|
|
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحلقة الثانية والثلاثون
مسعد عربيد
الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 10:02
المحور:
القضية الفلسطينية
إرث ثيودور هرتسل الصهيونية: من فكرة ... إلى مشروع استيطاني
يُعرّف ثيودور هرتسل بأنه مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة والأب المؤسس لرؤية "الدولة اليهودية". وقد تجلى دوره الرئيس في:
□ صياغة رؤية صهيونية: تطرح فهمًا جديدًا لأوضاع اليهود في ذلك العصر، وحلًا لمشاكل اليهود يقوم على تنظيم الهجرة اليهودية لاستيطان فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها برعاية تحالف الإمبريالية الغربية. وقد قدّم هرتسل في كتاباته وخطاباته، رؤية مفصلة لدولة يهودية حديثة. وفي هذا الصدد يبرز كتابان أساسيان في شرح هذه الرؤية: (1) كتاب "دولة اليهود" الصادر عام 1896، (2) ورواية "الأرض القديمة الجديدة"Altneuland) ) التي نُشرت عام 1902 وفيها يصف هرتسل رؤيته لدولة يهودية مستقبلية في فلسطين ومجتمع يهودي حديث يجمع بين التقاليد والتكنولوجيا الحديثة.
□ تنظيم الحركة الصهيونية: الدعوة إلى حركة سياسية منظمة وتأـسيسها بهدف تنظيم المشروع الاستيطاني الصهيوني وإقامة وطن يهودي ذي سيادة حلًا لمعاداة السامية الأوروبية. وقد نظّم هرتسل عقد المؤتمر الصهيوني الأول (التأسيسي) في بازل - سويسرا، في أغسطس 1897، الذي كان البداية الرسمية للحركة الصهيونية السياسية، وشغل هرتسل منصب أول رئيس لها حتى وفاته.
□ إنشاء المؤسسات الصهيونية الرئيسية: وإلى جانب ذلك أدى دورًا فعالًا في إنشاء الأدوات المالية اللازمة للحركة، مثل الصندوق القومي اليهودي (JNF)، الذي أُنشئ لتمويل الاستيطان وشراء (سرقة) الأراضي في فلسطين.
□ الجهود الدبلوماسية: انخرط هرتسل في مفاوضات دبلوماسية مع حكومات الدول الكبرى في عصره، بمن فيهم الإمبراطور الألماني، والسلطان العثماني، والمسؤولين البريطانيين، للحصول على دعم مشروعه وضمان الاعتراف الدولي ب “الوطن اليهودي" في فلسطين. ومع أن وفاته كانت عام 1904، أي قبل عقود من تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، إلا أن رؤيته وإطاره التنظيمي كانا محوريًيْن في وضع الأساس لإنشاء هذا الكيان. ▪️▪️▪️ نناقش في هذه الحلقة إرث ثيودور هرتسل وأبرز إسهاماته في المشروع الصهيوني الاستيطاني، التي تتجلي في المجالات التالية: • تميّز هرتسل عن سابقيه، وعوامل نجاحه • الجوانب الفكرية والسياسية في مشروعه • الجوانب التنظيمية: مأسسة الحركة الصهيونية في أطر ومؤسسات • المساعي الدبلوماسية للحصول على دعم القوى السياسية الكبرى في عصره (ألمانيا، الدولة العثمانية، بريطانيا، وغيرها). ونعرض في ما يلي تفاصيل مساهمات هرتسل في هذه المجالات:
أولًا: تميز هرتسل عن سابقيه وعوامل نجاحه
من المعروف أن هرتسل لم يكن أول من طرح الفكرة الصهيونية لحل مشاكل اليهود في أوروبا، وتجميعهم في أرض يقيمون عليها دولتهم. فقد سبقه في ذلك عدد من المفكرين والكتاب ودعاة الصهيونية. غير أن هرتسل تميّز عمَن سبقوه: - في أنه قدّم مقاربة مختلفة لفهم أوضاع التجمعات اليهودية في أوروبا الشرقية والغربية؛ ودعا إلى توحيد هذه الجهود في إطار مشروع سياسي واحد. - وفي ابتكار حلٍ للمسألة اليهودية عن طريق تنظيم الهجرة اليهودية في إطار مشروع استيطاني منظم تحت رعاية القوى الإمبريالية الغربية، مؤكدًا قناعته بحتمية التحالف مع هذه القوى. - تنظيم المشروع الصهيوني في أطر ومؤسسات وظيفتها تمويل المشروع ودعمه. - طرح مشروعه على الإعلام والرأي العام الدولي (الغربي) واستثماره لكسب التعاطف مع الصهيونية. - بكلماتٍ أخرى، نقل هرتسل الصهيونية من حلٍ مُتَخيل إلى خطة عملية قابلة للتنفيذ. - كان من عوامل تميّز هرتسل ونجاحه صياغة خطاب مرن وبراغماتي وقادر على التعامل مع الأطراف والقيادات اليهودية، والقوى الغربية، بلغة تنسجم مع أهداف كلٍ منها وتلبية مصالحها. - المثابرة: ينسب بعض مؤرخي الحركة الصهيونية نجاح هرتسل إلى مثابرته ووقف جهوده في السنوات التسع الأخيرة من حياته لتنظيم وتأطير الحركة الصهيونية، وتوجيه مساعيه بثبات نحو تحقيق المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.
