مسعد عربيد
الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 22:47
المحور:
القضية الفلسطينية
متابعة إرث ثيودور هرتسل
ثانيًا: الجوانب التنظيمية
مأسسة الجهود الصهيونية وتأطيرها
المؤتمر الصهيوني الأول (التأسيسي)
(بازل – سويسرا 1897)
مقدمة
"لو طُلب مني تلخيص مؤتمر بازل في كلمة واحدة، لكانت: في بازل أسست الدولة اليهودية"
ثيودور هرتسل (مذكرات هرتسل)
"نريد أن نضع حجر الأساس للبيت الذي سيصبح ملجأ للأمة اليهودية. الصهيونية هي العودة إلى اليهودية حتى قبل العودة إلى أرض إسرائيل"
ثيودور هرتسل (المؤتمر الصهيوني الأول 1897)
المشروع الاستيطاني: من فكرة ... إلى مؤسسات
صحيح أن هرتسل لم يُنشئ فكرة "قومية يهودية"، أو الحركة التي تنادي بها وبالعودة إلى "أرض إسرائيل". فقد سبقه في ذلك كثيرون؛ ولكنه كان أول من طرح فكرة تأسيس "وطن قومي لليهود"، وهيأ لها الأطر والمؤسسات التنظيمية، ونقلها من فكرة عامة إلى خطة عملية منظمة.
لقد أدَّى هرتسل دورًا محوريُا وتأسيسيّا في الحركة الصهيونية. فبعد أن طرح تصوره لحل المسألة اليهودية وإقامة "دولة اليهود"، وتحديد الأطر النظرية والتنظيمية لتحقيقها، تقدّم هرتسل إلى الخطوة التالية: تأسيس الأداة التنظيمية لتحقيق هذا الهدف. ومن أجل التمهيد لجمع القوى اليهودية خطط هرتسل لعقد أول مؤتمر صهيوني في عام 1897، وأسس صحيفة صهيونية باسم "دي فيلت" (العالم) في فيينا - النمسا، التي أصبحت الوسيلة الإعلامية الرئيسة للحركة الصهيونية. وقد موَّل هرتسل هذه الصحيفة من راتبه الصحافي، وكذلك تحمَّل كلفة رحلاته بنفسه.
تنظيم الجهود: تأسيس "المنظمة الصهيونية"
تركزت جهود هرتسل منذ ذلك الحين على توحيد الجمعيات الصهيونية تمهيدا لعقد المؤتمر الصهيوني الأول، وتأسيس المنظمة الصهيونية إطارًا يضم كل اليهود الذين يقبلون بقراراتها، وهيئة رسمية تجمع القوى والقيادات اليهودية وتمثلها في مساعيها ومفاوضاتها مع الدول الاستعمارية الرئيسة من أجل كسب دعمها لمشروعه. وقد تجسَّد هذا في برنامج ذلك المؤتمر - برنامج بازل. ويمكننا القول إنه، دون مأسسة المشروع الاستيطاني في إطار هذه الحركة، لما كان لهذا المشروع أن يتحقق.
اتخذت الحركة الصهيونية عند تأسيسها في مؤتمر بازل عام 1897 تحت قيادة هرتسل، اسم "المنظمة الصهيونية"، ثم عُدِّل اسمها إلى "المنظمة الصهيونية العالمية" عام 1960.
كان مؤتمر بازل نقطة تحول في تاريخ الصهيونية. وللدلالة على أهميته، كتب هرتسل في مذكراته بتاريخ الثالث من أيلول/سبتمبر 1897، أي بعد أيام من انتهاء أعمال المؤتمر: "لو طُلب تلخيص مؤتمر بازل في كلمة واحدة، وكان عليّ تلفظها بصوت منخفض، لكانت هي: في بازل أسست الدولة اليهودية، ولو قلت ذلك بصوت عال لضحك مني الجميع، ولكن ربما في خمس سنوات على وجه التقريب، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد، سيعلم كل واحد بالأمر" .
تاريخ عقد المؤتمر: عُقد المؤتمر في المدة 29 – 31 آب/ أغسطس 1897.
مكان المؤتمر: مدينة بازل في سويسرا، في صالة الاحتفالات التابعة لبلدية مدينة بازل.
كان هرتسل قد اقترح عقد المؤتمر في ميونيخ - ألمانيا، ولكن الجمعية اليهودية في تلك المدينة رفضت ذلك (الذين كانوا في الغالب مندمجين) فاستقر الرأي على مدينة بازل.
قيادة المؤتمر: دعا هرتسل إلى هذا المؤتمر وأعدّ برنامجه وترأس أعماله، وانتُخِب رئيسًا له، وشغل هذا المنصب حتى وفاته في عام 1904.
وإلى جانب هرتسل أدى الزعيم الصهيوني ماكس نورداو دورًا بارزًا في إدارة أعمال المؤتمر، وكان من أشد مؤيدي هرتسل، وألقى خطابًا يُعد الأكثر أهمية بعد خطاب هرتسل في ذلك المؤتمر، وصف فيه محنة اليهود في الشرق والغرب.
