الجهات، في تحفيز الأنشطة الخضراء والرقمية ذات الكثافة التشغيلية المعقولة. وتقلص الهدر حيث يلتهم الهدرُ القدرةَ على الاستثمار: دعمٌ ذكي موجهٌ للفئات الهشة لا يُبعثر الموارد، جبايةٌ عادلة توسع القاعدة وتحارب التهرب بدل أن ترهق القائمين بالواجب، وإدارةٌ تُكافأ على النتائج لا على الولاءات.
كما أن استعادة الثقة تقتضي أن ترى الطبقات الوسطى أثر الضرائب في جودة الحياة، وأن تلمس الفئات الأضعف أثر السياسات في كلفة المعيشة وفرص الشغل. هنا يفقد الشعبوية سحرها لأن المواطن يقيس لا يسمع فقط. وهنا أيضًا يُعاد الاعتبار للمبادرة الخاصة—في إطار قواعد عادلة—بوصفها رافعة للنمو وليست بابًا للريع.
نحو تعاقد وطني للإنقاذ: خريطة طريق عملية
يحتاج الانتقال من التشخيص إلى الفعل إلى خريطة طريق واضحة، محددة زمنيًا، قابلة للتقييم. يمكن اقتراح مسارات متوازية:
1. إعلان مبادئ جمهوري اجتماعي: وثيقة قصيرة، دقيقة، تُقرّ بسيادة القانون واستقلال القضاء وحرية التنظيم والتعبير، وتضع العدالة الاجتماعية هدفًا ملزمًا لا وصفة اختيارية. توقعها القوى السياسية والنقابية والمدنية الملتزمة بالديمقراطية.
2. حكومة إنقاذ ببرنامج ومدة: فريقٌ مُصغّر بكفاءاتٍ غير متورطة في شبكات المصالح، بصلاحيات محددة ومدة زمنية معلومة، يحاسبها برلمانٌ منتخب أو هيئة رقابية توافقية إذا تعذّر الحلّ السياسي السريع.
3. حزمة اجتماعية عاجلة: حماية القدرة الشرائية عبر أدوات مؤقتة ذكية، دعمٌ موجه للنقل والغذاء والدواء، وتمويلٌ سريع للمؤسسات الصغرى والمتوسطة بشروط تُحفز الحفاظ على الشغل.
4. إصلاح انتخابي متوازن: يدمج التمثيل المحلي بالتمثيل البرنامجي، ويمنع تشظي المشهد من دون إقصاء؛ مع سقوف صارمة للتمويل الانتخابي ورقابة لحظية شفافة.
5. رقمنة الدولة والعدالة المفتوحة: مسارات موحدة للتراخيص، بوابات دفع رقمية، نشرٌ فوري لكل العقود العمومية، ومحاكم متخصصة في الجرائم الاقتصادية تعمل بآجال معقولة.
6. جهوية فاعلة: نقلٌ تدريجي للصلاحيات والموارد إلى الجهات وفق عقود أداء، مع آليات مواطِنة للمحاسبة العلنية.
7. تعاقد ضريبي عادل: تخفيض العبء على العمل والإنتاج ورفع الكلفة على الريع والاحتكار والتلوث، مع تبسيط الإجراءات وتثبيت اليقين الجبائي.
8. إستراتيجية إعلام عمومي ومعرفة: دعمُ صحافة التحقيق، وتحصين حق النفاذ إلى المعلومة، وربط الجامعات والبحث العلمي بحاجات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
هذه الخطة ليست برنامج حكومة فقط؛ إنها خريطة طريق لمجتمع يريد أن يستعيد زمام مصيره. وعندما تتحول إلى ثقافة مؤسسات، يصبح تغيير الأشخاص تفصيلاً لا يحرّك الأساس.
---
إن معركة “المواطنة ضد الرعوية” ليست نزاعًا لغويًا بل تحديدًا لطبيعة الدولة التي نريدها: دولةٌ تحرس الحرية بالعدالة، وتضمن السيادة بالإنتاج والمعرفة، وتوزع الأعباء والمكاسب بإنصاف. لا مكان فيها لاحتكار السياسة باسم الدين أو الحداثة، ولا لاحتكار السوق باسم الحرية الاقتصادية. فالديمقراطية الاجتماعية ليست وسطًا حسابيًا بين نقيضين؛ إنها فلسفة حكمٍ تُدخِل الكرامة في قلب السياسات العامة.
قد يقول قائل: طموحٌ كبير في زمنٍ صعب. نعم، لكنه طموحٌ ضروري يفتح نافذةً في جدار السأم. فلنبدأ من الممكن المتاح: بناء كتلة تاريخية على قاعدة أخلاقية-مؤسساتية واضحة، ترجمةُ الشعار إلى قانونٍ وممارسة، وإعادة الاعتبار لفكرة الجمهورية الاجتماعية مشروعًا جامعًا يلتئم حوله المختلفون. عندها يصبح الشعار القديم جديدًا بمعناه ووسائله: مواطنون لا رعايا—لا بوصفه هتافًا في الساحات، بل عقدًا يلتزم به الجميع ويحاسَبون عليه.
وعندما ينهض العقد، تعود السياسة فنًا للتفكير في المستقبل لا تكرارًا لماضٍ مُجهد؛ ويغدو الخروج من النفق الممكن الواقعي، لا معجزةً تنتظرها الأقدار. هكذا فقط تُستعاد الثقة: أن يرى الناس الدولة وهي تتحول من سلطةٍ فوقهم إلى مؤسساتٍ بينهم ولأجلهم، وأن يدرك الفاعلون السياسيون أن الشرعية تُبنى كل يوم، وأنها لا تُشترى ولا تُورَّث.
في الخلاصة، ليس المطلوب أن نتوافق على كل شيء، بل أن نختلف داخل قواعد عادلة. وليس المطلوب أن نلغي تناقضات المجتمع، بل أن نُحسن إدارتها بمؤسسات قوية ومواطنة يقظة. ذلك هو الأفق الذي يليق بتونس: جمهورية اجتماعية حديثة، ينهض فيها الإنسان—فردًا وجماعةً—مركزًا للسياسات لا ذيلًا لها. وعند هذا الأفق، تستقيم المعادلة وتستأنف الدولة رسالتها: خدمةُ المجتمع لا تسلّمه، وتمكينُ المواطنين لا استتباعهم. بهذه الطريق يُولد الممكن من قلب العسير، ويتقدم التاريخ حين تتقدم الإرادة.
#البشير_عبيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