ثانيًا: الجوانب الفكرية والسياسية في مشروعه
1- تحليل هرتسل لأوضاع التجمعات اليهودية في أوروبا: مقاربة جديدة
ازداد انشغال هرتسل بأوضاع اليهود الاجتماعية والسياسية في أوروبا، ربما بفضل عمله الصحافي. وأخذ يبدي اهتماما بالمسألة اليهودية منذ عامي 1882-1883، في سياق الاضطهاد الذي واجهه يهود أوروبا الشرقية وخصوصًا في الإمبراطورية الروسية. ومع حلول تسعينيات القرن التاسع عشر، شاهد هرتسل تصاعد معاداة اليهود (ما يُسمى معاداة السامية) في فرنسا والنمسا، ما زاد من انشغاله بهذه المسألة والبحث عن حلٍ لها. لاحظ هرتسل في معاينته لأوضاع اليهود في أوروبا الشرقية والغربية مفارقة لافتة في تمايز هذه الأوضاع في حالتين متفاوتتين بل متناقضتين:
أ- يهود اليديشية الاستيطانيون: الذين يدعون إلى استيطان فلسطين بوصفها "أرض إسرائيل" الموعودة "للشعب المختار"(جمعيات أحباء صهيون مثالاً)، حلًا لاضطهاد اليهود في أوروبا الشرقية (خصوصًا في روسيا وبولندا). وفي هذا السياق، رفض هرتسل الهجرة اليهودية في أسلوبها التسللي إلى فلسطين (وتُسمى أيضًا الصهيونية التوطينية)، وبدلًا من ذلك دعا إلى تنظيم هذه الهجرة في إطار مشروع استيطاني برعاية ودعم القوى الغربية والتحالف معها.
ب- يهود الغرب المندمجون: الذين كانوا قد أحرزوا خطوات متقدمة في الاندماج في تلك المجتمعات. وقد رفض هرتسل محاولات الاندماج هذه، ورأى أن اليهود لن يتمكنوا من الاندماج في أوروبا بسبب معاداة السامية، بل إن الحل يكمن في الخروج من أوروبا وإنشاء دولة يهودية برعاية الإمبريالية الغربية تكون لها قاعدة متقدمة. جدير بالذكر هنا أن هرتسل ارتد عن أفكاره المبكرة عن تحرر اليهود واندماجهم (استيعابهم) في المجتمعات الأوروبية. إذ إنه بات مقتنعًا بأنه لا يمكن التغلب على معاداة السامية. فأخذ يدعو اليهود إلى مغادرة أوروبا، لأن الحل الوحيد لمعاداة السامية هو تجنبها وذلك عن طريق مغادرة أوروبا وإنشاء دولة يهودية حيث يتمكن اليهود من التعبير بحرية عن ثقافتهم وممارسة دينهم.