صمم ماكس بودنهايمر الزعيم الصهيوني الألماني شارة المؤتمر، وهي درع أزرق ذو حواف حمراء كُتبت عليه عبارة: "تأسيس الدولة اليهودية هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية"، وفي وسطه أسد يهودا، وحوله نجمة داود واثنتا عشرة نجمة إشارة إلى أسباط إسرائيل.
وقد أصدر هرتسل طبعة خاصة من مجلته "دي فيلت" لنشر أعمال المؤتمر .
تركيبة المؤتمر
المشاركون في المؤتمر
تتفاوت التقديرات بشأن عدد المشاركين في ذلك المؤتمر، فقد كان من الصعب تحديد مَنْ حضر بصفة مراقب ومَنْ حضر بصفة مندوب، ولكن أغلب المراجع تشير إلى أن عددهم كان بين 200 إلى 250 مندوبًا، مثّلوا التجمعات اليهودية المختلفة في خمسة عشر بلدًا هي: روسيا، والمانيا والنمسا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا وهو لندا وبلجيكا وسويسرا وفرنسا والسويد وانجلترا والولايات المتحدة الاميركية والجزائر وفلسطين.
كان معظم المشاركين في المؤتمر من أوروبا الوسطى والشرقية، وروسيا، إلى جانب عدد قليل من أوروبا الغربية، والولايات المتحدة. بلغ عدد المندوبين من الإمبراطورية الروسية حوالي ربع الحاضرين، وكثيرون من الذين قدموا من الغرب كانوا من أصل أوروبي شرقي . حضر المؤتمر أيضًا مئات من المراقبين، بمن فيهم مراسلو الصحافة العالمية، وبعض المسيحيين المتعاطفين مع الصهيونية من بينهم وليام هيشلر القسيس البروتستانتي الداعم للمشروع الصهيوني والصديق المقرّب لهرتسل.
أما من ناحية المنبت الطبقي، فقد مثلّ المشاركون الطبقات الاجتماعية والمشارب الفكرية اليهودية المختلفة. فقد كان معظم المندوبين من أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة، ورجال الأعمال والصناعة، والأدباء، والمهنيين، والطلبة، ومهن أخرى.
ومن ناحية الانتماء الديني، كان بين المشاركين المتدينون من اليهود الأرثوذكس، والملحدون، وكان هناك (11) حاخامًا وبعض الاشتراكيين .
أبرز قرارات المؤتمر: برنامج بازل
أصدر المؤتمر قرارات عُرفت فيما بعد باسم "برنامج بازل" الذي أصبح بمنزلة الوثيقة النظرية والعملية للمنظمة الصهيونية حتى انعقاد المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين عام 1950 أي بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948.
حدَّد برنامج بازل هدف المنظمة الصهيونية في "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين". وانتُخب هرتسل أول رئيس لها. ونص أهم قراراته على:” تسعى الصهيونية إلى إقامة وطن لليهود في أرض إسرائيل، معترف به وفقًا للقانون العام، ولتحقيق هذا الهدف يتخذ المؤتمر إجراءات عدة، أولها، تطوير أرض إسرائيل، بشكل منظم بواسطة توطينها باليهود المزارعين والحرفيين والمهتمين" .
وكان من أبرز قرارات هذا المؤتمر انشاء الأداة التنفيذية لهذا البرنامج. وعلى هذا الصعيد اعتمدت الحركة آليات ثلاث في تعزيز أنشطتها:
- التنظيم
- الاستيطان
- والدبلوماسية
وضع المؤتمر، لتحقيق أهدافه، تصورًا للوسائل التنفيذية أهمها:
1- تعزيز استقرار المزارعين والحرفيين والتجار اليهود في فلسطين.
2- تنظيم اليهودية العالمية: تنظيم وتوحيد جميع اليهود بواسطة فعاليات محلية وعالمية، وفقًا لقوانين البلدان المختلفة.
3- تقوية الشعور اليهودي والوعي القومي.
4- اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على الموافقة الحكومية اللازمة لتحقيق الهدف الصهيوني.
اتسع نشاط المنظمة الصهيونية في السنوات التي تلت مؤتمرها التأسيسي، وكي يتَسنَّى لها تنفيذ مخططها الاستيطاني، عمدت إلى إنشاء عدد من المؤسسات التي انبثقت من قرارات برنامج بازل، وحولت الفكرة الصهيونية إلى مشروع استيطاني ممنهج.
كانت المؤسسات المالية من أهم المؤسسات الداعمة للمشروع الاستيطاني الصهيوني، ومن أبرزها:
□ "البنك الكولونيالي اليهودي": تأسس عام 1899 ويُسمى أيضًا صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار) Jewish Colonial Trust) (Jüdische Kolonialbank) (. وسُجل في لندن شركةً مساهمة.
كان الغرض من تأسيس هذا المصرف تمويل النشاطات الصهيونية الاستيطانية في فلسطين، وتدبير الموارد المالية التي تحتاج إليها بهدف تشجيع الاستيطان، ودعم المستوطنات الصهيونية القائمة في فلسطين آنذاك، وتشجيع الأعمال الصناعية والزراعية والبناء والبنية التحتية تمهيدًا لإقامة الكيان الصهيوني.