في كلتا الحالتين، رأى هرتسل انسداد آفاق حل المسألة اليهودية، وأضحى مقتنعًا بأن الرد على معاداة السامية ليس بالاندماج ولا بالهجرة اليهودية التسللية، وخلص إلى أن اليهود بحاجة إلى رؤية بديلة وقيادة قادرة على ابتكار حلٍ يعالج تلك الأوضاع وينظم الجهود الصهيونية. على هذا الأساس انطلق هرتسل في تطوير الفكرة الصهيونية والمشروع الاستيطاني الصهيوني، مستخدمًا خطابًا مرنًا مدركًا أن نجاح هذا المشروع يتطلب اقناع كافة التجمعات اليهودية كافة برفض كلًا من الاندماج والهجرة الاستيطانية كي يمهد الطريق لمشروع الدولة اليهودية.
2- هرتسل واللاسامية ... ومعاداة اليهود
بداية لا بدّ من الإشارة إلى ضرورة التدقيق في بعض المصطلحات: فمصطلح "المسألة اليهودية" يشير إلى ظاهرة أوروبية تنظر إلى وجود اليهود في المجتمعات الأوروبية على أنه مشكلة؛ أمّا "معاداة اليهود" فهي ممارسات تأخذ أنماطًا مختلفة من العداء والتمييز والتحيز والكراهية والاضطهاد الموجه إلى اليهود. وقد أصبحت "اللاسامية" المصطلح الدارج والأكثر استعمالًا خصوصًا في الخطاب الغربي لوصف المواقف السلبية والمعادية نحو اليهود. ونشهد اليوم في عدد من الدول الغربية، كيف يُلصق هذا المصطلح تهمةً لكل جهد يؤازر القضية الفلسطينية أو يكشف عن جرائم وسياسات الاحتلال الصهيوني. وبالعودة إلى هرتسل، فإن نظرته إلى معاداة السامية كانت غير مسبوقة بين يهود جيله، إذ جعلها قوةً إيجابية في معركة تحقيق المساواة لليهود. وأشار إلى أن معاداة السامية لم تكن مشكلة لليهود فحسب، بل كانت تُزعزع استقرار أوروبا أيضًا. وكان أول من أعلن أن اليهود يشتركون في وضع يؤثر فيهم جميعًا، وأن هذا الوضع يسبِّب خطرًا دائمًا على الأقليات في كل مكان. ورأى هرتسل "... أن حتى المعادين للسامية أناس عقلانيون يسعون إلى النظام في مجتمعاتهم، وأن مساعدة اليهود على أن يصبحوا أشخاصًا عاديين في دولة خاصة بهم من شأنها أن تزيل سبب الانفجارات المعادية للسامية" . وهكذا، أصبحت معاداة السامية، في تخيّل هرتسل، العامل الموحّد للتجمعات اليهودية، والضامن لمساعدة العالم لليهود على تحقيق حياتهم الطبيعية. خلاصة القول إن هرتسل أدرك، أكثر ممن سبقوه، أن معاداة السامية مشكلة أوروبية - عالمية، وأن حماية اليهود منها لا يمكن أن تتحقق إلا إذا بادرت قوى العالم إلى إيجاد حل لها. وبناءً عليه، فإن إقامة دولة لليهود لم تعد حاجة يهودية فحسب؛ بل إن قوى العالم بحاجة إلى هذه الدولة لمصالحها الخاصة، لأنها ستزيل سببًا رئيسيًا للتوتر في مجتمعاتها في هذا الصدد، يجوز لنا القول إن هرتسل تمكّن من إقناع اليهود والرأي العام الغربي والقوى الاستعمارية الغربية، بأنْ لا حل للمسألة اليهودية ولمعاداة اليهود دون وطن قومي لليهود، ومن مصلحتها دعم هذا الحل. ولمَّا كان "تأسيس دولة هرتسل اليهودية لم يَقضِ على معاداة السامية، كما يقول ناتان شارانسكي؛ إلا أن هرتسل غيّر هوية الشعب اليهودي جذريًا. فقد أصبحت إسرائيل مصدر قوة ليهود العالم، وأصبح التماهي مع الدولة اليهودية سلاحًا فعالًا للغاية في مكافحة معاداة السامية" .