وفي 27 شباط/فبراير 1902 تأسست في يافا الشركة الإنكليزية الفلسطينية المنبثقة من "البنك الكولونيالي اليهودي"، وهي ما يُسمى اليوم بَنْك لِئُومِي (معناه بالعبرية البنك الوطني) الذي يُعد أكبر بنك في الكيان الصهيوني.
جدير بالذكر هنا، أن فكرة تأسيس هذا المصرف تعود إلى كتاب هرتسل "دولة اليهود" الذي تضمن رؤيته في إنشاء دولة يهودية إلى ما أسماه "الشركة اليهودية" التي تتولى تنفيذه.
□ "الصندوق القومي اليهودي" (الكيرن كييمت) - الذراع المالي للمنظمة الصهيونية. أُسِس في العام 1901 بهدف توفير الأموال اللازمة لشراء الأراضي في فلسطين و"توطين" المستوطنين الصهاينة فيها. وقد نص النظام الأساسي لهذا الصندوق على اعتبار الأراضي التي يشتريها "ملكية أبدية للشعب اليهودي" لا يجوز بيعها ولا التصرف فيها.
وقد أدى هذا الصندوق بالتعاون مع البنك الكولونيالي اليهودي دورًا كبيرًا في تعزيز أنشطة "شركة تطوير أراضي فلسطين المحدودة".
دور هرتسل في خلق الكيان الصهيوني
كان قيام الكيان الصهيوني عام 1948 نتاجًا لعوامل وقوى سياسية وتاريخية عدة، بما في ذلك الجهود الصهيونية على مدى ما يزيد عن نصف قرن، وعوامل أخرى غير صهيونية أو يهودية كان من أهمها دعم ورعاية القوى الإمبريالية الغربية، وما شهده العالم من تطورات سياسية وتاريخية عاصفة بين حربين عالميتين. غير أن الفضل في تنظيم القوى السياسية اليهودية يعود إلى هرتسل الذي استطاع توحيد جهود التجمعات اليهودية في إطار الصهيونية السياسية (المنظمة الصهيونية) وتوظيفها في خدمة المشروع الاستيطاني الصهيوني، والتحالف مع القوى الإمبريالية الغربية، وتسخير التطورات السياسية والتاريخية العالمية في خدمة ذلك المشروع.
معارضة مشروع هرتسل
واجهت أطروحات هرتسل معارضة بعض الزعماء اليهود، وخصوصًا اليهود المندمجين الذين استشعروا في أفكاره تهديدًا لمحاولاتهم الاندماجية في المجتمعات الأوروبية. ومع ذلك، لقيت أفكاره قبولًا في التجمعات اليهودية الأوروبية مثل جمعية أحباء صهيون، وأثارت حماسة بعض اليهود وأيقظت فيهم "الوعي القومي" كما يرى يعض المؤرخين، واجتذبت اهتمام القوى الكبرى في عصره (ألمانيا، الدولة العثمانية، بريطانيا) التي عثرت فيها على وسيلة لتحقيق أطماعها الاستعمارية في المشرق العربي.
ثالثًا: المساعي الدبلوماسية
أجرى هرتسل، انطلاقًا من إدراكه أن قوة المشروع لا تكمن في المنظمة الصهيونية، بل في التحالف مع الدول الإمبريالية الراعية له، اتصالات دبلوماسية مع أهم هذه الدول في عصره للحصول على دعمها لمشروعه الاستيطاني. وقد أفردنا سابقًا فصلًا خاصًّا لعرض مساعي هرتسل الدبلوماسية.
خصَّص هرتسل السنوات التسع الأخيرة من حياته (1895 – 1904) لخدمة مشروعه الاستيطاني. ومع أنه ظلّ محرِرًا أدبيًا في صحيفة "نوى فراي برس" لكسب عيشه، إلاّ أنه أسس عام 1897 صحيفة صهيونية أسبوعية باسم "دي فيلت"، التي كانت تصدر باللغة الألمانية في فيينا من أجل الترويج لمشروعه.
بدأ هرتسل في مساعيه الدبلوماسية من ألمانيا حيث قابل الإمبراطور الألماني فيلهم الثاني في مناسبات عدة. وحضر مؤتمر السلام في لاهاي (1899)، والتقى بعدد من قادة الدول. بعد ذلك، انتقل هرتسل إلى محاولة التفاوض مع السلطان العثمان لمنحه ميثاقًا يسمح باستيطان اليهود في فلسطين، وإن من دون جدوى، وصولًا إلى تركيز جهوده على بريطانيا التي رأت في مشروعه وسيلة استعمارية لحل "المسألة اليهودية"، وبدت مؤيدة لإقامة مستوطنة يهودية في أراضي المستعمرات البريطانية، مثل قبرص، والعريش – سيناء، وأوغندا، لكن لم يُكتب النجاح لأي منها.
#مسعد_عربيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