3- هرتسل والمسألة اليهودية
رأى هرتسل أن المسألة اليهودية ليست قضية اجتماعية ولا دينية، مع أنها تتخذ أحيانًا مثل هذه الأبعاد، وغيرها. فهي: (1) قضية "قومية" تتطلب "حلًا قوميًا" يتجسد في إقامة "وطن قومي يهودي" في فلسطين، (2) وأنها مشكلة سياسية دولية تتطلب حلًا دوليًا، وذلك بالتحالف بين الحركة الصهيونية والقوى الأوروبية الاستعمارية وكسب دعمها للمشروع الصهيوني. على هذه الركيزة طرح هرتسل رؤيته لصهيونية جديدة ومختلفة عمّا سبقها. ويرى كثيرون أنه ربما كان الزعيم اليهودي الوحيد الذي فهم مسألة اللاسامية مبكرًا، ورأى فيها تهديدًا وخطرًا على اليهود قبل نصف قرن من المحرقة النازية.
4 - هرتسل والقومية والثقافة اليهوديتان
أ - “اليهود شعب عضوي"
كما ذكرنا سابقًا، تقوم رؤية هرتسل حيال المسألة اليهودية على ركيزتيْن أساسيتين: الأولى، أن المسألة اليهودية ليست دينية ولا اجتماعية بل سياسية قومية، والثانية، أن حل هذه المعضلة يقوم على التحالف مع القوى الإمبريالية الغربية. تستدعي هذه الرؤية، من أجل تنفيذها، فهمًا أوروبيًا مختلفًا لليهود وهويتهم، وهو ما صاغه هرتسل في فكرة "القومية العضوية" و"اليهود شعب عضوي"، التي على أساسها ينبغي لأوروبا أن تفهم اليهود. بعبارة أخرى، سيكون على الأوروبيين والقوى الإمبريالية الغربية (المجتمعات والحكومات) أن يغيّروا نظرتهم إلى اليهود وأن يعدُّوهم "شعبًا عضويًا" لا "شعبًا منبوذًا". وعليه، ينبغي أنْ يكون لهذا الشعب دولته ما يتيح له أن يتحول إلى عنصر نافع لأنفسهم (أي لليهود)، وكذلك "للحضارة الغربية"، لأن اليهود متحالفين مع "الحضارة الغربية"* والإمبريالية الغربية، ويكون كيانهم المنشود قاعدة لها .
ب - نقد أطروحة هرتسل بشأن “القومية اليهودية"
واجه هرتسل معارضة شديدة لأنه، من وجهة نظر ناقديه، لم يعر اهتمامًا كافيّا لمسألة الهوية والثقافة اليهوديتين، وأن أطروحته ركّزت على تحسين الظروف الاجتماعية والسياسية والمعيشية لليهود. ومن أبرز هؤلاء الناقدين كان "أحد هعام"**، زعيم الصهيونية الثقافية، الذي كان يعتقد أن الجهد الصهيوني يجب أن يُخصص لإحياء اليهودية وإنشاء مركز للروحانية اليهودية (أنظر الهامش في نهاية النص). أمّا مؤيدو هرتسل فقد رأوا أنه، على عكس ذلك، كان مهتمًا بهذه المسألة، وبما يؤكد أن همه الرئيس كان تخفيف معاناة اليهود، وأن مستقبل الهوية والثقافة اليهودية يخضع لهذا الهدف. فمن وجهة نظرهم، لم يغفل هرتسل الثقافة اليهودية، بل قدّم نهجًا محافظًا لهذه الثقافة التي ستميّز الدولة الجديدة . - مؤكدًا تأثير الدور المحوري للهوية اليهودية الكلاسيكية في الهوية الوطنية "للشعب اليهودي"، ولذلك سعى إلى الحفاظ على الثقافة اليهودية؛ - وكان يعتقد أنَّ من "داخل المزيج الغني للثقافات اليهودية الذي يجمع بين القديم والجديد، وبين تقاليد التاريخ وتجاربه مع رؤية العصر الحديث"، ستنبثق ثقافة يهودية جديدة؛ - وإلى جانب ذلك رأى في الدين اليهودي القاسم المشترك بين جميع الجاليات اليهودية المتنوعة في الدولة المستقبلية. ويرى كثيرون من دارسي أفكار هرتسل وكتاباته، أنه في سياق مسيرته السياسية، ومساعيه لتحقيق مشروعه الصهيوني، أصبح أكثر وعيًا بأهمية الدين والثقافة اليهودية، وأنه كان يتجه نحو ارتباط عاطفي بتاريخ اليهود وتقاليدهم. ومن أقوال هرتسل في هذا الصدد:
- "وأننا سنحافظ على الماضي العزيز على قلوب شعبنا بوصفه مقدساً".
- "الصهيونية هي عودة إلى الحضن اليهودي، حتى قبل أن تصبح عودة إلى الأرض اليهودية". (هرتسل في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897). - "نحن نُعرّف أنفسنا بأننا شعبٌ انطلاقًا من ديننا" (مذكرات هرتسل). - "مجتمعنا العرقي فريد ومتميز، فلا يرتبط أحدنا بالآخر إلا بإيمان آبائنا".
ج- إشكالية التراث واللغة
كيف نظر هرتسل إلى التجمعات اليهودية القادمة من خلفيات أوروبية متنوعة، وتحمل إرثًا مختلفًا، ولا تتكلم لغةً مشتركة، وتساءَل كيف سيكون ومن معه قادرين على استيعاب آلاف المهاجرين وتأسيس دولة لهم؟ كان هرتسل مدركًا ان اليهود لن يتمكنوا في التخاطب باللغة العبرية، ولكنه وجد أن الإجابة عن هذا السؤال/المأزق تكمن في العودة إلى رؤيته لدولة تستطيع فيها هذه التجمعات المختلفة من التعبير عن تراثها وثقافتها، من جهة، وتحافظ بعناية على هويتها اليهودية المشتركة من جهة أخرى. لذا رأى أن من الممكن التغلب على هذه المشكلة بسهولة: "فكل شخص يمكنه أن يحتفظ باللغة التي تحمل أفكاره بيسر"، واللغة التي تثبت أنها أكثر نفعًا في العلاقات الاجتماعية العامة، ستكون دون إكراه لغةً قومية.
5- تطوير الخطاب الصهيوني
رفض هرتسل، كما ذكرنا سابقًا، بعض الأفكار التي سادت قبله بشأن حل المشاكل التي واجهها اليهود في شرق أوروبا وغربها. وبناءً على تصوره لهذا لحل، طوّر خطابًا صهيونيًا مرنًا ومراوغًا في كثير من الحالات، ما أتاح له التعامل مع الأطراف اليهودية وغير اليهودية كافة والتواصل معها على خلافاتها وتناقضاتها. ونذكر فيما يلي أهم الأطراف اليهودية المؤثرة في عصره، وحظي بعد تأسيس المنظمة الصهيونية، بتوحيدها وقيادتها والتحدث باسمها. - قيادات الجمعيات والمنظمات اليهودية في عصره (جمعيات أحباء صهيون وغيرها). - الإكليروس والحاخامات اليهود. - الأثرياء اليهود في أوروبا الغربية. وقد حرص هرتسل في صياغة خطابه، على نسج العلاقة بين هذه الأطراف: - فيضمن خطابه رضا اليهود الشرقيين، ولكن دون ترهيب أو تخويف يهود الغرب. - وفي العلاقة مع القوى الإمبريالية الغربية، دعا هرتسل إلى التحالف معها وكسب دعمها لمشروعه ووضعه موضع التنفيذ. بهذا المعنى، تميّز هرتسل عمَن سبقه من القادة الصهاينة، ونجح في أن يكون جسرًا (1) بين الجماعات اليهودية المختلفة، ما مهّد لتحويل الصهيونية من فكرة إلى مشروع استيطاني استعماري عملي، (2) وجسرًا بين الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية الغربية. تسنى لهرتسل بلورة أطروحاته هذه في كتابه "دولة اليهود". فهذا الكتاب ليس بحثًا نظريًا أو فكريًا فقط، بل سعى مؤلفه إلى طرح خطط عملية ولوجستية لحل المسألة اليهودية "حلاً قوميًا". وعليه، فالكتاب لم يقتصر على طرح فكرة الحل، بل تضمن خطة متكاملة تشمل آليات تنفيذية، تبدأ من تنظيم الهجرة اليهودية تحت رعاية القوى الإمبريالية الغربية، وصولًا إلى استيطان الأرض واستعمارها لإقامة الدولة المنشودة. وبالإضافة إلى الجوانب العملية لتحقيق هذا المشروع في الكتاب، فإن كثيرين يرون أن هرتسل اعتمد نهجًا جديدًا في العلاقة بين اليهود والعالم. وبهذه الطريقة، غيّر هرتسل الشعب اليهودي .
6- التحالف مع الإمبريالية الغربية
توصل هرتسل، انطلاقًا من خشيته من الخطر الذي واجهه اليهود في المجتمعات الأوروبية، وفي سعيه لحل هذه المشاكل، إلى أن هذا الحل ينبغي أن يكون خارج أوروبا. وذلك عن طريق هجرة يهودية يجري تنظيمها في إطار دولي، تتبناها وتدعمها القوى الإمبريالية الغربية. من هنا بنى هرتسل رؤيته التي قامت على حتمية التحالف بين الصهيونية والقوى الإمبريالية الغربية والاعتماد على هذه الأخيرة في تحقيق مشروعه (ما يُسمى في بعض الأدبيات ب "العقد الصامت"): - أي أن تكون الحركة الصهيونية أداة في خدمة مصالح الغرب مقابل رعايته لمشروعها الاستيطاني. وهو ما جعل هذا المشروع قابلًا للتنفيذ لاحقًا، إذ لولا هذا التحالف لما تمكنت الحركة الصهيونية من السير قدمًا في مشروعها والحصول على وعد بلفور (1917) وتأسيس الكيان الصهيوني عام 1948 وما بعده. وهي رؤية ترتكز على تلاقي مصالح هاتين القوتين: الحركة الصهيونية بوصفها ممثلة لليهود، والقوى الاستعمارية الغربية. وفي حين أن هذه العلاقة تدلل على إدراك هرتسل لدور القوى الاستعمارية الغربية في خدمة أهداف الصهيونية ومصالحها ضمانةً وضرورةً لنجاح المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين؛ فإن هذا التحالف، في المقابل، يعني وضع الحركة الصهيونية ومشروعها قاعدةً متقدمةً للقوى الإمبريالية، وخدمة المصالح السياسية والاقتصادية والجيوسياسية لهذه القوى (بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص). خلاصة القول، أن هرتسل نجح في مسعاه لاستمالة القوى الاستعمارية الغربية ويهود العالم، وإرضاء الأطراف كافة، وأنْ يجسِّد الجسر بينها.
المشروع الاستيطاني: من "مشروع خيري" إلى التحالف مع الإمبريالية
تكمن الترجمة العملية لتحالف الحركة الصهيونية مع القوى الإمبريالية الغربية، في أن هذه الحركة تحولت إلى حركة استيطانية استعمارية، وأن هذا التحول يجري بموافقة القوى الإمبريالية الغربية على المشروع الصهيوني ودعمه وصولًا إلى تأسيس "دولة يهودية" ذات سيادة وأن تكون الحكومات الغربية الضامن لسيادتها. وتشهد وقائع التاريخ وتطورات العلاقة بين هاتين القوتين، أن الموقف الغربي العام من الصهيونية قد تغيّر بعد ظهور الصهيونية الهرتسلية مشروعًا استيطانيًا استعماريًا، وأن تأييد المشروع الصهيوني ازداد بين الرأي العام الغربي، والقوى الاستعمارية، بل وبين اليهود أنفسهم.
هرتسل والرأي العام الغربي
أعار هرتسل الرأي العام العالمي، خصوصًا الغربي، أهمية خاصة، وربما كان أول مَن اكتشف دور الرأي العام في تحقيق مشروعه. وهو ما عُدَّ واحدًا من أهم عوامل نجاح هذا المشروع. ولعل قوله "إنني أرى أن الصحافة أداة ضرورية لتحقيق أهدافنا"، يعبّر عن نظرته إلى الإعلام كإحدى وسائل كسب الرأي العام اليهودي والعالمي وتحويل الحركة الصهيونية من مجرد فكرة إلى قضية سياسية دولية. وقد أكّدت مسيرة الصهيونية قبل قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وبعده، أهمية هذا العامل في دعم سياسات هذا الكيان وكسب تأييد الرأي العام. وذلك بالطبع دون أن نقلل من تناقص هذا الدعم بل تصاعد المعارضة العالمية للصهيونية والكيان الصهيوني بعد الحرب الإبادية على قطاع غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. □ انطلاقًا من إدراكه المبكر لقوة الإعلام والصحافة في تشكيل الرأي العام، وأن الإعلام أداة أساسية لكسب التأييد للقضية الصهيونية، أسس هرتسل أولى الصحف الصهيونية الناطقة بالألمانية وهي "دي تسيون" (Die Zion) عام 1897، وكانت بمثابة الصوت الإعلامي للحركة الصهيونية. □ كما أسس لاحقًا في عام 1897 صحيفة "دي فيلت" (Die Welt) كجريدة يومية مركزية ومنبر للخطاب الصهيوني بهدف نشر أفكار الحركة الصهيونية. وقد أدّت هذه الصحيفة دورًا هامًا في نشر الوعي بين الجماعات اليهودية وتعبئتها للمشروع الصهيوني، وكانت واحدة من الأدوات الإعلامية الأساسية التي استخدمها هرتسل بنجاح لإيصال رسالته لليهود والعالم، وتطوير الحركة الصهيونية وتثبيت أقدامها كقوة سياسية.
هوامش
*الحضارة الغربية: نلمح في الخطاب الهرتسلي، والخطاب الصهيوني بصفة عامة، تعدد المصطلحات دون أن يغير ذلك شيئًا في الجوهر: دول "العالم المتحضرة" أو "الأمم الغربية" أو "الأمم المتحضرة" أو "الحضارة الغربية".
**أحد هعام: (1856 - 1927) عُرف بهذا الاسم الذي يعني "واحد من الشعب"، واسمه العبري آشير تسفي غينزبيرغ. وهو صحفي وكاتب ومفكر صهيوني بارز، ويُعد مؤسس الصهيونية الثقافية (أو الروحية). دعا إلى إنشاء "مركز روحي" يهودي في "أرض إسرائيل" يساهم في إلهام الجاليات اليهودية في الشتات، وليس بالضرورة إقامة دولة سياسية فورية، ورأى أن الهدف هو "دولة يهودية وليس دولة لليهود فحسب ". انتقد أحاد هعام مشروع هرتسل وكتابه "دولة اليهود" ووصفه بإنه يفتقد إلى "الروح اليهودية" والجوانب الروحانية والثقافية. شارك في المؤتمر الصهيوني الأول إلا انه لم يرغب في أن يشارك في القيادة الصهيونية من أجل الحفاظ على حرية التعبير عن آرائه وأفكاره لمواجهة هرتسل وماكس ونورداو.
#مسعد_عربيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، الحل
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، ال
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، ال
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، ال
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة (ال
...
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة (ال
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير … والإبادة، (الح
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا
...
-
المشروع الاستيطاني الصهيوني: بين الترانسفير ... والإبادة، (ا
...
المزيد.....
-
رئيس الوزراء الأسترالي يُقابل بصيحات استهجان خلال مراسم تأبي
...
-
كأس الأمم الأفريقية 2025: المغرب يفوز 2-صفر على جزر القمر في
...
-
أستراليا: الشرطة تؤكد أن مطلقي النار في بونداي تدربا على اله
...
-
بريطانيا تدين مصادقة إسرائيل على بناء 19 مستوطنة بالضفة
-
ألمانيا ترصد تحليق مئات المسيّرات المشبوهة هذا العام فوق منش
...
-
ترامب يُنهي مهام نحو 30 سفيرا تولوا مهامهم في عهد بايدن
-
الشاباك على وسائل التواصل.. استهداف وسيطرة بلباس ناعم
-
هجمات أوكرانية بالمسيرات وتفاؤل بشأن محادثات ميامي
-
مصادر عسكرية إسرائيلية: صمت حماس النسبي بعد اغتيال رائد سعد
...
-
هزيمة للحزب الحاكم بإسبانيا في انتخابات إقليمية وصعود لليمين
...
المزيد.....
-
قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة
/ معتصم حمادة
-
مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني
/ غازي الصوراني
-
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي
...
/ غازي الصوراني
-
بصدد دولة إسرائيل الكبرى
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2
/ سعيد مضيه
-
إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل
/ سعيد مضيه
-
البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية
/ سعيد مضيه
-
فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع
/ سعيد مضيه
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2].
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|